قصة قصيرة

 

أبو منصور والنصف دينار
 

محمد محارمه

كان يترنح بقامته الطويلة في مجمع الباصات حين بداء البرد القارص يلفح جنبات وجهه عندما وضع يداه في جيوب سترته الرثة وصكها الى صدره في محاولة لاكتساب الدفيء حتى قدوم حافلة النقل التي ستقله الى مكان سكنه ،و قف في نهاية طابور طويل من الناس والذين أخذت أعينهم ترقب حركة الحافلات في المجمع انتظاراً لقدوم الحافلة وقد نفذ صبر بعضهم عندما اخذ يجلس القرفصاء واضع رأسه بين ركبتيه متقياً برد الهواء ساعياً لإراحة نفسه لحين انتهاء هذا الكابوس وقدوم الحافلة .

جعل أبو منصور يتفقد جيب بنطاله للمرة العشرين ليتأكد من وجود النصف دينار الحديدية التي بقيت من راتبه لهذا الشهر وقد ارتسمت على وجهه مظاهر الخوف والخشية من فقدانها كي لا يتعرض لذلك الموقف المحرج مجدداً عندما فقد أجرة الحافلة في نهاية الشهر الماضي وأضحى في موقف تمنى لو أن الأرض انشقت وابتلعته عندما كانت ترمقه نظرات الركاب بالسخرية والاستخفاف .

بدأت مظاهر السكينة والفرح تعلو وجهه عندما لامست أطراف أنامله النصف دينار فلن يتعرض لذلك الموقف مجدداً ، وواصل التعمق بالتفكير والتخطيط لبقية يومه البائس بينما هو يترقب قدوم الحافلة بشغف وقد تداول ذهنه أفكار لابناءه الراقدين في المنزل منتظرين قدومه يحمل بيده ربطة الخبز التي سيشتريها ببقية النصف دينار بعد اقتطاع أجرة الحافلة .

اخذ يدلك جبينه بيده تارة ويحف يداه ببعضهما البعض تارة أخرى للحصول على حرارة تعينه على البرد القارص ، وفي لحظة لطم جبينه العابس عندما تذكر أن الوقود على قيد النفاذ من المنزل أو انه قد نفذ بحلول مساء هذا اليوم ، فظهر وقد أصابه الوهن واللوعة وهو يتخيل أطفاله ولاسيما ذلك المولود الجديد الذي كان ترتيبه السابع بين الأبناء يتجمدون برداً ويتضورون جوعاً .

لاحظ حركة سريعة في طابور المنتظرين ولهفة في أعينهم فأدرك أن الحافلة قادمة ، كانت مسرعة وقد مد مساعد السائق كامل جسده من باب الحافلة مشيراً الى الركاب بالابتعاد عن الطريق والالتزام بالطابور وقد بدى كملك يحمل بيده عصا الأمر والنهي يخضع الجميع لأمره ويخشون غضبه ..... بداء الركاب بالصعود واحداً تلو الأخر برزانة وخشية وأبو منصور يتمتم بشفتاه لاهجاً بالدعاء أن يجد مقعد في هذه الحافلة وإلا سينتظر الحافلة القادمة بعد ساعة على الأقل ..... اخذ يعد الأشخاص الذين يقفون أمامه محاولاً أن يتذكر عدد مقاعد الحافلة ألا انه لم يفلح بذلك، فأخذت عيناه تجوب الحافلة ليرى أن كان هناك من مقعد له.... امتلاءت الحافلة عندما حان دوره للركوب مع بقاء مقعد واحد على زاوية الحافلة الخلفية عندما هرع مسرعاً أليه كالأسد ينقض على فريسته .... ورمى بجسده المثقل على المقعد مخرجاً من جيبه النصف دينار ليدفع الأجرة ...... وقد رمى برأسه الى شباك الحافلة الذي كاد يكون كلوح الجليد وقد بدأ حرارة أنفاسه تنشر البخار على الزجاج الذي يخطه بيده ويرسم أشكال غير مفهومه متاهات وخطوط متداخلة تشبه حياته البائسة ....

أغلق باب الحافلة وبدأت بالمسير عندما اخذ ضجيج المحرك يهز مقعد أبو منصور واخذ تعب نهار يوم كامل ومشقته تثقل الجسد وأخذت همومه تمر أمام عيني أبو منصور كقطار سريع جعلته يرمي برأسه على المقعد مستغرقاً في نوم عميق وقد ضب جسده النحيل الى زاوية حيث كانت تتصاعد حرارة المحرك ودخانه تمنحه ذلك الدفيء الكبير .

وبشكل مفاجئ بداء الشخص الجالس في المقعد الواقع أمام أبو منصور بهزه بلطف واضعاً أطراف أنامله على كتفه...

