|
قصة قصيرة فواصل للشجن ..
عقيلة آل حريز لم تكن نظرتها البعيدة لافتة فقط .. كانت تبدو وكأنها تستحضر حكايتها من مخبئها السري الذي تركته يطويها .. كان هذا أول لقاء لي بها، هاتفتني عدة مرات تريد موعداً قريباً، لم يكن بإمكاني التجاوب معها فمواعيد العيادة مكتظة، لكن حالة قبلها اعتذرت عن الحضور فحالفها الحظ .. جاءت مع طفلتها لمشكلة تخص الطفلة، خوف وعناد وتبول لا إرادي، فهمت منها أنها منفصلة حديثاً عن زوجها، وأن لديها طفلتين، وأن انفصالها عن زوجها لم يكن بسبب مشاكل ظاهرة بالرغم من ارتباط يقارب ثمانية أعوام، إلا أن هذا القرار جاء برغبة من كليهما، من الطبيعي أن يجرني الحديث عن سبب ما حصل. بدأت تروي قصتها .. كانت طفلتها تختبئ خلفها متوارية عن الغرباء، الطفلة تختلف عن أمها بلون البشرة وتقاطيع الوجه المخملية التي بدت متجلية في وجه الأم . حملني حديثها عن مشكلة ابنتها لتتبع قصتها، ومع انحناءات الحزن البادية في صوتها تتبعت التوجس الذي تخشاه .. شجعتها على الحديث عن نفسها بأريحية .. لم يبد الأمر عليها مستحيلاً .. فقد جاءت عيادتي لتتحدث، حاولت أن تخفي حزنها لكن دموعها فضحتها .. طوقتها طفلتها مجدداً والتفت تعبث بعباءتها فسحبت هي طرفها منها وعادت تعطيها شيئا تتلهى به عنها، الطفلة التي لم تقتنع بلعبة من البلاستك لم تكف عنها ولا عن الإلحاح عليها بالخروج . عادت تسحب عباءتها بشدة معلنة ضيقها وتبرمها من المكان، بدا الأمر يزعج السيدة الصغيرة التي تجلس قبالتي .. عادة أضع بعض الحلوى والبالونات الملونة بدرجي لمواقف كهذه تصادفني مع الأطفال الذين يزورونني مع والديهم أو أحدهما، وبدأت الطفلة تتلهى عن حديثنا بالحلوى التي أخذت بعضها لها ولأختها . إلتفتت لي فأومأت لها أن تواصل سردها، قالت وهي تبدو وكأنها تحتضن ذكرى قصتها : كان قدري غريباً .. لست أدرك كيف حدث الأمر هكذا لكنه حدث وانتهى .. لقد تخلص كل منا من الآخر، وخرج من عالم رفيقه الحقيقي، ربما بدأ الأمر بمكايدات مختلفة وبتدخلات كثيرة لكنه انتهى فجأة .. انفصالنا تم قبل عامين كانفصال عاطفي، اختار كل منا البعد عن صاحبه، لكننا واصلنا استمرارنا بمهاتفة بعضنا مدة طويلة، نناقش أحوال طفلتينا، ونسترسل في الحديث عن أنفسنا وعن مشاعرنا أحياناً كعاشقين أغواهما العشق ... و لم نتظرق للعودة لبعضنا على اعتبار أن كلا منا اختار هذا برغبته ولن يتنازل حتى يتنازل صاحبه ... عام ونصف بقينا هكذا دون أن يتدخل أحد بيننا، لأننا اعتقدنا أن هذا ما نريده ... وصمتت وهي ترقب صغيرتها تحاول فتح مظروف الحلوى بيدها فلم تفلح .. ابصرتها الطفلة وجاءتها لتفتحه لها ففعلت .. اتسخت يدها بالشوكلاة فقربت منها علبة المناديل لتمسحها .. شكرتني وابتسمت . قلت لها هل ارتبط بأخرى بعدك، هزت رأسها بلا، رغم أنها توقعت أن يفعل .. عدت وسألتها، لكني لم أعرف حتى الآن سبب المشكلة التي أدت لكل هذا .. نفضت كتفيها : لا شيء محدداً غير مشاكل عالقة بالسطح تبدو عادية ربما، لكنه لم يقدم على تجاوزها معي . النسيان أمر تحاوله رغم مسئوليتها التي بدأتها .. سألتها عن شعورها الآن كيف يمكنها أن تصفه وهل أمكنها أن تتجاوز الألم الذي اقتحم سعادتها السابقة ؟ .. أجابتني بأنها تمكنت من النهوض على كل حال .. بعدها لفحتني حرارة صوتها، فتصورتها تريد حلا تلتمس به إعادة صياغة عالمها الذي اختلطت أجزاؤه فجأة فأربكت كيانها، لكني وجدتها تتحدث عن مستقبلها وترسم طريقها فيه بعناية بالرغم من حزنها الذي تغسله، وبدأت أرسم إطارات كثيرة لنفسيات الناس الذين أتعرف عليهم كل يوم وتفصلني عنهم خصوصيات حياة يعيشونها فيطلعونني على بعضها .. تطلعت إليها بعد ذلك وأنا أهب الصغيرة بعض البالونات لتحتفي بها مع أختها .. لاحظت أنها لم تبد لي رغبة في أن أقدم لها نصيحة ما للعودة أو وسيلة جديدة للصلح مع والد طفلتيها .. قالت إن أمر طفلتيها هو ما تكرس حياتها له .. عادة ما يتم لقائي بحالات كهذه بسؤالي عما يتوقعونه مني لمساعدتهم .. فعلت، لكنها لم تقل شيئا حين ذكرته لها .. قالت وهي تحتضن طفلتها .. لا شيء، فقط كنت أبحث عن شخص أخبره بأني أحاول أن أواصل حياتي رغم تعثري .. حاولت أن أبحث عن شيء تطلبه مني غير التقييم السلوكي لمشكلة ابنتها الصغيرة ومتابعة جلساتها في العيادة ... وبعد حديث متواصل قالت وهي تخفي شيئاً من الألم الذي حاصر كبرياءها، ربما تستغرب سيدي أني صفحت عن أمور كثيرة حدثت، منها قسوته، غضبه المتكرر، خياناته وتشتته .. لكن أمرا واحدا جعلني أقرر الانفصال .. بادارتها بالسؤال عنه لأفهم السبب،.. صمتت برهة ثم قالت : هو طقطقة حوافر الروح حين تتفلت منا فجأة متسربة من بيننا كالريح التي تأتي خلف الأسوار الصامتة ثم تغادرنا على عجل . - لم أفهمك سيدتي كان هذا هو ردي إزاء ما قالته ! فتابعت وهي تعلق نظراتها على اللا شيء : - عشنا نراكم الخيبات حتى امتلأت حواشينا بفواصل الشجن .. فبيني وبينه رقص الوجع على حواف الروح فانهزمت مشاعرنا خالية إلا من صحف الحزن المتراكمة . بهتت الألوان أمامي فجأة وتبددت بعض أسئلتي المتعلقة بها، انصرفت بعد أن ارتكز حضورها في مخيلتي، فتقوضت ذاكرتي بقصتها اللافتة، ربما هي حالة خاصة ونادرة لا أصادفها كل يوم بين حالاتي المتكررة، قصة حب مكتظة بالمشاعر الشفيفة وجراح غائرة تعلق وسطها، الأكيد أن هذه السيدة أحبت زوجها كما فعل هو، لكنهما تماديا في عنادهما حتى مزقا عشهما .. كان النهار مزدحماً كالعادة بحالات كثيرة أصادفها كل يوم وأتفاعل معها، تشركني في تفاصيلها فأتصادق معها وقد أعتب عليها أو أوبخها، لكن هذه السيدة وطفلتها كانتا قد احتلتا مساحة كبيرة من تفكيري . وأدركت بعد مضي مدة أن البعض لديه الكثير من الأمور لا يمكن أن تعالجها له، لأنها ترتكز على خيوط رفيعة للغاية لا يمكنك الإمساك بها وإن فعلت لن تعرف كيفه تجمعها .. فما أعجب قلوب البشر !!.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |