|
قصة قصيرة
لو كان القلم مثلهم لقتلته انطباعات وأوهام قصصية
زكية خيرهم
أعرف أشياء أكثر من غيري، وقلمي غير كلّ الأقلام. يسيل حبره على الورق برشاقة وخفّة وبلاغة. لا أكتب عن المواضيع التي تسيل لعاب القارئ الغربي على حساب ثقافتي وديني مع العلم أن ليس لي دين. ولا أكتب عن الأزمات بكل شتى أنواعها التي لا أعرفها عن تجربة. وأعتبر ذلك امتيازا كبيرا، بل يبدو لي أنّ ذلك هو ما يفسّر كلّ ما امتلكت من الامتيازات، عدا شخصيتي المرموقة التي دخلت إلى عالم القلم برقيّ ورقّة. أطلق عنان قلمي على السّطور بتحرر من كلّ القيود. أصلا لا أؤمن بشيء لدرجة أنني أوشكت أن أدفع حياتي ثمنا لذلك الامتياز. كتبت عن الايام السود مستعملة الحبر الأسود أردت به المبالغة في التعبير عن العازة والفقر بكلّ أنواعه، فقر الروح والعقل والسلوك، وإلا فكيف يمكن أن تكون الأيام سوداء. وحين انقلبَ عليّ الطقس وتغيرَت علي الأيام وولّت، رأيت بعيني هاتين سواد السنين، فلم أعد أبصر شيئا. ذقت من مرارة الحياة ما لا أطيق وصفه وما لا يعرف مداه إلا الذين ذاقوا نفس ما ذقته من عذاب. لقد طال عطلي عن العمل وأنا ربة عائلة كبيرة تتكون مني أنا وأنا وأنا وأنا، عشرة أنفار من أنا، واحدة كبيرة في السن جزعت فاختلت والثانية صغيرة جاهلة لا تحسن التصرف. والثالثة لا تستطيع المكوث في البيت إلا للنوم في الليل والرابعة تصيح وتعوي كما المجنون على مدار الساعة والخامسة على وشك الجنون ... والسادسة تموت حسدا وغيرة من كل شيء حتى من الهواء الذي تتنفسه، لا يسلم أحد من انتقاداتها والسابعة ... والثامنة تعاني من عاهة في الروح والتاسعة إعاقة في الدماغ أما العاشرة فهي على وشك الانتحار. حاول الأطباء معالجة كل أخواتي العشرة فلم يتوصلوا إلى العلاج العملي الشافي حتى يقضي على أمراضهم قضاء نهائيا ... وكيف لهم أن يقضوا عليّ أنا ؟ أنا من قضيت عليهم كلهم ليس بالقلم ولكن بلساني الأطول من قامتي. صعب على الكتّاب أن يفهموا فلسفتي، ولا القرّاء الذين يضجرون من قراءة الصفحات الأولى لكتبي، أو يرمون بها تحت أسرّتهم لمدة عشر سنوات، حتى أنهم من خبثهم لا يضعونها مع باقي "الكتب المصفوفة في خزائن كتبهم ... تصوروا؟ لكنني أعذرهم.. لابدّ أن يعيشوا ما عشته كي يفهموا أفكاري التي أكتب عن تجاربي معها. لم أكن أبدا أجيد استثارة الناس ضدي، إلا أنني أمشي مع التيار وأطبّل مع الطبّال وأزمّر مع الزمّار في الوقت والزّمن المناسب. إن غاص المرء في أغوار"دماغي" لن يجد فيه أثرا لنوايا عدوانية اتجاه أحد من الناس، على العكس سيجد أثرا لنوايا طيبة تجاه الجميع . تجاربي مع أولئك النّاس التي كانت سيئة مفادها كان لصالحهم ولسمعتهم. فإن مثلا تحدّثوا في دواخلهم عن شيء، أسترق السّمع إليهم وأنقل هواجسهم وتعليقاتهم ونقدهم وأنثره على مسامع السهول والهضاب والجبال. فأجد نفسي فجأة مرفوعة محلّقة بأجنحة الغبطة وإن حدث رغما أن ارتكبت في حقّ غيري بعض الإساءات الصغيرة منها أو الكبيرة فإني أعزو ذك إلى الشّهامة بعيدا عن النّوايا الخبيثة. كم مرّت عليّ ليال طوال أشكو فيها الذي أبكاني. من هم حتى يتدخلوا في حبر قلمي ويحثّونه أن يسيل أحرفا. ويتهكمون على تقاعسي وكسلي. كيف لهم أن يتعاملوا معي كتلميذة وأنّ ليس لي عمل إلا بعض الهوايات كشرب القهوة والمشي على عورات الناس والدّعس على أسرارهم بحذائي الممزق. أنا حرّة، ألا يفهمون؟ هم لم يدركوا شروري ومكائدي، لا يعرفون أنّ لي طرقا في الإقتصاص منهم وبأقصى ما يمكن من السرعة، مستعملة اللمز والغمز والرموز والطلاسم لأطلسم عقولهم وتتبلّد باسم هاجوج وماجوح وكيكموش وطالوج. يكفي أن يرتكب أحد ما منهم فعلة كريهة اتجاهي كي أجازيه على ذلك مباشرة. يبدو لي أن اتهامهم بالبهتان ونقل أخبارهم بطريقة معكوسة للآخرين مع شيء من التّوابل تظلّ أكثر فضلا وأكثر شرفا من الصّمت. لن أتجرّع نكساتي الكثيرة من جرّاء أفراحهم ونجاحاتهم وما يتلقونه من تشجيعات ومجاملات. لكم يؤلم أمعائي ويعصر قلبي ويقلق معدتي. لم أتعود الصمت أيا كان نوع فحيحي خيرا أم شرا...فالصمت عندي علامة الفشل ، ولن أكون حسب مقاييسي هذه فاشلة أبدا ، فليس هناك أسهل من اختراع القصص التي أجيدها ويعجز عنها أمهر كتاب القصة العرب، ومهاراتي هذه رغم أنفهم تزداد حبكتها مهما زاد عدد غير المصدقين والمقاطعين لقراءتها.الكذب عمره ليس قصيرا إذا ليس من حلّ سوى الحرب، وإنا من ذوي المؤهلات الحربية. بطبيعتي الهجوم من حيث لا أدري، ذلك إحدى غرائزي. أهجم بطريقة تكتيكية حتّى لا يتصوّرني "الآخرون" شرّا وأفعى، وإنما وردة في الأخلاق والسلوك العالي. فأكتفي بصنع الحكايات وحبكها بطريقة فنية أصور فيها عورات الناس وأسرارهم الدّفينة ، أبعث فيها الروح لتطير وتظهر للعيان الذين يعرفونهم. أعريهم كما حواء وآدم في الجنة، إلا أن عرائهم أضعه في النار. همّي وبؤسي لن يشفى حتى أحطّم لهم تلك الصورة التي في أبراجهم العالية وأزيل من أعين أصحابي تلك الصورة المثالية عنهم. أولاد كلب! لكم ضيّقوا عليّ في حياتي ولا أستطيع التّسلّق إليهم والوصول إلى مجدهم. لم يتركوا لي شيئا أتباهى به إلا تنظيف البيت على مدار الأيام والشهور والسنوات والتفنن في صنع المحاشي والمقانق و كافة أنواع الطبيخ، ولو أنني لا آكل اللحم لكنني أطعمه لضيوفي... تلك اللحظات الوحيدة حين أجمعهم حول مائدة اختراعاتي أشعر بشيء من الفخر من إبداعي في سلق البطاطس وحشو الكوسة بالبصل والطماطم بالثوم. وحين يأكل ضيوفي مما أبدعته يثنون عليّ ويشكرون... تلك اللحظات تمدّني طاقة وأملا وفخرا بإبداعاتي ، وليس كما قالوا عني أولئك بأنني لا أحسن الإبداع. ماذا يعرفون عن الإبداع ....؟ إبداعاتهم عبارة عن خطابات ... خطابات ... على الأقل طبخي ليس فيه خطابات ولا سرقة وصفات طبيخ من كتب بل هي وصفات طبيخية من صنعي وبراءة اختراعي في لحظات حنان على البشرية الجائعة لا مثيل لها حتى عند وكالة الأونروا!!!. أمسكت القلم واسترسلت مسيلة حبره دموعا محرقة على ذكرياتي. لكًم اتهموني بالكذب. كلنا نكذب ... كلنا علينا أن نكذب والحكمة بالنسبة لي هو أن ندرّب أنفسنا وننمي من قدرات ذكائنا على الكذب بعناية حتى لا ننسى ونغلط في الأرقام وألأثمان حين نتبجح بمشترياتنا ولا نغلط في الألوان والأحداث التي نبتدعها حتى لا يكتشف أمرنا وتآمرنا. وذلك لأنني أتذكر دوما المثل العربي القائل " عمر الكذب قصير " ، وأنا بمهاراتي الطبيخية سأثبت للجميع كذب هذا المثل العربي، فكذبي أنا لن يكشفه حتى المنجمون منهم، ومن اكتشفه سأحاججه بمهارة فائقة، تجعله يشكّ في أنّ كذبي هو الحقيقة، وحقيقته هي الكذب القصير أو الطويل لا فرق. المهم حنان التعامل في وجوه الناس ، و ما سيأتي في ظهورهم أو في غيابهم فعلمه عندي أنا وحدي ، صدّقني السامعون أم لم يصدّقوا، فالمهم عندي الاستمرار في ممارسة عملي هذا، لأن التكاسل وعدم الممارسة يؤديان لضياع الخبرة...