قصة قصيرة

الســــجينة

وزنة حامد 

اقتادوه آخر هزيع من الليل ... أطفاله في غفوة ... زوجته كانت تودع والدها للعمرة ... تأخرت في تلك الليلة عن المجيء للبيت ... تدرك أن زوجها سيعد لأطفاله العشاء وقد أعلمته عن المبيت في بيت والدها ... نام أكثر من ساعتين بعد أن شاهد مسلسل (رأس غليس) لملم السفرة ... نوم الأطفال ... وحين أغلق الباب كانت الساعة تزحف بتثاقل إلى الثانية بعد منتصف الليل ... أيقظه الرجل ... فتح إحدى عينيه ... تطلع في وجهه هب بهدوء حذر ... امسك الرجل بذراعه ... حملق بعينه قال له: أنت احمد رجب خليل ...؟

: نعم ... ماذا في الأمر ...؟

: ألبس واتبعني أنا في الغرفة الثانية بانتظارك ... تطلع الرجل فيما حوله ... الضوء الأحمر ينغرس في وجه الرجل المعتم عرق متصبب ينحدر من رقبته ... وقف على قدميه باحثاً عن ثيابه لم يرتبك ... سوى شعره ... ارتدى بنطا له وسترته الرجل في انتظاره إلى جواره آخر راح يتطلع في الصور المعلقة على الجدار ... هبط الثلاثة الدرج ... السيارة في جوف الليل أمام الرصيف في الانتظار ... السائق يشعل سيجارته أدار المحرك ... وغابت السيارة ... وكانت آخر صورة يودعها بيته وقد غفت شجرة التوت على حيطانه ... وكيس القمامة ...

كانت الأيام كالحبلى تسير ببطء ورتابة ... الساعات التي كانت تتآكل أمام التغافل تشعره بحذر من أيامه ... كانت أيامه بحيرة تنبض يوماً وراء يوم كأن محرك الزمن نصب عليها فراح يسرق من مياهها للبعيد ... كان يدرك أن تهمته باطلة ... والسبب الذي اقتيد  من اجله لا يعقده في السجن أكثر من ليلة ... وللأسف أصبح له أكثر من شهرين ولم يحدد سبب إتيانه ... وان كانت العصا والجلد والركل وإطفاء السجائر في ثديه تحدد كل منها شارات المكوث الزمن الطويل ... كانت زنزانته تابوتاً تحمله دون تحديد رؤية الصباح أو غيش الليل ... سرقت منه الزمن ... جعلته خارج الحياة ... حولته الى كرة تتقاذفه أرجل الغاضبين عليه ... ولكن حتى الكرة لها مرمى تأوي إليه سواء خاسرة أم رابحة ... ترى هل تطول اللعبة ...؟ والى متى تتحمل الكرة الركل في ملعب لم يحدد فيه قيمة الوقت ...؟؟ ولحساب من هذه المباراة اللاشرعية وما خلفيتها وأي كأس بالانتصار يرتجى وينتظر ...؟ ومرت سنة ... والزنزانة هي هي ... والجلاد هو هو ... والكرة هي هي ... ولكن مع فارق بسيط أن الكرة أصابها الهزال فانكمشت وتقلصت ... وزوجته التي اهتزت لها الحارة من جمالها الساحر وحسدتها كل نساء الحي والجيران كانت لا تنفك عن زيارته وكثيراً مما سهل لها الشرطي الزيارة لجسدها البض وردفها المكور وصدرها البارز بعنفوان مراهقة ساعة القيلولة ... كانت قطعة زبدة فوق رغيف ساخن ... أنفقت الكثير عليه ... باعت أساورها ثلاجتها سجادة يوم عرسها ... اسطوانة الغاز الثانية ... والأيام حبلى ... ولكن بوضع عقيم ... والأولاد تراجعوا عن مقاعد الدرس وكانت السنة الثانية والثالثة ... والأيام ثقيلة محملة بأوجاع على ظهر محدودب .

الليل ألقى عباءته على المدينة

تعرشت العتمة فراغ المكان ...

الستائر تترنح مسدلة على النوافذ ...

أطفاله غطوا في سبات وثير ... كانت وحيدة في سريرها ... تتطلع في المرآة ... هذا النهد الأرعن يثب كأرنب من خلف أوراق كرمة ... الساق مصقولة ربما من عجين أو حليب ممزوجة بالسكر ... وربما كانت الساق من عجين ... شعرها قصاصات ذهبية فرشت الوسادة , فستانها يكشف عن فخذين ملفوفتين  ... تحتاج إلى أصابع طفل لرسم خطوط ودوائر بريئة على مساحة الأنوثة الملتهبة ... تهادت ساعات الحياة الزوجية ... تحسست فخذها ... واستدارت تتحسس ردفها ... آنة زفرت من صدرها ... الناس الليلة كلهم ( ... )  ... إنها ليلة الجمعة وما أجمل رؤية تفتح الورد يوم الجمعة على سرير الربيع الخالد ...

