|
قصة قصيرة أمي ويـــــارا
بقلم الروائى/ الأسير المحرر : رأفت خليل حمدونة مرت الأيام صعبة على رفيق فى زنزانته الحقيرة الموحشة فترة التحقيق بسبب قلقه على أمه المريضة وزوجته التى لا حول لها ولا قوة وطفلته الصغيرة ، وحينما أدرك ضابط المخابرات أن لا فائدة منه أخرجوه لسجن عسقلان المركزي وهناك تعرف على عشرات الأبطال من أبناء شعبه وقابل إخوانه الذين اعتقلوا قبله فتحدث لهم عن تجربة التحقيق والعصافير وأخبار الناس خارج السجن . دخل رفيق الغرفة فشعر بالأمان واستقبلوه الشباب بالترحاب والحب والإعجاب بصموده. كانت الغرفة ضيقة ولها رائحة كريهة ففيها عشرة أسرة كل منها بطابقين وحمام مع مرحاض وشباك صغير مغطى بالحديد يمنع الهواء ومحاط بالأسلاك الشائكة، والغرفة كانت المطبخ والحمام والمسجد والمدرسة والجامعة وغرفة الرياضة والنوم والضيافة ويعيشون جماعة في كل صغيرة وكبيرة فوجد القديم والجديد والكبير والصغير والمثقف والأمي وابن المدينة والقروي والفلسطيني والعربي ، المتدين والعلماني وكل أسير منهم له قصة وبطولة ومأساة ومواقف ألم وهَمْ وحزن وأمل وطموح وبسمة. يعيشون مع شعبهم فرحته وألمه وانتفاضته ويترقبون الأحداث وكأنهم خارج السجن، هم يداً واحدة وقلباً واحداً على السجان الذي يقتنص كل فرصة لينقض عليهم فصنعوا بوحدتهم جدار العز وملاحم البطولة ، فلم يجد بينهم سبيل ضعف ولم يؤتوا من قبل أحدهم. فكل حياتهم قائمة على الحوار والنقاش والمشورة وجميعها منظمة ومدروسة ولا يسمحون للعابثين المس بها أو تخريبها ولا يفرقون في المحاسبة بين عنصر أو قائد جميعهم كأسنان المشط. تعرف رفيق على زملاءه التسعة عشر في الغرفة وتطورت علاقته بهم جميعا، فأحبهم وأحبوه وكان يحمد الله وهو يرى ماسي وأحزان وهموم من حوله. تنقل رفيق من سرير ( برش) إلى آخر وسمع من أصحابها بطولاتهم وآلامهم وأّمالهم وسأل زميله رفعت عن صورة لحاجة كبيرة وضعها على أحد أعمدة سريره : - من هذه الحاجة يا رفعت؟؟ - إنها أمي يا رفيق توفت قبل سنة ونصف. - الله يرحمها ويجمعك بها في الجنة ، متى زارتك المرة الأخيرة؟؟ - قبل وفاتها بيوم كانت مريضة ومثقلة بالألم وفي موعد الزيارة أجبرت إخواني على تسجيلها للزيارة فعارضوا وحينما قالت لهم أن لم ازور رفعت فلن اقعد عند أحد منكم في بيت فنزلوا عند إصرارها ورغبتها. كانت أمي سندي الوحيد في الحياة ، فبنت لي بيتاً من مدخراتي وما استطاعت توفيره وجمعت لي مهر عروس لتفرح بي فور الإفراج عني وقبل حضورها للزيارة جمعت إخواني الكبار وأخذت عليهم عهداً أن لا يتخلوا عني إذا ما حصل لها شئ فعاهدوها. وحينما حضرت للزيارة بمساعدة الأهالي نظرت لها وكأني أراها لأول مرة ، كانت تتحدث بمشقة ووجهها قاتم ويديها ترتجف فعاتبتها على حضورها وهي مرهقة فقالت: يا رفعت يا حبيبي، أشعر بالراحة حينما أراك واليوم أراك وكأني أودعك فيا قلبي كنت أتمنى حضور يوم فرجك وفرحك ولكن الأعمار يا حبيبي بيد الله، فبيتك ومهر زوجتك أمانة عند إخوانك، أخذتُ عليهم عهد مساندتك وهم أوفياء لحالك فسامحني يا رفعت إن مت، فالموت يا بني حق وليس بيدي، واعذرني لأني سأقطعك من الزيارة فهذا يا حبيبي قدرنا وحكم الله على وعليك، ولو كان الأمر بيدي لبقيت على قيد الحياة ليس حباً فيها بل لأجلك وكل ما أخشاه يا رفعت أن تشعر بالوحدة من بعدي وخاصة بين أصحابك الذين يزورون ويحضرون لهم أمهاتهم وزوجاتهم طلباتهم ويساندوهم، فخوفي أن يقصر أحد معك بعد موتي في تأمين طلباتك ، ولكن الله لن ينساك فكن دوماً معه حتى يبقى معك، ولا تيأس من رحمة الله فالسجن يا رفعت لا يدوم على أحد وخذ بالك من دينك وإيمانك واحفظ ما استطعت من القرآن الكريم وصلي لله إذا حزنت أو شعرت بضيق ولا تنساني يا نور عيني من الدعاء.... حينها رن جرس انتهاء الزيارة فودعْتَها وقبَّلتُ يديها وطلبت رضاها ودعائها وأوصيتها بصحتها وحينما وصلت للبيت .. انقطع رفعت عن الحديث وحشرج صوته وذرفت دموعه وقال – لقد توفت يا رفيق في نفس الليلة. تأثر رفيق بحديث رفعت الذي بدى عليه الحزن كثير الألم وأخذ يواسيه ووضع يديه على كتفيه وقال : قدر الله يا رفعت الله يرحمها ويحسن مثواها. وفى تلك اللحظات لمح رفيق ضوء القمر من بين صفائح الشباك المغطى بالحديد وسأل !! - هل رأيت أجمل من هذا القمر يا رفعت ؟؟ - فأجاب رفعت ، من تعتقد يا رفيق ؟؟ وبصوت يملأه الحنين أجاب رفيق : يارا يا صديقي أجمل مخلوق على وجه الأرض أجمل من ضوء البدر ليلة كماله، وزرقة السماء ونسمة الربيع وصوت الجدول المغطى بالغصن الأخضر وأحلى من خيوط الشمس الذهبية وأجمل من بياض الثلج . يارا قطرة الندى على الزهرة المتفتحة وحبات مطر الشتاء ، يارا يا رفيق مرجانة بل حبة لولو في محار مزين فهي أصفى من ماء العين . - لهذه الدرجة تعشقها ؟؟ - وأكثر من ذلك ، فأهون علي أن أحمل كل المرض على أن لا يمسها سوء، فهي البسمة البريئة الجميلة وسط العذابات، والكلمة الرقيقة بين الآهات وطلعة بدر في ظلام حالك وزهرة رقيقة بين الأشواك. يارا يا رفيق نسمة حب ووردة معطرة وطير مغرد وسحر أخاذ كم يا رفيق أتمنى ضمها بين ذراعي وحضنها على أضلعي وأن أقبلها بقدر شوقي يارا حلمي الذي انتظره وقلمي الذي أكتب به ، وعاطفتي التي تخرجني بجمالها من هذه العتمة والأسلاك. يارا كل قلبي ومهجته وكل ما أتمناه يا صديقي أن أعوضها حرمانها وأشعرها بالحنان الذي افتقدته. - ومن تكون يارا يا رفيق ؟؟ - يارا طفلتى الوحيدة التى رزقنى الله بها بعد حرمان من الأبناء عشر سنوات ولم أرزق بعدها لحتى اعتقالى . يا هل ترى ماذا تتصورني الآن يا رفعت ؟؟ فهى الأن بنت سنتين وكلما نظرت لصورتها تمن علي بشعور الأبوة الذي أعيشه ، فبفضل الله ثم بفضل يارا أصبحت أب يا رفعت الآن علمت خشية أبي علي وحب أمي لي . - الله يجمعك بها يا رفيق وتعوضها طفولتها فأنا ذكرتك بمن تحب وفتحت عليك بابا قد تتألم كلما عشت الفراق عنه. - بالعكس يا رفعت فأجمل اللحظات هي التي أتحدث فيها عن طفلتي وملاكي وأجمل الصور في نظري ملامحها. وفجأة قطع الشرطى على الزملاء حديثهم بما يحمل من آهات باشعال ضوء الغرفة والبدء بعدد الأسرى داخل الغرفة وافترقوا على أمل فجر جديد يحمل معه نسائم الحرية . ------------------------------------ التعريف بالكاتب الأسير المحرر / رأفت خليل حمدونة من مواليد مخيم جباليا بتاريخ 8/8/1970 ، تم اعتقاله في العام 1990 م على خلفية نضالية وحوكم 15 عام وإغلاق جزء من بيته ، أمضى فترة اعتقاله في سجون عدة منها " عزل الرملة ، عسقلان ، نفحة ، بئر السبع ، هداريم ، ريمونيم ، جلبوع " وتم تحريره في 2005 م بعد قضاء كامل محكومتيه . حصل على شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع والعلوم الإنسانية من الجامعة المفتوحة في إسرائيل - رعنانا خلال فترة اعتقاله ، ويحمل درجة الماجستير في الدراسات الإقليمية مسار " دراسات إسرائيلية " وبتقدير ممتاز من جامعة القدس / أبو ديس . ومن مؤلفاته داخل الاعتقال ” نجوم فوق الجبين – عاشق من جنين – الشتات – ما بين السجن والمنفى حتى الشهادة – قلبي والمخيم – لن يموت الحلم – صرخة من أعماق الذاكرة ”.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |