|
قصة قصيرة حيّ الكهرباء
علي موسى حسين استأجرت شقة في حي الكهرباء، لم يكن اسمه هذا، اسمه الحقيقي: حي المعلمين. جميع البيوت فيه لم تتجاوز على خطوط الكهرباء، فكانت طاقتها مستقرة عند حصتهم، وأجهزتهم تعمل بكفاءة, وأنا بحاجة لطرد غول الحر الذي يهاجمنا في بيوتنا، وصهر كتل الشمس المتساقطة على مساحة النهار كله، وإطفاء جمره المستعر حتى ساعات الليل. لقد أحسست أن الحي مستاء من بعض المؤجرين, أعلموني أنهم لديهم شك بالتجاوز, لكنهم لم يتأكدوا أو يكتشفوا طرق الاحتيال, أو كان هناك فائض من وقتهم يصرفونه لمراقبتهم . ربما تراجعت قليلا، لكن كنت أبعد هاجس ظنهم نحوي، فكثير منهم يعرفني بحكم المهنة، ثم أني حصلت على هذه الشقة ببالغ الجهد والثمن, وقد انتعشت لاشتغال أجهزة التبريد بكفاءة لأنام ثلاث ساعات متواصلة . نقلت هذه اللوحة بكامل خطوطها الى المسؤول عنها في المدينة, اقترحت عليه بعض الحلول لإنعاش الأحياء الأخرى, وليستقر التيار دون أن تثلم شواطئه ويتبعثر ما يؤثر على وزن الكيل فيه. لمست منه تقبلا لفكرتي, وقد شكرني كثيرا, وقال: ـ إن المواطن صار يعرف كيف يأتي الى المسؤول ويملي عليه أفكاره ويساعده في البحث عن الطرق المتيسرة لرفاهيته.. وقد امتعض كثيرا، وهدد باستخدام القوة ضد من تسول له نفسه بالتجاوز وان كان أعلى رتبة إدارية أو عشائرية. كنت أنصت إليه بارتياح لتقبل زيارتي, لكن كنت أضع علامات استفهام على استخدام بعض المفردات من : الإملاء والقوة والعشائر, وأنا أحبذ الابتعاد عنها, بل اللجوء الى مصطلحات القانون والمشاركة والمؤسسات والتي لم يذكرها في حديثه, لكن قلت مفكرا: ـ ربما من دون قصد استخدم هذه المصطلحات, فهو ليس من أهل اللغة الذين يجيدون رزم الكلمات بباقاتها, ولا أعتقد أنه من الذين يحيدون عن القانون خوفا من صعقاته. المهم انه تقبل الفكرة وواعدني خيرا على تفعيلها, وخاصة في الحي القديم .. وكأني لازلت أسكن فيه بقدر ما أوصيه به. رجعت الى البيت وقد حدثت زملائي الذين ازدوجت معهم برابطة الجوار, فتمنوا أن يستيقظ مثل هذا الكلام من فوق طاولة المسؤولين وينزل الى الشارع, وتستتب الكهرباء بجريانها, وتعلو أمواجها عند صحوها لثلاث ساعات متتالية. وقد اعترضوا على رأيي بارتفاع مناسيب الحصة لزيادة منابعها . بل قالوا: ـ إن السياسة أمست تسري حتى في خطوطها دون أن ترتعد لصعقتها, بل صارت هي التي تثلم أمواجها وتعيق جريانها. كنت أستقبل الليل هادئا, وكأنني أبحث فيه الدفء مثل الشتاء, وهاهو قد أسدل على المدينة بحلة رائعة ... الساعات الثلاث الأولى منه لم تعمل فيها أجهزة التبريد, فطاقة المولدات المحلية لم تستطع تحريك مراوحها, وان تجرأت ستنتحر عند عتبات أبوابها. لكن أطفالي كانوا يحسون بارتياح, فالأمل ينضج بعد ثلاث ساعات سيستنشقون هواءاً عذبا باردا خال من الدخان والأتربة والأصوات المدوية. استسلموا إلى نوم عميق على البلاط دون أن يصعدوا أسرتهم . جلست عندهم وأنا