قصة قصيرة

فارس من الكوفة

 

رحيم الحلي

دروب الفاصلة بين الاشجار، متخذاً قرص الشمس دليلاً في مسيرتي، فأنا غريب على هذه البساتين، لكن هذه الاشجار الخضراء تغريني في النظر اليها، وهي تتزاحم في مد اغصانها، انها ساحرةُ حقاً في قدرتها على إطفاء حزني .

حين خرجتلا ادري كيف التقينا هل صدفة ام قدر محتوم، حين خرجت صباحاً من بيتي الطيني، اقطع ال من لجة الاشجار المكتظة، وانكشف ضوء الشمس حاداً في هذا الوقت الصيفي، اكتشفت مأذنة قديمة مربعة الشكل، وقبة تساقطت اجزاء كثيرة من قشرتها، لابد انها تعود لأحد ائمة الصوفية هكذا ظننت في البداية، اجتزتُ السياج الطيني المحيط بالطرف الجنوبي للمقام، فتحتُ الباب الخشبي الاخضر، واقتربتُ من القفص الحديدي للضريح الذي انبعث منه ضوءاً اخضراً، قرأت اللوح المعلق على الضريح، حلقتُ معه في فضاءات التاريخ البعيدة، ادخل الهدوء الى روحي الهائمة ونفسي المضطربة، اه انه فارس كوفي شجاع ثابت الجنان لم يتقلب تقلب الزمان، ولم يتبدل تبدل المكان، بذل روحه وفاءاً لعهده،اه لقد اجتمعنا اخيراً رغم اختلاف الطريق، وفارق الزمان لكننا التقينا، صحيح انا لست نداً لك، فبطولتك عظيمة وظرفك اصعب، فأنت فارس معروف ومن وجهاء قومك، اما انا فشاب صغير رفضت ان اطيع الطاغية في احدى حماقاته وتحديت سلطته الجائرة الفاسدة، لم اتخلى عن اصحابي وحافظت على عهدي معهم، سيدي انا من ربعك، انت من اهلي ومن ديرتي ونحن غريبين هنا، وكما قال الشاعر ان الغريب للغريب نسيب، اذن نحن انسباء انتسبنا الى تلك المجموعة التي حافظت على عقدها، سنلتقي كثيراً، سأكلمك من وراء الضريح، ثم مضت الساعات وانا اقفُ امسك بالضريح، حين حَضَرَ اعرابي لم يؤدي مراسم زيارة الضريح اقترب مني أخذ يتفحصني، وراح يدور حول الضريح، يتأملني يجول ببصره يتنقل بين راسي واطرافي، حتى اذا جاء الليل قال لي :

- اذا احببت ان تنام في المقام وتكمل مناجاتك، فهناك غرفة صغيرة فيها بطانيات وموقد صغير، وهناك طعام خلَّفَهُ الزائرون، لكن لاتفتح الباب الخارجي حتى لو سمعت طرقاً عليه، واياك ان تعمل نفسك ممسوساً وتأخذ مالاً من الزائرين، ابقى ماشئت في الضريح، واكمل حديثك مع صاحبه، وتصبح على خير .

في المساء بقيت لوحدي في المقام بعد ان اغلق الخادم الباب الخارجي سمعت صوت المزلاج والقفل المنغلق، خرجت الى الغرفة الصغيرة، كان هناك طبَّاخ غازي صغير وابريق شاي كبير، وعلبة زهرية اللون احتوت على السكر واخرى سوداء محكمة الاغلاق احتوت على اوراق الشاي، كان هناك طعاماً متروكاً هي قطع من العجين المحمص بالزيت والزعتر، اكلتُ قليلاً منه، ثم عدتُ الى صاحبي الذي استغنى عن طعامنا منذ قرون عديدة، وبيدي ابريق الشاي الساخن وكأسين من الشاي فوق صينية صغيرة، ابتدأتُ الحديث :

 سيدي ليس لي صديق غيرك في هذه البقعة، اريد ان احدثك عن قصتي بعد ان قرأت قصتك المكتوبة هنا على الضريح، انا خرجت على الطاغية ورفضت جوره وحافظت على عهدي مع اخوتي الذين عملت واياهم لتحسين حياة الناس .

 وبعد صمتٍ قليل، سمعت صوتاً يخرج من الضريح شعرتُ بخوفٍ شديد، جلتُ برأسي في اطراف المكان، الصمت والسكون يخيمان على المكان، وددتُ لوهربتُ تَسللتْ الى روحي وساوس وافكار لاتمتْ الى قدسية المكان، لكني خجلت واعتذرت من ضعفي، فكيف لي ان اقلق بحضرة هذا الشهيد الشجاع، حدثني الصوت القادم من خلف الضريح قائلاً :

_  تكلم يابني .

_  سيدي اريد ان اعود الى وطني فانا سجين الغربة متى سأعود ؟.

 اجابني :

_  ستعود لكنك سترجع حزيناً اكثر من أي وقت مضى .

_  لماذا سيدي ؟

_  لانك ستكتشف زيف الكثيرين وغدرهم وانحدارهم فقد اغرتهم الدنيا وباعوا انفسهم الى شياطينها، وسيظلمك  الاقربون، وان ظلم ذوي القربى اشد مضاضة ياولدي، اشرب الشاي ياولدي فقد برد، بعد لحظات من الصمت اكمل حديثه :

_ ستعود حزينا ياولدي، حين تكتشف حجم الكذب، ومدى إنحدار من تحب في مهاوي الضياع، ستُصْدَمْ ياولدي، فقد هوى عمود بيتك وتساقطت جدرانه، ربما كانت الغربة طلقة الرحمة ياولدي، ثم اردف قائلاً :

 _ اما اصحابك فقد باعوا كتبهم، وسكتَ الشعراء، لهذا سيجوع الفقراء اكثر، وسيتغَّرب الشرفاء في وطنهم، وسيبدل النفاق راياته، وتنتقل التيجان الى الملوك الجدد، ويستمر التصفيق، وتستمر المسرحية بعد ان انتهى فصلها الاول، وسيهلهل الجياع المنشغلون في حكايات جداتهم، النائمين في حلمهم الطويل، وحين يستيقظون سيندبون حظهم ويلطمون صدورهم وسيعلقون خيباتهم على شماعة الاقدار .

احسست ان يداً توقظني برفق، فتحت عيناي إذ خادم الضريح يوقظني وابتسامة حنونة ارتسمت على وجهه الاسمر، كان رجلاً في الخمسين من العمر، وضع العقال الكوفي على رأسه، واذا بعدد من الزائرين وقفوا بباب الضريح، وجدت نفسي ممداً جنب الضريح .

قال خادم الجامع

: اوه يابني يبدوا انك سهرت كثيراً، فقد غططت في نوم عميق، ظننتك ميتاً .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com