قصة قصيرة

رحيل خريفي

موسى غافل الشطري

نفحات تشرينية، منذ ليلة كفكفت شالها، من نهايات أيلولية، موغرة.تعبت من زفير ساخن. ظل ينبعث، من واجهات اسمنتية. لبيوت واطئة كأن فرامل العربة، أيقضت ابوابها، من قيلولة. فأصيبت بدهشة، ذات ذعر.كأنها هرعت لتلوذ بعضها ببعض.وتطل ببلادة إلى الوجوه الوافدة.

تثاءبت ألأبواب .. ساكبة زفيرها مع تلك النسمات الفاترة. الزقاق خلولم تنِ حماوة ظهاريه الشائخة،تتوكأ. جاهدة نفسها، لكي تجتاز رمضاءها. وتحذف هجيرها المحرق.

كانوا توّاً يهبطون فتتابع الوافدون: الإبن يجرجر طفليه بصمت . وتحفز فيه وجل. ووالدته: في دأبها تثاقل، وإرهاف شديد ، متوجس. والكنة: تتأبط حاجياتهم.

إجتازوا فناء الحوش. فبدت بوابة الغرفة منفرجة قليلا. دلفوا تباعا ، ليباغتوا بالمريض وحيدا. جسده في سكينة.كأنه يكابد إهمالا مزمنا. فلم تشرّع منافذ مأواه، فلاحت عتمته موحشة. وهواؤه.. عتيقا فاسدا.

أسجي المريض، مستلقيا على قفاه، وقد دثر بغطاء خلق عتيق.فلاحت أجواء المجتمعين.. يكلكل عليها الصمت. وقبل أن تأخذ الزوجة الكبيرة، وقتا تخلد فيه للراحة، من سفر مضن، هرعت إلى مصاريع النافذة وشرعتها.

كان واضحا: أنها ضاقت ذرعا بما هوواقع. وبدا ابنها يرقب ذلك بطول بال: لكون والده قد اهمل على نحوقاس.

حضرت الزوجة الصغيرة بخطى متباطئة. وحيّت الجميع ببرود .. مراقبة على مهل.. ما تفعله ضرّتها، فاتجهت إلى غرفتها بصمت.

حقا.. بات من اللازم أن يتجدد الهواء، حتى يتسرب العفن خارجا ويكون الهواء رائقا. لكن .. هناك ما ينبغي عمله . منها مثلا: تغيير الفراش والشراشف.وبالذات شرشف الوسادة، الذي بدا داكنا . كذلك الغطاء وخلع ملابسه بكاملها.، وغسلها جيدا وتهيئة إناء كبير من الماء الدافيء لاستحمامه رغم إن هذا قد يغيظ الزوجة الصغيرة.لكن.. هذه أمور.. لا بد أن تتريث وتنجزها دون إبطاء.

كان الراقد بالكاد يجهد نفسه، لملاحظة ما يجري. متطلعا لولده بذاكرة خائنة. إذ لم تساعده على معرفة الكل.في حين جلس الولد إلى جانبه، متحسسا عصب يده الضامرة.والأوردة الذاوية.

فعل ذلك قائلا.. بصوت واطيء، كأنه يتحاشى..أن يؤلمه بكلامه: ــ كيف حالك يا أبي؟

قال الأب مكابرا:

- العافية بيده.

قال ألأبن :

- هوالمعافي.. هل تعرفت علينا يا أبي؟

إكتفى ألأب ببسط يده ... مظهرا جهله.

قال ألأبن:

_ هذا أنا ولدك. وهذه أمي وزوجتي.

بكت الأم فقال الإبن:

_ ستغيّر أمي وزوجتي كل هذه ألأشياء.

أجهد الأب نفسه ليقول:

_ ألحّت زوجة أبيك.. لكن.. لا أقدر

قال الأبن:

_ حسنا يا أبي ..هي طيبة .لكن.. لا وقت لديها.

ظل الأب ينتكس ، فيغط بغفوة طويلة.

أشارت الزوجة الكبيرة إلى الكنة، لتسرع بغلي الماء، وإبدال ملابسه.

قالت الزوجة الصغيرة للكنة:

_ أرأيت؟ انها توحي بحرصها أكثر مني. لماذا لا تأخذه معها؟

قالت الكنة التي تحظى بعلاقة طيبة مع الضرتين:

_ ولكن حالته متردية، وملابسه بحالة سيئة.

قالت الزوجة الصغيرة:

_ إذا كان الأبن حريصا ، فليصحبه معه. فأنا امرأة وحيدة ، ولا أدبّر أمري.

قالت الكنّة:

_ دعي الهذر واعطني اشياءه.

هتفت الزوجة الكبيرة بكنّتها

_ أين سرحت أيتها الثولاء؟

جمعت زوجة الأبن أشياءه. هيّأت القدر. ووضعته على الموقد.وطفقت تسرع إلى المريض.

قالت العمّة:

_ إ سرعي واطلبي من الثولاء الثانية، قليلا من الحليب والرز، وهيّئي حساء.قال المريض بصوت مُجهدّّ:

_ لم.. تكن ثولاء.. لم تقصر.

قال الأبن بصوت رقيق:

_ يا أبي .. هي لم تقصر. ولكن عليك أن تضع شيئا في أمعائك.

قالت الزوجة الصغيرة _ أمام غرفتها_ للكنة:

- ويأكل؟

وبّختها الكنّة:

-أو.....ه ما أقساك!

بعد أن هيّأت الكنة الحساء: أسرعت بالماء الدافيء.

قال المريض بكلمات واهنة متقطعة للكبيرة:

ماالذي.. تفعليه .. أيتها المرأة؟-

قالت:

ــ لا عليك ــ أيها المسعد ــ ساعدني فقط على خلع ملابسك.

قال:

ـ هي.. أيضا .. الحّت .. لا أستطيع.

قالت :

ـ حسنا .. اتّكيء عليّ .

اومأت أن يغادروا .خرج الولد والكنة والأطفال.

أغلقت الكنة مصاريع النافذة، ومن ثم الباب. وشرعت الكبيرة تخلع ملابسه . وتدفع بهن من خلف الباب.

أول ما لاح لها : ذلك الجرح ، الغائر خلف كشحه. كان أثرا لخنجر أخيها : بسبب هيامه فيها.استمات لكي يفوز بها .

كان يتجاوزها بفارق زمني واضح . جازف بحياته مرات عديدة ولم يفض الأمر . إلاّ بزواجه منها. فزوّجوها لقاء ما يملك. من ماشية وحصان وغير ذلك. لم يبق لديه : سوى عباءة ليس غير .يتدثران بها شتاءا.وفي الصباح يرتديها ويمضي للحقل.

كم من زمن اقتضى ليشفى؟ مررت يدها هناك فتحسر. كأن أيّامه قد استيقضت . لاحظت إن الجرح كامن ..تحت رهال إهابه لاحظت أيضا.. ضمورا ما إلفته من قبل ، لتينك المنكبين العريضين . وأردافه .. نا تئة العضام وضامرة.

قالت :

ـ اتّكيء عليّ .

أخرجت قدميها وحررتهما من ثوبها ، لكي توسع مساحة لأسناده. وزحفت بالطست بينهما. وأنعمت نظرها بالجسد الذي لم يعد تربطه صلة بتلك المتانة. ولا حتى للأيام التي تزوج بها الصبية ، التي ما أتاح لها أن تتبحر بخفايا جسده.أخفى عنها ملامح هرمه .

وحتى في أهماله الكبيرة ، ظلّت هي البادئة ، على خفاياه لوحدها . مراقبة ــ آنذاك ــ عن كثب : كيف يذوي ذلك الجسد . وكيف تبصمه تلك السنون، ببصماتها القاسية. وكان ركونه إليها يسرّها. فهويقر ّ، رغما عنه بأنها رفيقة دربه.أيام شبابه وشيبه وضنكه.

ومنذ أن تلفعا بعباءة واحدة ، وحتى هذا اليوم ، لاحظت برؤية دقيقة تفاصيله .

دعمت بذراعها اليسرى كل اضلاعه ، من اليسار إلى اليمين . وأمعنت بتدليك جسده.. كأنها سيدته . كأنها تجلوه ، لكي تعثر على عمرهما وغبرته ، مثل طريق شائكة ، تعرف مسالكها شبرا .. شبرا.

ضغطت بيسارها، كي تسنده أكثر إلى صدرها ، بينما تسربت حرارته ، عبر ثوبها المخضل، بنداوة جسده. وتذكرت تلك الأيام القريرة ، وجسداهما يتلفعان بعباءة واحدة. وتحت دثارها .. ألفت رفقة صادقة ، وحنانا صادقا . وذلك الأنثيال ، لنثار الحب الذي ما كفرت به . وما وهنت قناعتها : بأن قصور الدنيا لا تضاهي لياليه.

كم تغيرت الأشياء ؟؟ كانت ــ حينذاك ــ فتاة رقيقة ، ناعمة. هادئة الطبع . مطيعة. وكانت .. تستلقي على ذراعه ، أيام الدفء . وتتلفع بدفئه أيام البرد.

دلقت على رأسه كاسة من ماء دافيء. دلكته ، صانعة منها رغوة بيضاء. انداحت رائحتها طيّبة .

سكبت أخرى دافئة . تسرب دفؤها إلى جسدها ، بحيث أحسّته يهبط، جاريا بحرارته ، وسط برودة الماء السابق... وينحدر ممعنا بين ردفيها.

قال المريض بصوت أنعشه الماء الدافيء:

ـ دلّكي ظهري .. كم قسوت.. عليك ؟

قالت:

ـ لاعليك . إترك تلك الأمور..

قال:

ـ برّئي ذمّتي .

قالت :

ـ برّأتك...

قال:

ـ وأنت كذلك.

واصلت الذراع اليسرى احتضانه ، وأحكمت ساقيها ، متلافية انبعاج الطست. وأحاطت بهما جسده. أمعنت بتدليك الصدر . والبطن ، والذراعين.ومناطق أخرى.ثم أبرت الوجه برغوة لكي تزيل تلك الغمّة.

كانت فرعتا ظهره، يتقوسان إلى أمام . والخندقان يغوران على نحومحزن. ورغم هذا لم يتغربا عنها . بل عادت إلفتهما . وأحست إن دموعها همت . وتلاشت مع انزلاق الرغوة . واقتربت شفتاها : من منخفض الترقوة ، لتحسس المريض .. بحضور عاطفي كامل. قال:

ـ أحس بإرتياح.

لم تجب... بل اعطت حيزا ، لكي تنحرف بالطست، على نحومغاير. وتُمعن بتدليك الظهر، والمناطق الخلفية السفلى.

أراح حنكه على كتفها الأيسر ـ عند الترقوة ـ بحيث.. دعمت خدّه الملتحي بحنكها.. مقتربة لقذاله ، بشفتيها. مسوّرة جسده بركبتيها، ثم قالت:

ـ هل أنت متضايق؟ أأترك حيّزا تأخذ نفسا؟

قال بصوته الواهن :

ـ استمرّ.

لاذت ملابسه النظيفة ــ التي استحضرت ــ خلفها.

نادت الكنّة على العمّة، من خلف الباب:

ـ هل تحتاجين شيئا أيتها العمّة؟

قالت :

ـ لا أحتاج.

كانت ذراعا المريض، تزحفان بعناء لكي تستلقيا على عطفيها، وبدا جسده على نحوواضح،مدعوما بزندين سافرين، يستلقي رهال لحمتهما اللدنة على جسده ، بشكل يوحي اليه، بإلفة مفتقدة، ونسمة شفيفة من إثارة لمشاعره الكابية .

قالت:

ـ كيف أصل إلى أسفل جسدك؟

عَبَرَت بساقيها. وسط الطست. حاوية إيّاه، بكلتا ذراعيها ، لاصقة قدميها بالتعاقب.متّكئة إلى الخلف ، بحيث : أمسى بإمكانها ، أن تمرر يديها بالصابون إلى أسفل.وخرطت بعناية دائبة ، تلك الظُلمة، وعلى نحوسريع. مارّة ، بإمعان حتى طرفيه.

قالت الكنة من خلف الباب:

ـ أتحتاجين ماءأ دافئا أيتها العمّة؟

قالت:

ـ لست بحاجة.

سكبت الماء على قمّة الرأس والوجه. سكبت على الصدر . سكبت على الظهر.مُتيحة للماء أن يندلق، من صدرها على الثديين، إلى حوضها وبين الردفين.

رفعته بنصف استلقاءة. منحرفة عن الطست. دافعة إيّاه إلى أمام. وشرعت يداها تمّرّان بالمنشاف: من قمّة رأسه حتى قدميه. ثم امتدت يمناها، لاقطة ملابسه قطعة قطعة . متيحة لنفسها :أن تتريّث، وتأخذ نفسا هادئا، يفعمها .. ذلك العطر المنبعث من جسده ، وفروة رأسه.

اكتست الوسادة ، بشرشف نظيف. الفراش والغطاء كذلك.. أراحته على فراشه وغطّته . طلبت مشطا لتسرّح شعر لحيته ، وفروة رأسه، فبدا بوضع أفضل.

نادت على الكنّة ثانية:

ـ اسرعي يا بنيّة .

فتحت الباب.. وقبل أن توصده.. لاح الفيء وقد زحف في فناء الدار, ناءت الكنّة بثقل الطست .

قالت العمّة :

ـ ناوليني مكنسة أيتها النادرة.

قالت الكنّة :

ـ خذي راحتك ، واستبدلي ثيابك بهذه.

قالت العمّة :

ـ فدتك عمّتك أيتها النادرة.

عادت الكنّة بالمكنسة. كنست بخفّة، وعلى نحوهاديء وسريع. ثم دفعت بنار متوقدة. أوصدت الباب. ونثرت الحرمل والبخور، لكي يكون الملاذ عبقا ومنعشا.رتّبت ما تبعثر من محتويات الغرفة.ساعدت عمّتها على خلع ملابسها واستبدالها بغيرها. اُعيدت فتح الباب والنافذة.

كانت عينا المريض تتفرّس بالوجوه. زوجته الكبيرة وابنه والصغار.

قال الأبن مخاطبا أباه:

ـ أمرأة أبي تنتظر هناك ، حتى ينجز الطبخ.

قال الأب أنا جائع.

هرعت الكنة ، لكي تنبيء الزوجة الصغيرة

قالت الصغيرة :

ـ وطلب أكلا؟!!

قالت الكنّة:

ـ يالك من قاسية!.. أتعلمين إنك غائبة عنه؟

تذوّقت الكنة الحساء وصاحت :

ـ ملح.. قليلا من الملح.

رشّت الملح وخاطت بالحساء فصار جاهزا. أحضرت الضرّة الصغيرة.. إناءا وملعقة.

قالت الكنّة:

ـ يحتاج لفترة حتى يبرد . لاتجعلي الناس يغتابونك يا أُخيّة . إحمليه بنفسك.

أعان الولد أباه.لكن الأم : طلبت أن يسنده الى حضنها.وبدأت تنفخ بالملعقة.. كان المريض ينصرف بعينيه الى الصغيرة.والتي أقعت عند الباب، حاشرة ذراعيها تحت شالها.مُتّكئة على كفّيها، المنكفِئتين على ركبتيها .الواحدة فوق الأُخرى.

قال الإبن:

ـ لا تجلسي هكذا يا زوجة ابي.. تعالي هنا.

تململت، وظلّت مقرفصة. بقيت عيناه ،مشبوحتان إلى إقعائها.وهباء الشمس يربض أمامهما . استمرّت الكبيرة تطعمه، فأشار بيده معلنا كفايته.

قالت الضرة الكبيرة:

ـ هل تحلق وجهك؟

هزّ رأسه رافضا. أسجته على فراشه .بدا وجهه نظيفا وممتقعا. ظلّت عيناه تبحثان.

قال الأبن:

ـ اقتربي منه يا زوجة أبي.

زحفت باتجاهه. جاعلة هباء الشمس يسقط على كتفها.

قال الأبن:

ـ إنه يبحث عنك.

اقتربت..سقطت يده إلى جانبها . تحاشت أن تمحي المسافة مع اليد، التي بدت خابية الحركة.عزفت إرادتها أن تعود إلى جانبه.

قالت الكنّة :

ـ إ نه راغب.. أن يمسك بيدك. اقتربي أكثر.

طرأت على الكنّة تلك الذكريات الطفولية .فقد تزوجته الصغيرة، بعمر مبكر. قبلها كان ذا لحية مضمخة بالحناء. تذكرت الكنة أيضا: كم هي صاخبة وعنود ، كيف تستأثر بالدمى الجميلة؟

دائما .. تبحث عن العروس والعريس الأجمل . كم حطمت من عرائس لغيرها ؟ كأن الكنّة ، ترى ذلك بوضوح. إذ .. تلوح لها العرائس مستلقية بكاسة، تنزلق على أمواج النهر المتدفقة.والصبايا والصبية يزغردون .

ألأولاد على الضفة اليمنى . والصبايا إلى الشمال.وفي النهاية يقفز الأولاد بجانبهن . حاملين العرائس، داخلين بهن على البيوت التي هيّؤوها على جرف النهير.

كم أبكتها .. ودافت دماها بالتراب؟ وكم هي الآن متضائلة وبائسة؟ كأنها غلبت في نهاية المطاف؟

كان الهباء ينزلق من كتفيها . وينسكب شيؤه . زاحفا بين المجتمعين.. بفيض من الحزن.

انتبهت الكنة إلى حركة مريبة، صدرت عن العمّة . لاحت شفة المريض تقصر.ومنخراه .. يرتجفان. ووجهه مائل إلى الشحوب.

أشارت الزوجة الكبيرة إلى ابنها :

ـ ساعدني.. على أن نُقبّل رأسه ، في الجهة الصحيحة واجلس خلفه.

همت عيناها وأنّت بصوت خفيض، سرعان ما تعالى . وانتحب الباقون . دأبت يده الراجفة ، باحثة عن شيء. استمرّت الظلال.. زاحفة على الجدار المقابل . أوحت ملامح الفيء.. أن الشمس الغاربة،ماضية في الأفول . والظلال.. يهبط بدثاره.. على رحبة المكان. والملامح.. توشك .. أن تندرس.


 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com