أتلذذ نشوة الاستقرار والهدوء, وقد تلاشى ضجيجهم الذي كان يعلو عند تلك الليالي المقفرة الساخنة .. .. لكن انتهت نصف ساعة من موعد حصتنا والكهرباء قد تأخرت, وقد كان صاحب المولد المحلي كريما, وأنا متأكد أن كرمه لا يستمر, فإن أوانيه ستفرغ باستمرار تأخر الكهرباء الوطنية. خرجت إلى الشرفة .. وكأنني أرقب جريان السيل في الأسلاك المعلقة. لكنني لمحت شيئا غريبا.. راجعت نفسي, فلم أجد أجوبة مقنعة: ـ لماذا عامل الكهرباء هذا يعمل بعد منتصف الليل؟ .. وقد التقطت كلمات مدغمة, تتأول إلى معان كثيرة مبهمة: ـ .. أطفئ المصباح اليدوي .. لا تتكلم .. لقد ارتفع الشك الى يقين: إنه تجاوز على خطوط الكهرباء .. اتصلت حالا بالشخص المخول على حركة الكهرباء في أسلاكها, وأنا أتذكره عندما نقلت له تلك اللوحة وهو يضرب صدره بكلتا يديه، قلت له، وأنا أطعم كلماتي بالأسف والاعتذار : ـ أن المصلحة العامة تستوجب أن أوقضك .. فقال: أنا في خدمتكم .. أنا أعمل حتى هذه الساعة في الدائرة .. خدمتكم تستوجب حضوري .. أحاول بكل طاقتي أن أخدم المواطن .. .. كان ظني ذلك به, فأعلمته بكامل ما يجري أمامي، لكن نسيت أن أعطيه أسم الحي .. وقد ارتحت الى رد فعله .. وكأنني أراه يقوم من كرسيه, يعربد بغضب ويتوعد ويهدد, وقد أسرع ليقول: ـ أعطني العنوان حالا, سآتي أنا ومفرزة شرطة, سنعاقبهم لاعتدائهم على حقوق المواطنين .. السكوت على هذا التجاوز هو أشد ظلما من اقترافه. نزلت من شقتي أبحث عن نقطة دالة في هذا الشارع لأعطيه العنوان, لكنه اتصل بي, وهو يقول: ـ يا أخي لا تتأخر .. أرجوك قبل أن يهرب الجاني، نريد أن نحاسبهم، ونحاسب البيوت التي تعتدي على حقوق الآخرين. الطريق لابد أن يأخذني على هؤلاء, وأنا لا أريد أن أكلمهم .. لكن لفت انتباهي : .. إنني أسمع المتكلم معي بصوته الحقيقي يكلمني .. وقد جربت إبعاد الهاتف .. صوته الحقيقي ..لازلت أسمعه يصرخ .. تساءلت : ـ كيف عرف العنوان وانطلق اليهم أسرع من صوتي ؟.. ـ .. كم أنا فخور بمثل هذا ليزيد وطنيته رصيدا أعلى, لقد ملأني غبطة وفرحا يكتسحان التردد الذي كنت أخشاه وأنا أخبر عن هؤلاء اللصوص الذين تجرؤوا ليسرقوا الكهرباء من أسلاكها . .. صرت أبحث عن هذا السيد الذي ملأني اعتزازا واحتراما . أبعدت الهاتف، وصوته الحقيقي لازلت أسمعه بوضوح أكثر . لكن لم أر سيارة أو أشخاصا يقدمون .. وقبل أن أصل الى نقطة الحدث .. أحسست أن صاحب الصوت الذي أكلمه هو في البيت الذي يقع فيه التجاوز .. وقفت جانبا عند الجدار في ركن مظلم، وأنا أرى العجب .. إنه يخرج من البيت، ويكلم العمال بصوت خفيض : ـ .. أسرعوا هيا .. الناس لا ترحم .. هيا أسرع اربطه مع السلك الأصلي حتى لا يكشف .. هيا .. خرجت من مكمني، وإذا بعينيه تقعان على عيني . نظرت إليه .. فلم أر قطرة عرق تنزل من جبينه .. قلت له : ـ أغلق هاتفك .. فرصيدك سينفذ لأجل المصلحة العامة ..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |