قصة قصيرة

عربة الاغاني

رحيم الحلي

 

الهواء شديد الحرارة في هذه الساعة من ظهيرة تموز، راح ابو ذر يتأمل الافق بينما كان يدفع عربته الصغيرة التي زينها بصور بعض المطربين وبصورة كبيرة لداخل حسن غَطَّت واجهة العربة التي استقرت على اربعة دواليب من تلك التي تستخدم في الدراجات الهوائية، وعلى ظهر العربة تناثرت اشرطة الكاسيت وأقراص السيدي التي حرص على صَفِّها كلما توقف قليلاً لالتقاط انفاسه، في حين اطلقت مكروفونات المسجلة التي وزعها في الجهات الاربع للعربة، اغنيته المحببة غريبة الروح التي راح يعيدها مرات عديدة، فقد هَيَّجتْ ذكرياته الحزينة واوجاعة وفواجعة وصدمته حين عاد الى وطنه بعد فراق طويل فوجد الخراب والبلاء منتشراً كالطاعون، فقد اتلفت المحنة وجوه احبته وتشوهت الى حدٍ لم يستطع رؤيتها، اما داره فقد امست يباباً منثوراً، تسرح فيه الغربان والجرذان فوق اكوام من الازبال المتراكمة، فإنهار باكياً مصراً على صوره المحفوظة في ذاكرته متناسياً ما رأى فأدار ظهره ومشى هائماً في غربته من جديد .

قرر ان يستريح قرب قناة الماء الاسمنتية التي ارتفعت فوق الارض وسارت مثل افعى رمادية تتسلل مابين اشجار الجوز والمشمش والدراق، احدى شجرات الخوخ مدَّت احدى اغصانها فوق الطريق الاسفلتي الضيق الذي امتد بمحاذاة القناة مثل ثعبان اسود اقترب من خليلته .

وضع عربته قرب جدار القناة الاسمنتي واخرج قطعة كرتون كبيرة احتفظ بها في صندوق عربته كي يستلقي عليها حين يهده التعب، الجدار عمل ظلاً حاداً حاول ان يحتمي خلفه من لهب الشمس الحارق، بينما حاول ان يأخذ اغفاءة قصيرة، اذا بولدٍ صغير يناديه :

- ابو ذر تعال لعندنا نريد ان نشتري بعض الاشرطة .

- من انتم ياولد ؟

- انا ابن المغنية لميا وبيتنا خلف القناية عند المنشرة وأوصتني امي حين اراك ان اتي بك الى بيتنا .

- حسناً حبيبي انتظرني او تعال ساعدني كي ندفع العربة فوق الجسر .

الجسر انحنى فوق القناة لتعبر السيارات والمارة فوق ظهره الاحدب، أخذ ابو ذر يلهث وهو يدفع العربة نحو قمة الجسر كي ينعطف بها يساراً صوب المنشرة التي يعرفها جيداً حيث يشتري بعض العمال المنحدرين من الارياف الشمالية بعض اشرطته، دقات قلبه المتسارعة تضرب في صدره كطبل مضطرب، هل هو متعب اليوم كثيراً ام انها سنوات عمره التي اخذت تذوي مثل شمعة مذعورة تواجه الريح ؟ انها الخمسون ياصاحبي لم تعد شاباً لقد انهكتك الغربة وصدمات العمر .

- ادفع يا ابو ذر لاتتراجع، هكذا كان ابو ذر يحدث نفسه فيما راح الولد يحاول ان يسمع همهماته .

- مع من تتحدث ياعمو ؟

- مع نفسي ياعمو لاتكترث .

حين اقترب من البيت، وضع عربته  قُبالة البيت، فبيوت العاملين التي رحلت مع اسرها بحثاً عن العمل بالاجرة، صُنِعَتْ من الاكياس المهترئة لكن ايادي النساء الصابرة صنعت منها سقوفاً وجدراناً، عند الستار الذي كان بمثابة باب للبيت اطلق صوته منادياً اهل البيت ومعلناً حضوره، خرجت امراة في الاربعين من عمرها، بوجه شاحب جميل، اضرت به تجاعيد الزمن الرديء لامرأة تعيش في عالمٍ يعاملها بازدراء كخادمةٍ او جاريةٍ او كلاهما، ابتسمت بوجهه مرحبة :

- أهلا ابو ذر تفضل .

جلس ابو ذر على فراشٍ متهالك التصق بالارض لرقته، واسند يده على مخدة قاسية صُنعت من القش :

هؤلاء الفقراء وهذا اثاثهم البسيط الذي لايوفر لهم الراحة، هؤلاء هم احبتنا واصدقائنا، لن تفتح  فيلات الاغنياء ابوابها لنا، هكذا قال ابو ذر مع نفسه، فيما نظر الى المطربة لميا التي احبت الغناء وسمعها تغني في الحفلات الشعبية برفقة زوجها، خشيةً عليها من تحرشات بعض الطائشين، انها في اربعينات عمرها وبملامح سمراء عربية تحتفظ بوسامة امتصها العمر المضني واستهلكها مبكراً، لكن صوتها مازال جميلاً يحافظ على عذوبته، وتحفظ كثيراً من الاغاني الجميلة التي تذكر ابو ذر بأحبته .

غني يالميا ان الصوت الحي اجمل من ذلك المختزن في الاشرطة .

- لكن ليس قبل ان تشرب الشاي، اه يا ابو ذر قليلون اولئك الذين يحبون الغناء بطريقتك لا ادري هل هي الغربة التي جعلت منك انسانا طيباً بهذا الشكل ؟  فعندما اغني ينظر الرجال الى جسدي، فصوتي يحرك الغرائز عندهم اما عندك فيحرك القلب والعيون .

- لميا لاتشكي زمنك فكلنا في الهوى  سَوا، غني لي غريبة الروح لحسين نعمة انك تجيديها حقاً  .

- لا اريد ان ابكيك يا ابو ذر كفاك حزناً .

- غني يالميا ان الاغاني تصنع الفرح انها تطفيء الاحزان بعد ان تهيجها، فالنار ستنطفيء بعد ان يرتفع لهيبها .

هذه المرة رفضت طلبه لم ترغب ان تحرك منقلة احزانه وتنبش جمراتها، سكبت له الشاي من ابريق يحفظ الحراراة، لم يكن الشاي ساخناً كان حلواً كالقطر واسوداً كالقطران مذكراً اياه بزمنه القطراني، احمرت عيناه الدامعة حين تذكَّر طعم الشاي في مدينته البعيدة، لكن الدموع تحجرت في زوايا العين رافضةً النزول ثم راح يغني بصوت مبحوح :

غريبة الروح

لاطيفك يمر بيهة

ولاديرة تلفيهة

غدت ويليل هجرانك ترد وتروح

عذبهه الجفة وتاهت حمامة دوح

صمتت لميا بعد ان ابكاها غنائه وهي تتأمل احزانه

-          ابو ذر من منا ظلمه الزمن اكثر؟

-          كلانا يالميا .

دفع عربته بعد ان اعطاها بعض الاشرطة شاكراً دعوتها له بالبقاء وتناول الطعام، رفع عينيه صوب الاشجار التي اعتاد ان يُودِعَها احزانه وبعض اوجاعه حين يسند ظهره على جذعها، وهو يغني او يتحدث او حين يستمع للاغاني وهي تخرج من عربته او حين يلتقط بعض ماتنثر على الارض من ثمار فيشعر بحنانها وطيبتها، فيسرح بعيداً مستذكراً أحبته التي تحجرت قلوبهم مثل حجر الجلمود وتحنطت مثل مومياءات يابسة، ثم تذكر تلك السنين الحبلى بالاحزان والخيبات، فما عاد منتصراً في جولات عمره التي تعدت الخمسين، فكانت حياته هزائم متكررة واحزان متراكمة حتى صارت جبلاً يربض فوق صدره الناحل، كان ينثر الفرح على الناس اما هو فلم يحصد سوى الاحزان وسوى انتظاره دون جدوى لاحلامه الراحلة.  

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com