قصة قصيرة

رحيــــل

 

محسن الوكيلي

كاتب مغربي

 في الغرفة لا معالم حياة، الأقفاص التي كان يتعهد فيها الطيور هُجرَت مع موج رياح المغيب. حتى الأكواريوم التي طالما تفاخر بها، تلك التي أهداه إياها عمه عماد عند تخرجه من كلية الآداب، هي الأخرى سقط سمكها طافيا فوق ماء تدنس...

 لا شيء غير دقات الساعة الحائطية المنهكة تجدف بإجهاد نحولحظة الصفر.

 "ما عدتُ أحتمل يا أمي، أضعت كرامتي على الأرصفة ولمَْ يتبقَ في ذاكرتي غيرك ولهفة رحيل"

 لا شيء.. غير صدى آخر الرصاصات التي لمْ تخطئ هدفها، لا زال يحتفظ بالألم وأوجاع الذكرى.

 لا شيء...

 ربما أضاع كرامته وهويناور لأجل الدقيق والسكر، ربما.. مع الكرامة كان يفقد الإحساس بالنخوة واعتزازه بالأنا والأرض، ربما...

 ومن منكم يستطيع أن يقول إن الخبز لا يقتل الكرامة، من؟

حتى أنا ضجرت من كلماتكم، سئمت ألفاظ المثقفين ، سئمت أحلامهم وهزائمكم ونفسي.

 ماذا بعد الوطن؟

 "ماذا بعد الكرامة يا أمي؟"

الرقاص بطيئا يتحرك. لا شيء بالجوار، الليل الوديع يحط كجيش هُزم ولم يعُد له غير الرايات البيض، والبرد كنزيف الحروف يرسم خرائط آلام ونكبة، ومن النافذة الوضيعة يتسلل اللون الأسود...

 هوقلب الليل إذن يواصل التخلص من خفقان الهزيع يحث نحوالمجهول..

 من قال إن فجر الشرق يأتي بنور الصباح؟ من قال إن هزائم الليل تبشر بطلائع النهار؟

 أمس، وهويكافح الجوعَ على ناصية طريق، كان المطر ينزل كالشكوى وكان البؤس الطافح من عينيه يجفف الأرض من آخر قطرات الأمل، صادروا عربة الخضار ثم ألقوه من المخفر إلى الشارع.

قيل له:

 ـ إن عدت عدنا.

 كان جسده باردا وأصابع يديه ورجليه متجمدتين.

 " فقدتُ رغبة العيش يا أمي وما عدت أحتمل ذل الرغيف"

 رتب كل شيء، أحكم إغلاق الباب ووضع الكرسي الذي قضى عليه ليالي الدراسة على الطاولة حتى يكون أبعد من الأرض بما يلزم.

" لا تحزني يا أمي، سأظل جوارك دون أن أكون مرغما على أكل رغيف مسموم، لا تحزني.."

أخذ قراره، ألقى النظرات الأخيرة على الهنا، تذكر اللحظات الحلوة التي عاشها، القبلة التي ظفر بها من خد حسناء وهويحصد أعلى العلامات في أول دورة جامعية، وصورة ماضِ باسمة تلاشت وأحلام المستقبل الواعد. أخذ نفسا عميقا ثم أغمض عينيه.

الفجر.. ضجت السماء بتكبيرات المآذن، وقفز ضوء خافت، جهة الشرق، فوق أسطح المنازل..

 "من يعيد بغداد لذاكرتها، وللأسوار ماضيها، من.. يا ولدي"

صوت كلثوم، نبراتها عادت لتترك على لسانه طَعم حليب ثديها، وزقزقة عصفور عاد، على النافذة...

فتح عينيه، الأسماك في الأكواريوم لا زالت تتحرك، لم تمت بعد، تقاوم الماء العكر والحرمان، ومن بعيد بدت الحياة عنيدة تقاوم متسلقة خيوط الفجر.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com