قصة قصيرة

سمفونية للحب

 

نشأت المندوي 

انتشرت العتمة, امتلاء المكان بسكون رهيب، الضوء اليتيم يتسلل خلفي بخفوت ويخترق أجواء الغرفة بملل كاشفاً لوحة الأرقام المعلقة على الحائط ذواللون الغامق، على نفس الجدار صورة لعين بشرية بأوضاع مختلفة، بعضها جميل وبعضها مقرف.

- لا تتحرك، افتح عينيك جيدا.

دون أن يرفع رأسه قالها الطبيب .ناولني منديل ورقي, بينما فتحت يده الأخرى علبة دواء بلاستيكية.

برؤوس أنامله دفع حنكي للخلف، رفعت رأسي فجاء السقف ألابيض الصقيل يواجهني بمروحتة البنيه . كانت تتدلى في الوسط ورويشاتها الخشبية تدور ببطء وميوعه . قطّر في عيناّي فشعرت بلزوجه وغشاوه، حدقتُ بتركيز فارتبكت اذرع المروحة وتموّج جسم الطبيب, صار كشبح فامتزّج لون نظارته السوداء بسواد شعرِه اللماع، مسحُت السائل النازل على الخدين بورق شفاف فيما الحرقة تتصاعد .

-قربّ وجهك, وللأمام انظر.

ردّدها مرتين. دفع أنبوبا أفقيا اسود باتجاه الحدقة فتموضعت نهايتها بين الجفون، انحجب البصُر وراحت التواءات الأوردة تتناثر في مساحة شفافة وتتراءى لي كاانهار زرقاء .

خلف الآلة جلس بصدريتة البيضاء. وجهه المستدق يواجهني بصلابة وشكيمه ،كانت رائحة السكائر الزنخه تتطاير من فمه المزروع تحت شوراب هتلرية الشكل، عبر الانبوب المغروس بين الاجفان تجول في جغرافية عيني يتبحرفيها

طغى لون أصفر في الرؤيه على اطياف الشمس لبرهه ثم توارى , بكبسة زراطفأ الجهاز فعدت لوضعي الطبيعي فعرفت ان الطبيب انتهي

ـ قطرة وقطرتان عند الحاجة.

قالها بجفاف, عدل جلسته . بحركة متقنه سحب جسمه للامام فاندفع الكرسّي المتحرك يسارا صوب الطاولة المقابله وبدوسة قدم اوقفه. من الخزنه اخرج ملفا أزرق ثم ادار زّر المصباح، شعّ نور قوي ملاء فضاء الغرفة مما ولّد حرقة حادة مرة اخرى ،مسحتُ بقايا السائل واكتفيت بالتأمل والانتظار . من جيب صدريته تناول قلما وراح يدوّن ويرسم ويقلٌب أوراقاً , كان الملف يحوي صوراً، ووصفات طبية, وتواقيع مشوهه, ودون أن يلتفت توقف هنيهة, أضاف بصوت أجش:

- حالة عينك غير مستقرة ، وتلزمك كشوفات مستمرة.

 - لكني لم أشكومن ألم, وقبل أن أنهي الجملة.

- تحتاج عناية مركزة ومراجعات دائمة.

تمتم بخفوت متجاهلا سؤالي كمن لم يسمعني ، وارى رأسه خلف طيات الملف منكبا على كتابة بقايا تقريرورائحه فمه النتنه حاضرة بشدة . تيبس ريقي ,تسارع نبضي وشكّي

فنزّت حشرات برأسي تطن بقساوه . قلقت ، . فللمرة الثانية يخبرني بسوء حالتي، في المرة الاولي اخفيتها عن اهلي خوف وصول الخبر لدائرتي فيستبدلوني بعادل الطموح لنيل منصب محاسب لغاية معروفة

 بحرارة مصطنعة تصافحنا . استلمت الوصفه الطبية وخرجت , الممر ضيق بارد ببلاطات مربعة صفراء مطعمة بزهور ارجوانيه اللون ،وجوه شاحبة يسكنها الخوف والتساؤل, تجلس على الجانبين فوق الكراسي المبعثرة, عيون مريضه تنتظر الأمل وتخشى العمى .علب فارغه لادويه ووصفات طبيه ممزقه مرميه بالممر.

