|
قصة قصيرة
بـاحثـة عـن النـورس .. (في عيون أمـرأة شرقيـّة) أحمـد رفـل الخليل منـذ أكـثر من عـام رحـل نورس. رحـل وتركـهـا تبحث في ضياعهـا عن معنى تحسّ به، ولا تحسّ حتـّى بالضياع. ولأن نـورسا كان جزءا منهـا، ولأنـه صار لـهـا الناس جميعـا، فقـد أرتحلت عن نفـسها واغتـربت عن الناس. صلـّت كي تضحـك.. كي تبـكي. لم تعـرف ألى الأحساس دربا. فقـدت القدرة على الأنتمـاء ألى ما حولهـا.. ألى نفسـها .. فقـدت نفسـها منذ أن رحل نـورس. ومـنذ أكـثر من عام وهي تفيـق كل صباح على هـاجس واحـد: أليوم ستجد نـورس. ستلقي بـرأسهـا على كتفـه العـريض وتنام ملء جفـونـها كطفـلة في مهـدها. ستعـود امرأة شرقـيـّـة تحيا بسلام في كنف رجل يرعـاها. خلف المقود كانت تستمع ألى الموسيقى المنبعثة من المذياع ولا تعي منهـا شيئا. كأن الزمن توقــّف في عالمـهـا الأنثوي الغضّ، بينمـا الحياة تمضي خارجه بمتناقضاتها اليوميـّة المتآلفـة، يجمعهـا أطـار صورة تنفـخ فيهـا سرعة الاحداث روحـا. بتلك اللامبالاة التي تقمـّـصتهـا حركاتهـا حوّلت نظـرتها الساهمة من الأشارة الحمـراء ألى مؤخـّـرة رأس السائق الذي تقـدّمهـا في الطابور الطويل. أي سبب خفـيّ أعـاد لهاتين العينيـن ومضة يتيمة من بريقهـا القديم؟ وأي هاتف غريب هجس لهـا أنـّـه نورس الذي طالما بحثت عنه بين الناس حولـها دونما جدوى. ألضـوء أخـضر. أتراها رحلة الألف ميل قد أبتدأت؟ أحسـّـت بخـلجة طالما افتقدتـهـا. وازع غامض يدفعـها خلفـه. لمـاذا يتـّـجه ألى الشاطىء؟ هذا المكان الذي طالما ذرعتـه في مخيّـلتهـا تحلم بنـورس قبل أن تـلـقاه. أشباه أنسام تحمـل رائحة القدّاح تسلـّّـلت خلسـة ألى كيانها المنيع وحملت معهـا صورا. نـورسٌ الحلم، بوجهـه الواثـق في صفـحة المـاء، تتكسّـر الأمواج في رسمـه بتـؤدة. أخذت رائحة القـدّاح تنفـذ ألى روحها لتوقظهـا وتكاد تسكرهـا، ووجـه نورس يتـّـسع في دوائر الموج التي تكبـر حتـّـى تتلاشى. راحت حواسّـها تحاول أن تستيقظ من سباتها الطويل، أحداها توقـظ الأخـرى، لتستجيب لهـذا المزيج العجيب من التفاصيل الصغيرة التي تعطي للحيـاة معنى. ألأنسام النديـّـة التي تلـج من نافذة السيـارة ألى خصلات شعرهـا لتوقظ فيها نشوة غريبـة.. صوت الرذاذ المتطاير من برك المطـر المتجمـّـعة عند مرور السيـّـارات عليهـا. أحسـّـت برعشة تسري في جسدهـا أذ صدح في المذياع صوت كاظم الساهـر يشـدو: (أنثـري شعرك حولي أنثـريه، ومعا آخر ليل العمر نقضي. هكـذا يصبح موتي مدهشـا، عانقيني قبـّـلي عينيّ وامضي). وبمقدار ماكانت تجهـل أية قوّة أثيريـّـة جذبتـها خلف سيّـارة