- أبو منصور ... أبو منصور ... فتح عينيه الذابلتين ونهض فجأة ...قائلاً بدهشة ..

- أبو غسان ؟؟ .. أين أنت يا رجل كيف حالك ؟؟

- بخير، وأنت يا أبو منصور ما هي أخبارك لقد مضت خمسة سنوات أين اختفيت ؟؟

- آه ..... في الدنيا يا أبو غسان في الدنيا .

هز أبو غسان رأسه و اخذ يربت على يد أبو منصور برفق قائلاً بعينين يملئها الإيمان ...

- بعين الله يا أبو منصور ... بعين الله ....

وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث ويقلبان صفحات الماضي بصوت هادئ وتمتمات عابرة بينما يغوص الركاب في سكينة وهدوء ويغرق معظمهم في النوم والبعض الأخر اخرج جهازه الخلوي وبداء يكشف خفاياه ويسبر أسراره .... حتى ارتفاع صوت مساعد سائق الحافلة بصوت أجش ....

- جهز أجرتك وتكون فكه .

كان قد انتهى في تلك اللحظة الحديث بين أبي منصور وأبى غسان .... واشتغل كل منهما بنفسه وبدأ صراع أبو منصور في داخله واخذ يفكر

يجب أن ادفع أجرة أبو غسان .... من العار أن لا أقوم بذلك .... ولكن كيف ... لن يبقى ما يكفي لشراء الخبز

ثم يعاود نفسه بالتفكير .. الخبز ليس مشكلة ..... وماذا يقول عني الرجل .. سأبدو محرجاً أمامه أن لم ادفع .... ولكن الأطفال .. أنهم جياع ... وهم أحوج الى ربطة الخبز من حاجة أبو غسان الى الأجرة .. ولكن ... وكان حاله كذلك يفرك النصف دينار بيده ويشتد به الحال ضنكاً والتفكير تعقيداً ، وكانت خطوات مساعد السائق أشبه بناقوص الموت الذي يقترب منه شيء فشيء ، واخذ يرتقب خطواته بعيني الريبة والخوف وينظر تارة من نافذة الحافلة وقد تمنى في قرارة نفسه أن يكون احد السائرين في الطريق على أقدامهم بعيداً عن هذا الموقف ، وما أن وصل مساعد السائق الى نهاية الحافلة حيث كان يجلس أبو منصور وصديقه القديم حتى اندفع شعور الجود والكرم من داخل أبو منصور وهرع يمد النصف دينار الى مساعد السائق ويقول بصوت واثق لا متردداً ولا وجل ...

- تفضل اثنان لو سمحت ..... نظر أبو غسان الى أبو منصور بإعجاب... وصمت .

وبدأت عيني أبو منصور ترقص فرحاً وتعلوا ثقته بنفسه فكان هذا الموقف حرياً أن ينسيه أبناءه الجياع وقد ضل يمد النصف دينار باتجاه مساعد السائق الذي يلم يلقى له بالاً أو اهتمام ثم التفت أليه على عجل وهو يقول باستخفاف .

- احدهم في الأمام دفع الأجرة عن كلاكما .

وقعت كلماته على سمع أبو منصور كالصاعقة عندما شخصت عيناه دون حراك ... وأخذت كلمات مساعد السائق تحدث صدى متكرر في مخيلته محاولاً أدراك الموقف وتلمس الحال فأرخى بجسده الهزيل الى المقعد صعقاً واخذ يلفظ أنفاسه بصعوبة وقد شد يده على النصف دينار بأكملها ووضع يده بين فخذيه وصكهما وكأنه امتلك الأرض وما عليها .

وبداء ينظر الى أبو غسان الذي لم تظهر عليه أي مظاهر استغراب أو دهشة أو تساؤل عن ذلك الشخص الذي قام بدفع الأجرة وكان أبو منصور يخشى سؤاله عن معرفته بالشخص الذي دفع الأجرة كي لا يعتقد أبو غسان أنه يفكر في موضوع الأجرة ويوليه تلك الأهمية فهو في عينيه أعلى واكبر من ذلك فلم يجد منفذاً ألا تجاهل الأمر وتشكيل وجهه بمظهر طبيعي .. والعودة للاشتغال بنفسه .

توقفت الحافلة ونهض أبو غسان بشكل مسرع يستأذن من أبو منصور واخبره انه على عجل من أمره ونزل الجميع وفرغت الحافلة واخذ أبو منصور يجر جسده المثقل خارج الحافلة ينظر ذات اليمين وذات الشمال لا يجد وجهاً مألوفاً من بين الركاب النازلين من الحافلة ... واخذ يجر خطاه على الشارع عائداً الى منزله متسائلاً .. ترى من دفع الأجرة ؟؟؟

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com