خطر لها خاطر ربما كان خبيثاً ومن يدري كان فكرة مستحسنة او احتجاجاً على مرور عربة الزمن من أمامها دون ان تقلها ولو لمسافة ما ... الم تكن تحلم ان تركب القطار يوماً ولو لساعة ...؟ لمن تهدر هذه الأنوثة ... لمن تبيع عمرها بلا ثمن ... لمن تتفتح الوردة  ... هل الجمال خلق لصحراء الذات البعيدة دون إحساس ...؟ هل الأنوثة خلقت لقتلها خلف الأبواب ... أليس الذهب دائماً يعرض في الواجهات ... ما هي الأشياء التي تغطى وتدفن ...؟ لقد طالت سنين السجن خمس سنوات بماذا كافأها الزمن بهذا الهدر ... غداً ويا لقساوة الغد ... يتهدل الجسد وتغور الأعين ... ويمسخ الجمال وتترهل الأفخاذ يتخشب الشفاه وتستر جل الأنوثة ... فعلى حساب من ...؟ وهل الزمن يرأف بما يحصد ويفني ... ام الحياة تبكي على شيء مهدور  ... أشعلت سيجارتها اعتدلت في جلستها ... تداعت صور الحياة الزوجية أمامها ... تذكرت قصة زنوبيا وهي على مقاعد الدرس ومحاولة القائد الروماني لإغرائها فرفضت ... وتذكرت فلم الزباء كيف قالت عندما أرادت الموت دون الخيانة (( بيدي ولا بيدك )) وقتلت ذاتها ... تداعت الصور بسرعة خاطفة فسمعت بقصة المرأة التي قطعت ثديها كيلا يستهن بها سجان سجن الباستيل في فرنسا ... تذكرت قصصاً كثيرة ... عن امرأة انتظرت خروج زوجها من السجن بعد ثلاث وعشرين سنة وظلت تحمل له الوفاء وقد ركلت  أنوثتها برجل الصبر والانتظار ... ما باعت نفسها ولم تخن ... ولم تطلب الطلاق ... حتى طفلتها التي زارت والدها يومها كانت على صدرها اذا هي اليوم تزور مع زوجها ... أباء الذات اقوى من غرور الأنوثة ... عفة المرأة اصلب من إغوائها وكبريائها اعنف من سقوطها ... فلماذا لا تنتظر خروج زوجها ولو بعد عشر سنوات ... ان الزمن في تاريخ الكرامة سراب وبعد ان يرسم تاركاً شرخاً في الضمير ... نفثت من دخان سيجارتها وراح الدخان في الغرفة يتدور ويتكور بعيداً يرسم هالات في أفق موجع ... لملمت فستانها وصممت على الوفاء متحدية كل إغراءات القناعة الوهمية القادمة من فوق صفحات اللامعقولة ... ولكن شريعة لم تخلق لخنق الروح والأديان سمحت بالزواج وليس بالخيانة ... فلماذا لا تتزوج ...؟ وهل تسجن مع زوجها وان كانت الغرف والزنزانات متباعدة ...؟

عرضت الفكرة على والدها ... الذي سعد وفرح بهذا الخبر ... وكذلك أمها التي كانت توحي  لها وتنهرها احياناً عن السكوت والصبر والانتظار ولرجل أصبح له خمس  سنوات في السجن ومن يدري قد يطول الزمن او قد يموت في السجن أنها الحياة ... فلماذا تموت هذه الإنسانة ...؟ وقررت العائلة تزويجها ... ولكن لمن ... ومن يرضى بزوجة لها أربع أولاد وزوج قابع في السجن ...؟؟؟

وجاء العريس من بين تلا فيف البحث ...

رضي بها ... ومن لا يرضى بهذا الجسد الذي هزم الزمن ...؟

ولكن ما بالها ترددت أمام الموافقة ...؟ إلا يعجبها ...؟ انه وسيم ... أعزب ... وموظف ... وله سيارة ومن عائلة معروفة ...؟ لماذا ترددن بالجواب وظلت منكسة الرأس لا ترى أحدا وحين قدمت فنجان القهوة اهتزت يدها وكادت أن تسقط ... لم ترتعش أو تهتز أو تترنح من الخجل كعادة الفتيات ... لا ... وإنما ...؟

ارتفع صوت والدها في وجهها : ماذا ...؟ إلا توافقين ...؟ الم تطلبي الزواج ...؟ أتخجلين ...؟؟

غمزتها أمها ... إلا أن إباءها كان يصرخ في داخلها ... إن الخيانة ظلام لا يوجد مصباح في العالم لإنارته وهذه خيانة لزوج قابع في سجن ربما كان ظالماً أو مظلوماً فهذا شأن العدالة ... ولكن العدالة لم تأذن لها بالخيانة على أن تتزوج من رجل وهي على ذمة رجل آخر ... لم يخنها زوجها يوماً فلما تخونه بدورها ... وقبل أن تلفظ أمها جملتها هربت ولم تسمع ما تريد أمها رافضة الزواج ... وكاد الأب أن يلج غرفتها لإرغامها على الزواج إلا ان صوت الباب سمع وهرع الطفل الكبير ليفتح الباب وفجأة صرخ : بابا ... بابا .. خرج من السجن .

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com