الى باب البناية وصلت باستخدام المصعد الكهربائى، في الخارج الطريق الإسفلتي لينا تظلل جانبيه أشجار صنوبر بقاماتها الممشوقة وخضرتها الوارفة. نسيم العصر يبعث إحساسا جياشاً لا تعكره سوى لسعه حرارة متبقية من نهار يوم قائظ.

 ممسكاً بالوصفة الطبية امشي هامسا ماذا يعني الطبيب، أأكون في طريقي للعمى، لا أظن الأمر مزحة اومبالغه هوملزم بقول الحقيقة ،.

اجتزت زحام الارصفة المتراصة اراقب عيون الناس ، البقالة. المتسولين والاطفال والنساء والسكارى كل الثقوب حولي صارت عيون حتى النوافذ الخشبية المعلقه والمطلية باللون الاحمر في تلك الازقه الملتويه تحولت لعيون مموهه تسخر مني وتفتح ضلفتيها كجفنين براقتين وتلتهمني بوحشية ونهم. مررت بمباني بائسه ثمة ملابس تنشر على سطوحها الرثة تعكس حال ساكنيها وتذكرني بالعيون .

 وصلت النهر. فهذا الفارس العملاق يمتد بثقة واتزان في عمق الأرض، تعانق مياهه الغروب بحضن دافئ، فتنعكس موجاته عالياً مولدته نزقًا لونياً تتباهى به الطيور وتناغم الأصيل البهي الساطع، أطفال صغار يتوزعون جوانب النهر قرب الأرصفة بين السيارات يبيعون السكائر والمشروبات الغازية.

سحرني المشهد. كان دجلة على الجرفين ينتظرني وهويغسل خصلات من َشعَر بغداد، انقدت نحوالمتنزه, على إحدى المساطب الخشبية الموزعة بفوضى وإهمال استرحت, أخرجت علبة سكائر, أشعلت واحدة .راقبت دخانها, التراب المهمل أمامي يحارب اللون الأخضر في الطبيعة بزحفة اللا أخلاقي على الحديقة المنسية, فضلات هنا وهناك, بقايا مأكولات وأكياس ورقية تشوه المكان . كنت أفكر بكلام الطبيب

عشاق صغار شغلوا المصطبة القريبه مني ، جلسا سويه, كاد الشاب يلتهم فتاته، يدنومنها تاره ويبتعد اخرى . المسافة بينهما خجولة ، همس بريء وحوار ملتهب ورغبة دفينه بالعناق الممنوع .

تمعنتهما بحذر دون ان ينتبها لي , الاثنان شكلا لوحه حب شرقية تفوح منها صبابة ووجد , الفتاة صامتة تنظر بعيون عطشانه والشاب يستعرض فلسفته بالدنيا, تعينة في ترجمة مشاعره حركة يداه المشعرتين غير عابئ لطنين الذباب وهجمات البرغش ورطوبه الجو. بدأ الغروب يزحف نحوالمكان بطراوة فيما اعتلت الأضواء قامات الأعمدة المتناثرة بين الأشجار.

 نهض العاشقان وغادرا , سارا متقاربين تابعت خطواتهما وقبل ان يصلا الشارع اقتادورجل كفيف يريد الاجتياز بكلتا يديه وعبروا.غاب الثلاثه في زحام الضفه الثانية من الشارع . اخذني المشهد بعيد ولم افق الا على لسعه جمر السيكاره المنسيه بين اصابعي فتلاشت ملامح الطبيب ,تحولت كلماته لفتات خبز تجمعت عليها الأسماك، النهر لبس ثوب زاه فاأمح من الذهن وجه عادل ، وارتفعت في الجوصيحات الخمارة ورائحه المسكوف. على شاطئ دجله تلآلآت حبات الرمل السهرانه والمغسوله باضواء ابونؤاس لتحيل موجات النهر الى سمفونيه حب قادمه . غادرت موضعي جذلا نحوبيتي الذي كان ينتظرني بغير عادته نشرت في مجله افاق مندائية ـ بغداد العدد (11) السنه الرابعه _ ايلول _ 1999 . 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com