عابرة، أيقنت الآن أن الأمر يتعـدّى مجرّد الصدفة. أحسّت بخلجة أخرى هذه المرّة تسرّبت ألى أعمـاق ذاتـهـا. أنـه يقتادهـا ألى نورس ٍ ألحقـيقة.. ألى حيث ألتقت به يوما وأدركت أنـهـا ستعيش على أنغام صوتـه الهادىء. تردّد صوتـه ليملأ مسامعهـا، فأحسّـت بهـذا الجهاز المستحيل الذي ظـلّ صامتا بين جنبيهـا يخفق بسرعة ، وبدمهـا يغلي في أقنيتـه ليغسل مخادعه ويكوي شرايـيـنه. أنعطـف بسيـّارته فأتاح لهـا أن ترى شبح وجـهه وأن تتبيـّّن ندبة سـمراء أعلى رقبتـه. تملـّكهـا شعور مخيـف بأنـها ألفت هـذه الندبـة يومـا. وانعطفت وراءه بلهفة، هـذه المـرّة لتجـد الطـريق المفتـوح الممتـدّ بين المزارع الخضـراء كمـا تركتـه تمامـا. كأنـما يخشى الزمـن أن يمسّ رهبـة هذا المكـان الذي ينبض بالحـزن، هـذا المكان الذي ملأ أفقـه نورسٌ ألسراب قبل أن ينسحب ويرحل بهـدوء. في أعمـاق صدرهـا أخـذ قلبها يخفق بسرعة ليطرق على أخاديـد عقـلها بين سحاياه. تعـاظمت لهـفتهـا لأن تلقـاه عن قرب وتفـهم منه معـنى هـذه الأحجيـة: أحجـية الحلم والحقيقة والسراب. كي تحكي له قصّـتهـا بعـد رحيـله، قصـّـة العيـون السود التي أضـاعتهـا البسمة حتى جفّ الكحل على جفونهـا الذابـلة وأمست تائهة في بحر من ضياع، شاخصة ألى السماء تبحث عن نورس يدلـّـها على برّ الأمـان. أسرعت صوبه ونبضهـا يتسارع، وقطرات العرق تسيح على جبينهـا الناعم، ويداها ترتجفـان على المقود. وطيف نورس في الماء لا يفارق عقلـها وصوته يزلزل كيانهـا ونظرته الأخيرة تلاحقهـا. أخذت تقترب من سيـّـارته بسرعة مجنونة والمسافة بينهـما تتضاءل. سطع في عينيهـا ضوء شديد من شاحنة مقبلة أدركت في اللحظة الأخيرة أنـها كانت تتـجه صوبـها. أدارت المقـود بسرعة لتتجنبهـا. أصدرت العجلات صريرا مدوّيـا على الأرض وتوقّفت. وللحظـات أجفلت بعـد أن أخذهـا هول الصدمـة. أفاقت ألى رشدها ونظرت أمامـها ألى الطريق الخـالي فأدركت أن نورسا الذي بحثت عنـه لم يكن موجودا. تلاشت صورته وخفت صوته وابتعدت نظرته. ولأوّل مرّة أحسـّت بالدموع تنهمر ساخنة من عينيها السوداوين. تردد صوت كاظم .. (فأذا حـانت صلاة ، فاجمعي بعض دمعي. وتوضـّي. طهر الدمـع ذنـوبي كلـّها، وسقى أرض المحبّــين وأرضي). نظرت في المرآة آخر نظـرة ألى ما مضى. أمسـكت المقـود بيديـن واثقتيـن ومضت بثبـات ألى الأمـام في الطريق الممتد ألى الأفـق اللامنتهـي.
كان
آخـر ما رأتـه في المـرآة عرقـها يمتزج بدموعها على وجنتيهـا ليمسحا آخـر طيف
لنورس ويرسمـا دربـا ألى الندبة السمـراء على رقبتهـا.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |