قصة قصيرة

احتساء اللبن

علي موسى حسين

رزمتُ تعليماتِ أختي في حقيبتي, وهمّشتُ أفكاري كلها حيث رأيتُ أنها لا تفيدني, وسهرتُ الليلَ أنسقُ كلماتها لألصقها على لساني، وأعيد ما يفلت فأغلق فمي, ولم يسلم ِالفراشُ من مخاطبتي:

ـ سنذهب غدا إلى بيت خالتي..

ـ سيتعبني السفر عندما أتزوج ..

ـ سأعرض على أهلي الرحيل إلى مدينتهم..

لم أكن أتصور أن مداد استقبالهم فاض عن وعاء تقبلي, وما كنت أعتقد بهذه الحفاوة والتكريم. كانت يد أختي تلكز خاصرتي لأتكلم، وهي لا تعلم أن الكلمات بقدر ما كنت أرددها قد استهلكت وتساقطت من يدي.وقد كنت منتبها إلى نفسي أنني لا أنبس ببنت شفة إلاّ التي علمتني إياها أختي, لكن أين أجدها, ضحكت لذلك الموقف وكانت خالتي بالمرصاد :

ـ ما يضحكك يا ابن أختي ؟

فتلاقفتني أختي قبل أن أرفع الراية البيضاء:

ـ أخي يبتسم .. ابتسامته عريضة.. انه فرح بكم.

كنت بحاجة إلى إعادة رؤية ابنة خالتي بعد النظرة الأخيرة يوم كانت صبية, لكن الأجسام كلها تخترق شعاع بصري دون أن تحرك أوتاره, فعيوني تركتها عند أختي وقد سألتني :

ـ جميلة ابنة خالتك .. أليست كذلك؟

ـ لا لم أنتبه إليها جيدا.

ـ يا ويلي .. إذن أين عيونك؟

ـ لقد نسيت كل ما تعلمت منك. وأخشى أن أخطأ، فعيوني معلقة بك لتسعفيني..

  ليس المهم أن أراها, هل هم مقتنعون بي ؟

ـ نعم. كانت عيناها معلقة عليك. واسمك على لسان خالتي .

ـ أخشى أن تبتلعني خالتي.

ـ أتمنى أن تنطق هذه الفكاهة بكلمات مرتبة.. اهدأ فالجو لازال يحمل بعض الغيوم . أمي تريد أن تفرض رأيها على أختها الصغرى, وخالتي متزمتة برأيها. أنت لا عليك.. أنا أعرفهما ستتعبان وتهدءان. مساءاً ستتم مراسيم الخطوبة, ما عليك إلاّ أن تكون متوازنا هادئا في جلوسك, حتى الكلام أعزف عنه.. ولتكن أجوبتك مختصرة.

حلقة من النساء يجلسن في الصالة الكبيرة, ولقد تلقيت التعليمات من أختي بالذهاب والجلوس قرب خطيبتي, لم يكن في الوقت متسع لتعيد عليّ قراءة ما علمتني. دخلت القاعة, وقد فلتت يدي من يد أختي, ولا أدري كيف خذلتني وتركتني أتحرك وحدي. صرت في وسط القاعة وأنا أنظر يمينا ويسارا لأبحث عن خطيبتي، أختي لم ترشدني إليها وأنا قد نسيت أن اسألها.قلت أتوجه إلى أجمل فتاة, من الأكيد أنها ستكون الأجمل . تحركت وعيناي قد سقطتا على عينين زرقاوين, وكدت أن أغرق فيهما. وإذا بأختي تهرول إليّ، مسكتني من ذراعي وهمست صارخة:

ـ إلى أين؟ أما ترى كرسيك الفارغ ؟

لقد امتزجت في داخلي ابتسامة وخجل . جلست على الكرسي المخصص لي دون تحية, عيناي أودعتهما عند أختي لتسعفني بإشاراتها, وقد فهمت منها أن أبتسم لخطيبتي, أو أسلم عليها, تحيرت: أهي التي على اليمين؟ أم اليسار؟ أحداهما قد صبغت وجهَها ابتسامةُ جميلة، والثانية كانت كئيبة .

 قلت مفكرا: التي تبتسم هي خطيبتي، تبتسم لي . ما ذا أفعل ؟ سأحرك كرسيي إليها, أبتسم لها أولا, وأتكلم معها، وربما أضع يدي على يدها.

الابتسامة قد انطلقت، لكن بحثت عن الكلمات فوجدت أنها كلها قد هربت, وكادت يدي تسقط على يد الفتاة لولا حركة أختي التي تلافت المأزق وتكلمت مع خطيبتي التي كنت قد تجاهلتها وهي تضغط على رجلي وتعصر إصبعي، فعرفت أنها هي.

كانت هنالك تقاليد عند أهل خالتي أن الخطيبين يشربان قليلا من اللبن قبل أن يلبسا خاتم الخطوبة دلالة على بياض القلوب, وقد عرفت ذلك فيما بعد. قُدِّمتْ إليّ آنية من اللبن كنت عطشا وقد كان الجو حارا, فاستلمتها وكدت أن أشربها كلها لولا أشارة أختي التي كانت تقف بالمرصاد لأقدمها لخطيبتي أولا، رفضتُ أن تشربَ قبلي لكنني رضخت لإلحاح أختي، قدمتها لخطيبتي، وقد رزقت منها الابتسامة الأولى, ربما شربتْ قليلا أو رطبتْ شفتيها فقط، وناولتني الآنية. كانت نيتي أن أشرب ما تبقى كله, لكن طفلا صغير ألح علي بأخذ الآنية طردته  لكن تأشيرات أختي بأن أعطيه المتبقي، وقد تنبأت أنه قريب لخطيبتي، فلا أحد يجرأ أن يقتحم هذه المراسيم إلا من ذويها, وحالما ناولته الإناء فلت من يده فوق ملابسي، ولولا تلاقفه من أختي لصفعته.

كنت أحس بأصابع رجلي تتكسر تحت رجل أختي وهي تهمس بأذني :

ـ البس خطيبتك الخاتم وخلصنا..

وقبل أن تنسحب سحبتها من يدها :

ـ نسيت الخاتم في الحقيبة :

هرولت وجاءت بالخاتم، وكدت أصرخ بوجهها، فكلما تأتي إليّ تدوس قدمي .

قلت في نفسي : إلى متى أعتمد على أختي ؟ وقد أضعت اليد والأصبع الذي يرتدي الخاتم.

قربت فمي من أذن خطيبتي وهمست لها:

ـ سيسقطني الخجل من الكرسي إن لم تسعفيني .

  سأمسك الخاتم وضعي أصبعك أنت .

قالت بابتسامة ونظرة صبغت بها وجهي: كم أنت بريء..سأحبك أكثر..

عند ذلك استدرت بوجهي عن أختي وأشرت لها أن تبتعد..
 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com