قصة قصيرة

عناق تحت البيرق

علي موسى حسين

 رزمنا ذخيرة الهجوم،منغمسين في الثأر كأطفال تشد أحزمة السفر, وعبأنا أوداجنا بالحناجر, بعد أن عبأنا بنادقنا لتتجه أفواهها نحو أبناء عمومتنا ونحن نتهمهم بالاستحواذ على الأرض القريبة من النهر، ورمي الأرض الغاربة علينا. ومن الأكيد أن الدماء ستسيل، والأرض لا تجرأ أن تشربها لتحال إلى يباب ورمال, لا تزورها إلاّ غرابيب سود, تصفق لها أيادٍ خفية، فنقف حيارى, وأيدينا تتألم بين أسناننا.

لقد رفضت تلك المشاجرة المنهكة مع فوضى التفكير الذي مجّ ماؤه، فجاء قرار الجلاء يقطع أغصان العشيرة, ويسحق أوراق العهد، ويعيد همج العصبية يسقى بماء الغضب, لتشد أحزمة الرحيل حمقاء غير آبهة كعادة متبعة لأخذ الثأر, فالنتائج لا تأتي بأقل من قطع أياد ٍ وإسالة دماء, وقد كنا نضع الأصابع في الأسماع، فيرتد صوت الأخوة خائبا ويختزن الحقد، ونحن ندرك أن يدا خفية من تحت الظلام تسربت لتتسلل من خارج أسوار العشيرة تقضم حبل القرابة والرحم، وتنفخ على جمر العداوة والكره ليحتدم الصراع ويسيل الغضب، ليغلق زيته منافذ العقل. وتستدير من وراء الضياء تبرم عقد المشاكل فيشد بها زفير العداوة يزأر حد تأهب الأصابع نحو الزناد, ربما القدر أخطأ مرات بتأجيل اشتعالها، لكنها إن اتقدت ستأكل ما زرع وما أدخر، بل كل شيء وما أبشعه من منظر. لقد رفضت عقلي أن يحتل ذاتي الهائجة وبقيت أتخبط في هول اضطراب كأجنحة بين مخالب إعصار مجنون :

ـ كيف أثأر لنفسي وأخوتي من أبناء عمومتي، وأنفذ خطة الانتقام التي دست في جيبي .. دون أن أدرس مبدأها وغايتها أو أقرأها أو أدقق النظر فيها .

كانت ليلة عاصفة ممطرة عندما قررنا الهجوم، وكان ذلك يساعدنا في الاختفاء والتسلل ليمكننا من إسالة دماء بحيز أكبر, فهو كأس الفوز لذروة الحمق مع اشتداد الغضب, وكوثيقة تدون بإنزال أقسى فاجعة ..

وزعت المواضع على أخوتي بعد أن جهزنا فتيل النار لينتظر إشارة التوقد. وعلمتهم خطة الهجوم لنشرب دم من سرق أرضنا ومياهنا .

صرخات الأعراف والتقاليد تستغيث وراءنا، نلتفت لها, لكن لا يصل صوتها الى قلوب غلفها صدأ الكره والغضب, وحيز الوقت ضاقت مساحته يتقافز أمام قرارات بصناديق عبئت وختمت وكذا العقول معطلة مغلقة.

طلبت منهم المكوث هنا لأستطلع الطريق, ولنهجم بعد انتصاف الليل, بعد أن يتسلق النعاس فوق الجفون، ويسكب الظلام حول البيوت، وتنام الفناجين على قماقم الدلال.

قسوة الطقس البارد والأمطار التي لم ينقطع جريانها كان غطاءاً آخر نلتحف به لغزوتنا. اقتربت من القرية، وقررت التوغل الى العمق, لكن أثارني مشهد قرأته بلغة صادقة, كلماته نفدت لتدق إسفين عقلي بمطرقة إثارة وانتباه، صعقت له كل عروقي، لتستفيق من سبات كان قد جمدني في أنابيب تحت درجة الغباء المطلق:

ـ علم القرية قد هوى مع ساريته وتلطخ بالطين والوحل، العلم الذي ركزه أجدادنا علامة على شموخ العشيرة, وصوتا ناطقا بوجه العشائر التي تخول نفسها بالاعتداء والاستيلاء على أرضنا وأهلنا.

رميت بندقيتي مذهولا, وخلعت نعليَّ لقدسيته عندي, وهويت بنفسي عليه هائما. مسحت الوحل والطين من جبهته، وتألمت كثيرا, وكأن قريتنا قد أسقطتها القرى المعادية التي تكن لها العداء الأزلي، قبلته وأرجعته الى شموخه ودموعي تسيل بغزارة, وقد حركتني قوى خارج حدودي العقلية كأنها قد سرت منه الى كل كياني، خلعت مني رداءاً قبيحا لم أكن أحس به . كنت أنظر فيه غروري وكبريائي وصورا مزيفة كانت تلصق عليه تخفي تحته وجها قبيحا . تجمّلني, وترفعني بفراغ كاذب دون أن أستقر. نظرت إليه بعد أن تجرد إلاّ من هيكله .. فالبرد شقق جلدته السوداء وتسرب إليه المطر، ليكشف وجهه الكاذب، فيضطرب من حقيقته حتى ظلام الليل .

تصارعت متناقضات خارج قواي العقلية التي استفاقت نصفيا وأنا أحاول أن أدفع أغطية الكسل وأقطع حبال الغضب فازدحمت الثواني القليلة التي لم يحملها العقل، وهي تضغط على رأسي, فأكاد أن أتفجر، لكن أحس بمن يقلل هذه الصعقات فان شيئا من شحناتها يتسرب من رجلي .. تأخذه الأرض، ومن يدي التي لازالت تمسك البيرق. إنهما الوحيدان اللذان يقللان من شد ّ فوضوي يكاد أن يقطعني. وقد رأيت شيئا كان نائما في داخلي ينتهض، يبصق على تلك الأيادي الخفية التي تريد أن تهشم ساعدي وتبعد البيرق من يدي، وقد تذكرت أخوتي، إنهم في انتظاري. لكن لم أميز :

ـ أهم الذين أهجم بهم ؟ أم الذين أهجم عليهم ؟

لقد رأيتهما .. الاثنان يهرولان إليّ ..

.. دقائق أحس بها، إنها من مكوني الأصلي, لكن لم أجرأ على مسكها، خجل منها, وقد صرت أنظر إليها من نافذة تفكير يريد أن يقرأ .. ولم أزل أتصارع مع أشياء لم تستقر, كقطرات المطر على راحة يدي تهرب من لاحقتها، لأرى بوضوح حقيقتها .. وإذا بصوت هيكل بندقية يرن فوق بندقيتي بل كأنه رن فوق رأسي ..

ارتجفت .. لم يكن الخوف قد أرجفني, لكن سراً كنت أحاول فتح رموزه وأنا أشبك خيوطه بيديّ المرتعشتين. لقد هزني بعنف، أصابني الذهول, وأنا أرى البندقية المرصعة بالجواهر، بندقية الشيخ, ورمز العشيرة، والتي تعد تراثا من أجدادنا، ترمى على الأرض، وكأن البيرق قد هوى فوقها.

انحنيت عليها بألم وخوف من نفسي المتخلخلة:

ـ كيف تجرأ وتمسكها, وهي تعني في العشيرة الشيء الكثير, بندقية لم تطلق رصاصة على أبناء قريتنا قط، ليس اليوم ولا أيام سبقت. البندقية الوحيدة التي كانت في القرية قبل أكثر من مئة سنة، وهي التي أرجعت هيبة العشيرة أمام الآخرين، وحافظت على أرضها من السراق ..

.. أراها ترمى على بندقية هزيلة, جاءتني هدية خبيثة من عشيرة كانت قد أطلقت رصاصاتها على أهلي في أيام كثيرة ..

مسكتها برهبة وارتجاف, وعقصت عقالي على رقبتي, وسحبت اليشماغ لأمسح الطين عنها, لكنني نكست رأسي وأنا أرى شيخ العشيرة، الرجل الكبير المسن يقف حاسر الرأس وحده في غلس الليل، والأمطار تتقاذف على رأسه المشيب, مجرد من السلاح .

سقطت دموعي على البندقية لتزيل بقايا الطين منها، رفعتها وركبتاي تنخران الطين ترتجفان فدماء العشيرة تحركت بهما، لأرجعها الى شيخ العشيرة، وقد نسيت كل ما كان عندي .. تجرأت ونظرت إليه, فرأيت الدموع والابتسامة معا في عينيه .. مد يده .. وأرجع عقالي الى رأسي، وسحبني من يدي. فقمت، وبندقيته على ذراعيّ أحملها بهيبة, فضمني إلى صدره وهو يبكي.

أحسست أن كتل من الغضب والكره تنصهر وتكويني سخونتها أنسلخ منها ومن أشياء غريبة كانت تحيط بي، وقد بدأ المطر يغسل أوساخا كانت تتجمد فوق عيني وتغلق صدري، وتتسرب كل شحنات البغض والكراهية بين يديه وأنا أحمل البندقية بخشية وارتباك . ناولتها له, فدفعها إليّ وقال:

ـ البندقية لا ترجع الى العشيرة إلاّ ومعك أخوتك ..

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com