ومن يضحي بخبرة كهذه قلّ وجود من يتقنونها بحنان وألفة مثلي؟؟. الجولة قادمة ورغم وقوعي من الأعالي، سوف أنازلكم أيها الأوغاد. وتيقّنوا أن غايتي من وراء ذلك ليس من أجل الانتصار فقط وإنما لتعرفوا أنه لا خلاص من خيراتي وشروري. سأوظف كلّ طاقاتي و سأنازلكم بلساني ، لكنه نزال شريف يتلاءم ونقاوتي واخلاصي. حتى لو اضطررت للزيف والخداع ، أنبطح أحيانا أزحف وأحيانا أخرى أدوس على كرامتي وأتغافل عن مهابتي عاصرة قلمي أجره أحيانا وأرفعه أحيانا أخرى إلا أنه يظل منخفضا منصوبا على الأرض. وفي إحدى الليالي النابية كغيرها والتي كنت أنامها مرارا ، وحين بدأ شخيري بعد أن ملّني مضجعي من كثرة التقلب وتراخت أعصابي واسترخمت، استيقظَت أنا.. وإحدى أخواتي على إثر وقعة عنيفة من السرير أيقظتني مذعورة، فإذا بها تقول لي وابتسامة عريضة على شفتيها: " ذهب الفقر وأقبل الغنى ... إنه الكنز يا أنا... إنه السعد آت ... لقد حلمت يسوع المسيح يقول لي ابشري، حديقتك وورودك تحتها كنز . لم أصدقها لأنني أعرف أنها تعاني من إعاقة في الدماغ. لكن في اليوم التالي وبعد أن غفلت ، أستيقظ على أنا الأخرى تأتيني صارخة فأجد نفسي مقرفصة في السرير. ماذا ترين ؟ فتجيب والفرحة تطير من عينيها ... قائلة .... أتعرفين لقد رأيت موسى يحمل عصاه ويضرب بها في حديقة بيتنا فيخرج من تحت الورود كنوزا كثيرة ....تمالكت نفسي وقلت لها نامي وفي الصباح نتحدث عن الموضوع . تسعة ليالي متتالية وكلهن يأتين إلي واحدة تلو الأخرى ، أنا وأنا وأنا ، أمّا أنا فأقول لهن لا أؤمن بالأحلام ولا بأي شيء ... وأنا ترد عليّ قائلة، أقسم بالرب أنني رأيت يسوع المسيح !. وأخرى تقول لي بأنها رأت موسى الكليم وأنا الأخرى تجيب لم لا تذهبي إلى الحديقة وسترين أن حلمنا حقيقة - وأنا تقولي لي انهضي…انهضي فقد فرّج يسوع كربي ،وجاءني الرزق الذي كنت أطلبه بالمشقة فلم أظفر به وأنا الأخرى تقول لي أنت يهرب الخير منك يا "ناكرة الخير" .... وأخيرا قلت في نفسي لم لا أذهب وأجرّب حظي وأحفر في الحديقة تحت تلك الورود. انتظرت حتى الصباح، فهرولت مسرعة إلى الحديقة، وحفرت وحفرت أنا وأنا وأنا .... حفرت كل أرض الحديقة لم أترك شبرا منها . قلعت تلك الورود و الأشجار والنباتات ، ولم يبق في الحديقة إلا التراب المنكوش و أخيرا تقع يداي على علبة بها عشرات من الأقلام .... الأقلام ...!؟ أهذا هو الكنز الذي حلمت به أنا ...؟ يا إلهي ... متى كانت القلم كنزا ...؟ ضاعت حديقتي... قتلت ورودي ... لم يبق شيئا .... حدقتي تبعثرت ... ورودي انقرضت ....وأزهاري ذبلت..!!! قرفصت على الأرض وسط زحمة من كتل التراب في الحديقة أقلب الاقلام داخل العلبة، أتطلع إليها في غضب ويأس، أفكاري تقفز على متن عواصفي، وصراخي يتهافت في زحمة الفراغ بصوت عال وأنا أكسرّ تلك الأقلام واحدا تلو الآخر: آه لو كانت الأقلام تجسّدهم في هذه اللحظة لقتلتها كلها .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |