قصة قصيرة

 

صفحة صفراء

 

زاحم جهاد مطر

الاهداء - الى الدكتورة هناء القاضي،صاحبة الرثاء المتأخر كالدمعة التي نزلت ساخنة على أوجاع الماضي وأصابتني بالرعشة والبكاء ونوبات الصرع . أهدي هذه الصفحة الصفراء .

في ساعة متأخرة من تلك الليلة المظلمة التي أثلجت السماء فيها،تحركت الأجساد المنهكة بعيون خائفة وخطوات قلقة وهي تبحث وتسير على النسيم الترابي الذي يكاد يخفيه الظلام نحو الساتر الترابي لتلتصق بالساتر بحذر وهدوء وكأنها تريد ان تكتب تاريخ وداعها للحياة والأمل في هذا المكان الموحش البعيد عن عيون الأهل والأحبة والأصدقاء.

كل شيء هنا يوحي بالموت،كل هذا الهدوء والسكون والصمت والإنتظار للمجهول المرعب ونظرات العيون المحدقة في الظلام نحو الأرض الحرام.

هذه الليلة تختلف عن الليالي السابقة،لست أدري لماذا،حتى إنها خالية من أي صوت لطلق ناري من بعيد أو من قريب. لاشيء يحرك هذا السكون والهدوء سوى هذه القملة اللعينة وهي تتحرك تحت هذه الثياب القذرة بحرية وتستفز الأجساد وتجعل الأيدي تتحرك مجبرة.

الجميع يتبادلون النظرات بالرغم من الظلام وكأن كل واحد من أفراد هذا الفصيل يشعر بأن هذه النظرة هي الأخيرة،. نظرة الوداع،ولكن يحاول الواحد منهم إخفاء هذا الشعور عن صاحبه خلف إبتسامة يائسة حزينة.

المكان يذفر برائحة الرطوبة والصديد والأحذية الملتصقة بالأقدام منذ أيام عديدة ولكن الرائحة المنبعثة من أشلاء الجنود الذين غادروا الحياة في هذا المكان قبل إسبوع وتُرِكوا هكذا بلا مبالاة عجيبة وقد إنتفخت أجسامهم وإسودت وتحولت الى أشكال مرعبة،تبتلع كل الروائح في المكان ولتبقى هي أقوى الروائح الكريهة،وبصراحة لم أكن أعلم سابقا ً بأن رائحة الجسد البشري يختزن برائحة الموت أكثر وأقوى من الأشياء الأخرى.

ومثل كل ليلة توخز عقلي بإلحاح وإصرار عجيب مجموعة من الأسئلة عن جدوى حياتنا ونحن نُساق الى الموت يومياً كقطعان الماشية لنموت ونُترك مثل هؤلاء بلا هدف أو غاية.

هذه الأسئلة كنت أخاف وأخشى ان اسأل الآخرين وما أزال أبحث عن الأجوبة ولكن دون جدوى،ثم أجمع كل هذه الأسئلة في سؤال واحد وأسأل عقلي،ياترى هل أرى شمس يوم ٍ جديد ؟ ويأتيني الجواب،سوف ترى ذلك غدا ً!! من يدري ؟ وهكذا قضيت أيامي السابقات في هذا المكان،والآن أسأل مرة أخرى نفس السؤال وقبل ان ياتيني الجواب،يأتي الصفير والهدير للقنابل وتشتعل الأرض والوميض يملأ السماء وتتلاشى اصوات الصراخ والصياح في دوي الإنفجارات وتمتص رائحة البارود كل الروائح  ويغطي الغبار والدخان كل شيء،في هذه اللحظات غادرتني أسماء الأشياء وكل إحساس بأنني إنسان.

 لا أعلم لحد الآن ما الذي دفعني الى ان التفت الى يميني وأنظر الى صاحبي،وأراه ماسكا ً بندقيته وهو بلا راس !! يا للهول،يا للفزع،وترتعد فرائصي وترتعش قوائمي وأنا أحاول النهوض كالجمل الأرجز،وكورت نفسي وإلتصقت بالأرض حتى شعرت بأنني اصبحت بحجم دودة القز،حتى إنني أعتقد بأنني عندما زحفت نحو تلك الجحر التي تمقتها الجرذان كنت أزحف مثلها.

وصلت الجحر ودخلته وشعرت بأنني لامست جسدا بشريا،حاولت ان ألتصق بجدران أكياس الرمل ولكن البعض منها إنهالت على رأسي وملأت فمي وعيوني ترابا،ولكن ذلك لايهم،المهم بأنني لازلت على قيد الحياة،من يعلم،قد أرى شمس اليوم الثاني من جديد.

لا أعلم كم مضى من الوقت ولكنني شعرت بأنني بدأت أسمع مرة أخرى اصوات لهاثي ودقات قلبي وهذا يعني بأن القصف قد توقف ولكن الأمر الذي لفت إنتباهي هو الصوت القريب الآتي من داخل الجحر والأشبه بالشخير، وسألت نفسي متعجباً هل من المعقول ان ينام شخص ما في مثل هذه الآزفة. لا أستطيع ان افعل شيئا أكثر من هذا السؤال لأن الرعب الذي سكن وإستقر في داخلي لايزال يشلّ كل أطرافي ويمنعني من التحرك لتلّمس الأشياء التي من حولي في الظلام الذي بدأ بالإنحسار شيئاً فشيئاً وهذا ما لاحظته وأنا أنظر من مدخل الجحر الضيق الى الخارج.

بدأتُ أشعرُ بالبرد وقبل ان تصطك أسناني،إنتبهت مرة أخرى الى الصوت الأشبه بالشخير المتصاعد،وحاولت ان أقترب،يا إلهي،إنه زهير !! وأصرخُ بصورة لا إرادية،زهير ،زهير !! ما بك،يا زهير ؟؟

زهير لايستطيع الكلام لأن الشظية اللعينة أزغلت دمه من فمه وكل لحظة ومع كل حشرجة تنقذف الدماء،دفعة بعد دفعة،وقوائمه ترتعش ولون وجهه يزداد إصفرارا  وشحوبا وعيناه المرهقتان تزيغان وكأنهما تسيران نحو الرقاد الأبدي،يحاول ان يحرك شفتاه مرة أخرى،ولكنه لايستطيع، اشعر بأنه يحاول ان يجمع قواه ليقول شيئا لي،وحنينه على أطفاله كان أقوى من كل شيء في داخله المنهك،في تلك اللحظة وبكلمات متقطعة،قالها بصعوبة :

 قبِّل أطفالي،وسلامي الى زوجتي،وأهلي،وأصدقائي،و ،.!!

 وإنتهى كل شيء،كل أنفاسه أرسبتها حشرجته الأخيرة وأرس الموت جسده في ذلك الجحر،زهير تحنط بالتراب،وسكنت الرمال بين أسنانه وغسّل بدمه وكانت بدلته الداكنة كفنه،والجحر قبرا له بلا شاهد.

لم أتحمل هول المنظر،فهربت الى الخارج،لأجد نفسي في منظر مريع أكثر هولا وفظاعة،أواه يا ربي ما ذنب هؤلاء الأبرياء وأجسادهم تحترق كالجذوع الخاوية اليابسة،هل سمع أحد صوت العظام وهي تصفق وتتطاير مع حفيف اللهب والشرار المتطاير،وأصرخ،وأصرخ،رباه،هل خلقتنا لنموت هكذا،لماذا ؟ لماذا ؟

 بعد ايام وجدت نفسي في مستشفى الامراض النفسية .

  

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com