قصة قصيرة

أجمل كذبة

         

علي موسى حسين

 قررت أن أدخل باسم الجنس الآخر، لأجل ثرثرة، أو مداعبة، أو لقراءة أشيائنا الغامضة على النساء. اخترت اسما أخذته من ماء الورد وخلطته مع ماء الحياة, فنضح فيه الحب, وصار أجمل من عشتار.

جذبني أسم رائع النكهة, رقيق الانسياب . فتحت نافذتي اليه، ففتح بابه بتحفظ ووقار. هزتني بدايته التي كانت ترتقي الى مستوى مناقشة انسان الى إنسان, فرميت جانبا سلة تلك الأفكار المهملة التي كنت أنوي أن ارميها بألئك الشباب المتسكعين في شوارع الانترنت, وفي الساعات المتأخرة من الليل. فأعطيته باقة ورد، وتذكرت بأنني امرأة لابد أن يلفني وشاح احتشام ونقاء.

كانت نيتي أن يكون خطابي معه لزمن محدود، ولمساحة معرفة الحدود, وأنهي خلاصة حديثي بفتح أوراقي, أو ربما أدسها برزمة من ملفات حياتي التي بنى عليها الغبار تعرجات الزمن وتضاريس التردد والإهمال, لكن الخطاب الذي بدأت أقرأه, والحديث الذي صرت أتذوقه، فتح لياقة تقبلي. فالذي تعرفت عليه لم يكن من الديدان العلقة, أو من الهاربين خارج مديات عقولهم, أو الذين يركضون دون تحفظ وراء سراب. بل رأيته واثق الخطوة شديد الاتضاح في المبادرة والمناقشة, وتبادل الرؤى. لكنه محكم الغلق على أساسياته, قوي الثبات في تجذره، لطيف النسائم، سهل الرياح . فكانت شخصية رجولته كبطل راو يريد أن يكون هكذا، وشفافية آرائه، كمن درس شخصية النساء, فعرف المعتمة من الواضحة, وتمكنت ريشته كيف ترتقي وكيف تهبط في لوحته الزيتية.

كأنني صدقت بأكذوبتي فاستعذبني كثيرا هذا الفتى وحين تذكرت شهادة الزور على نفسي أضحكتني نتائج مقالبي لكن رحت أدقق بنفسي لأستعين في حياتي بهذه الرجولة الرائعة، وأكون قد حزت على نادرة في عالم الأنثى. لكن مع هذا استعذبت هذا الفضول. فمضيت قدما, وأنا ابحث في عالم النساء لأقدمها بطبق غير ملوث ليتقبل أنثاه . وهو يتقدم بأعظم ما رأيته من رجل الى امرأة بأسطر نقية مذكاة واضحة البيان.

.. لا أدري كيف تعمقت بإغراء هذا الرجل بخطابي وأفكاري وصورة الأنثى التي حملتها له. وقد كنت أحيد عن كشف صورتي وصوتي إليه. وقد سألت نفسي :

ـ إنه لم يطلب مني هذا ..

لم أصل الى لأسباب .

ـ هل هي احترامات متبادلة ؟ أم ان الكتابات تغني ؟ أم له رأي آخر؟

لقد عاتبت نفسي كثيرا على هذا التقصي لأعماقه، والتجذر بهذه الكذبة المفعمة بالأحداث، والتي من المتوقع أن تحدث شرخا كبيرا في حياة هذا الرجل.

ولا أدري : لماذا كلما أردت أن أضع نقطة وقوف لكلامي معه، يتغير الخطاب، وتنزل علامات تعجب. فليتني أستطيع أن أكشف دوري, ولأرجع الى حقيقتي، وأعمل المستحيل الذي سوف لا يصدقه,وأخلع ردائي الذي أغويته فيه . لكنني عدوت الخطى لألغي التراجع والاستثناء:

قلت : سأتخطى الحاجز الذي أخشاه ولأرى النتائج الى أين تؤول:

ـ أريد أن أرى صورتَكَ.

قرأت منه ابتسامة واضحة، لكنه قال :

ـ أنا أطمع بلقائكِ .. هل توافقين ؟

غرقت في صمت، وفقدت قدرة الإبحار به . وفكرت :

ـ ما هو رد فعله كرجل، وقد انقلبت امرأة أحلامه الى رجل مثله.

ثم أكملت مفكرا :

ـ سأحاول أن أراه بصورة أخرى, دون أن يعلم بي . بعد ذلك أحدد موقفي، وأبحث عن منقذ.

وافقت مترددا مضغوطا في زاوية حادة تقترب من الصفر . كان زمن اللقاء ومسافته داخل سيطرتي الزمانية والمكانية . وكان انتظاري مساءً في مكان هادئ, وقد انحرجت لقلة من يستمتع بهذا المتنزه.لكن أخذت أسلي نفسي باستقراء من حولي :

شابان حالمان في زاوية بعيدة ..

رجل متوحد غارق في أفكاره ..

خميلة متفتحة الأوراد تنتظر من يستنشق من عبيرها..

وفجأة  جاءت فتاة جميلة. إنها فريدة الجمال والأناقة. سلبت كل أنظاري وتعلقت بها, فرجعت الى حقيقتي وقد نسيت كذبتي التي جئت بها لكنني كنت أقرأ في عينيها وحركاتها : إنها تبحث أو تنتظر شخصا هنا. وقد رأيتها تمر عليّ بعينيها ذهابا وإيابا.

توقفت قليلا وقلت مفكرا :

ـ إن هذه خير منقذ . عندما يأتي صديقي ليرى فتاته، سيقرأني بهذه الغيداء المضغوطة بالشباب والجمال الفريد.

كنت ألتف بأقصى سرعة بين ذاكرة اللقاء وهذه الصورة الناصعة البياض. فتختلجني فوضى تتصادم داخل رأسي وتؤشر على كذبتين ..

ركزت نظري عليها, مبتسما لتقرأ ذهولي واعجابي الشديدين بها, فاقتربت مني وسألتني دون تردد.

ـ كم الوقت إن سمحت ؟

أجبتها عن اسمي وأنا مضطرب فاقد التركيز.

ابتسمت.. فأغمضت عيني لأحتويها. دعوتها للحديث, فاعتذرت, وابتعدت, وقد عجبت من سرعة اختفائها.

لقد أصابني الهيام. فرجعت أبحث في مكانها, وكأنها اختفت هنا. لم أعثر على شيء سوى منديل أبيض. طويته سريعا, ودسسته في جيبي حتى لا يختفي هو الآخر كصاحبته.

رجعت الى البيت وصورة تلك الفتاة تلاحقني وقد علق قلبي بخيط رقيق على أناملها أنظر إليه أخشى أن تنفضه من أصابعها لتمسك ذراع غيري أو تلبس خاتم خطوبة كانت قد أخفته في حقيبتها, وقد قررت أن أغلق تلك نافذتي بعد أن همت شوقا بتلك الفتاة.. لكن عدت بعد إسترخاء قليل لأفتحها من جديد. فرأيت رسالة من صديقي الذي أحاول جاهدا أن أبتعد عنه .. رسالة غريبة من كلمتين فقط :

( أجمل كذبة !! ؟؟ )

لم أعرف معنى ذلك . لكنني ذهلت, وفتحت يدي وفمي، وقمت من مكاني مستغيثا متعجبا, وأنا أقرا في المنديل هاتين الكلمتين:

( أجمل كذبة !!؟؟ ) ... 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com