قصة قصيرة


من خلف الجدار
 

زكية خيرهم

رنّ الهاتف وسمع صوت من خلف الجدار، بعثر لديها كلّ الفصول، وكأن ذلك لم يحدث أوكأن ما حصل عبارة عن حلم ... عن وهم كان فقط في مخيلتها".الف مبروك عزيزتي كريستين على الانجاز الهائل والرائع. سعيد بإتمامك هذا المشروع وكأنّ حملاُ كان يثقل كتفيك رميتيهِ على الأرض. انا جاهز، للقائك ولأبارك لك انجازك والساعات كلها لك غدا. أنتظرك متى شئت. وسأحضر الكؤوس مليئة بربة العنب او الجعة الأطيب طعاما. مرحبا بك " كلماته وقعت في أحضانها وكأن ما سمعته لم يكن إلا وهما. أمعقول بعد كل هذه السنين سنلتقي؟

في اللحظة التي فكرت باللقاء، انتابتها رعشة سرت في جسدها معبأة بذكريات الماضي، بتلك الابتسامات الدافئة التي سحقتها السخافات على الجدار المزدان بالصدى. ذهبت إليه لتلقاه لأول مرة بعد طول الغياب. لقاء اختلطت فيه المعاني وتمازجت واختلفت كبرق خاطف اخترق قلبها فكادت تقع على الأرض من شدة المفاجأة. ساد الصمت بينهما ليتكسر فجأة ببعض الجمل الباردة، الجامدة الناعمة، الغاضبة الراضية. جمل متقطعة متقاطعة في ارتباك وحذر بين الحين والآخر. نظر إليها بابتسامة تنم عن فرحه بقدومها ويفاجؤها سؤاله:

- كيف حال ماريانا؟

نظرت إليه مشدوهة لثوان وأجابت بسرعة ومن غير تفكير.

- لم أرها منذ مدة.

صمت هنيهة ثم تغيّرت تقاسيم وجهه إلى جدّية بالغة وقال:

- إنّها صادقة.

تمنّت أن تصرخ في وجهه وتقول له، ماذا تعرف عن الصدق والصداقة التي ماتت بيننا لخمس سنوات. قتلها عزرائيل من معشر الإنس ومشيت أنت في جنازتها بصمت من غير أن تلتفت من ورائك لترى سيلا من الدموع التي جرف معها الأمل ونثرته على متن عاصفة. أمعقول اختلطت الكلمات وتناطحت المفردات ببعضها فأصبحت تعطي اختلافا في المعنى؟ أربكها هدوءه، جعلها تبتلع ثرثرتها في كلمات اختنقت في حلقها. كانت اللحظات في قفص الاتهام والشمس تنزف من ثقب الظلام. تعثّر فرحها للقائه فصارت تعزفها قيثارة الذكريات التي مازالت تثقلها الجراح داخل قصيدة مطوية في رقاق من حلم ذرفته العين فرحا وحزنا على مفترق الطرق.

- نعم اختفت من حياتي لأنها لم تتحمّل وجود انجليكا في قائمة صديقاتي.

كانت تقول كلامها وتنظر إليه في امتعاض. ثم استرسلت من غير أن تنتظر منه تعليقا. كم من مرّة صرخت ماريانا في وجهي إلى متى سيظلّ طيف انجليكا يقفز على متن العواصف في هدوء مفتعل؟ طوفان ينتزع من الطبيعة جمالها. نعم، اختفت ماريانا كما اختفت انجليكا وماري صوفي وسوزانا. كم من مرّة سمعن صوتي مبحوحا من الأسى وكلهن طلبن مني أن أرمي بتلك الوردة الشائكة على الجانب الآخر من الشاطئ. فكان جوابي كيف لي أن أفعل ذلك وقد جمعني بها عقد من الزمن كانت فيه ضحكاتنا ترقص وأحزاننا تغتسل حين نلتقي، قد يصلح سلوكها مع الوقت. فأجبن كيف للمرء الذي شاب على الإساءة أن يهتدي.
كانت تحدّثه وتنظر في عينيه الجامدتين اللتان أثارتا غيظها.
- كفى تجذيفا عن أنجليكا. إنها ملاك من الوفاء. يكفي أنّها حذرتني يوما من الوقوع حين كنت أعشى. ودعت الله أن يرقد بعضهم إلى الأبد وأن يناموا في ليلة من غير دجى ليبقى الظلام متساقطا في بئر من غير قعر
- نعم ، أولئك الذين تمنّتهم أن يرقدوا إلى الأبد واجهوا حقيقتها ورفضوا تلبية رغباتها

لم يستحسن كلامها. ولكي يتجنّب الحديث عن ملاكه. قام إلى المطبخ مهرولا وأحضر لها كأسا من النبيد.
- اشربي أنه نبيد من إيطاليا شرابك المفضل. هل تذكرين؟

سؤاله جعلها تذهب بفكرها إلى الماضي، إلى مسافة خمس سنوات من الغروب الحزين و البون البارد. هل مازال يذكر شعاع الشمس المضيء في تلك الرياح الموسمية حيث تتفتّح الزهور، أم أنّها كانت لحظة تتوقف فيه قافلة الأحلام ويذهب كلّ في طريقه؟ لقد تمزّق كل شيء ، وطوت السنين بَُعيد الفراق من خلف الجدار ولم يبق إلا لهاث ، يطلّ من حين ومن ظلّ بعيد. أمعقول صدّق فحيح تلك الأفعى التي تنعي الحروب؟هل أغمِضُ روحي حتّى يطلّ الصباح شهيا، أم أبكي حلم الربيع الذي يروم الهروب؟ كلماتها تبعثرت وسط ذلك المساء العقيم، انهارت دموعها ورفعت بكأس النبيذ في يدها على باقة آخر الذكريات، وجرعة خمر ترجف ممتعضة بين شفتيها:
- في صحة من نخرت تسكّعاتها الرياح وأذابت حرارتها الدفء فلم يعد بيننا إلا الجفا".

أومأ برأسه وهو يبتسم نافيا اتهامها له.

- يتهيّأ لك ذلك ...!!!

ابتسامته زادت من حزنها وألمها وأرجعتها إلى وسط المسافة التي كانت تربط تلك السنوات من الغياب. لماذا التقينا في وسط ذلك الطريق الذي يرتمي على حافة المنفى الغريق؟ لماذا أراد لقائي بعد طول الغياب؟ وهاهو الآن يشدّ روحي كي يراني. بين كل تلك الورود الحاضرة في أناقة كانت لحظات ملتاعة بغابر حزن عتيق. كانت الرّيح تطرق نافذة الغرفة، فرأت السّماء تسقط متدحرجة من جسرها لتتهاوى على سقفها. حضورها معه عبارة عن حلم عابر يرتسم وجودا على أجنحة الفراشات. لماذا أتيت إليه رغم الظلمة التي مازالت متناثرة على انكسار دفين؟ هل أستدعاني ليثأر مني بنظراته التي تشع كلّها اتهاما ولوما. هل يثيره غضبي، هل يحب أن يرى آلام الفراق على سحنة وجهي؟ ماذا يريد مني ومن دعوتي إليه؟ كانت تحب نظرات عينيه التي كانت مليئة بالرغبة لتنفس براعم الزهور، ولسماع زقزقة الطيور، وصوت الناي على الشاطئ، وأغنية تغنى على ضفاف النهر. لم تعد الأشياء كما كانت. تغير كل شيء. غيرتها مسافات الغياب رغم أنّها كانت مملوءة بحضوره.

كان يجلس بجانبها، إلاّ أنها كانت تغرق في فراغ تلك الأريكة البطحاء ومن بينهما جدار منيع يطرق وجعا قديما وتهجر فيه المسافات أميالا من الزمان. نظرت إلى عينيه الكبيرتين. كانتا تشعان دفئا وغموضا، بينما هي كانت تبحث فيهما عن كنه المصطلحات وعن الكلمات والمترادفات فلم تجد فيهما إلاّ طلاسم لا تكاد تفهمها ومعان غير كلّ المعاني التي عبثت بها تلك العاصفة المحمّلة بالأشواك. تمنّت أن تظلّ جالسة على الأريكة بجانبه وأن تضع رأسها على زهر الربيع وتغزل خيوط غروب الشمس بأناملها وترسم بالفرشاة أحلام الشفق حيث البحر يعانق الرمال، وحيث قوس قزح يلوّن السّماء والكوخ مستلق في ارتخاء على سفح الجبل ينظر للبراري المترامية وهما في زورق يطفو تحت احمرار الغروب. إلا أنها نهضت كالبرق من مكانها وجلست على الأريكة المجاورة مبتعدة عنه وكأنها بذلك تلوم تلك الصدفة التي تسلّلت من الشقوق ومن ثقوب الأبواب كالأعشى ، كبحر بعد العاصفة. انتهت تلك الأغنية، وأزيلت كلّ أشجار الغابة التي كانت تدفن الأسرار وانكشف ذلك القبر الذي كان يواري ترابه فوق تلك العنقاء.

خمار على عينيه أحجب عنها الرؤيا. كان مملوءا بالكلمات، أحيانا تشدو متمايلة كلهيب نار المدفأة، وأحيانا كصوت الرياح قبل هطول الرذاذ. امتدّت يدها المرتجفة إلى نبيذ ذلك السكون وارتشفته جرعات متتالية كما آلام جراحها، تبكي في صمت ذلك السكون الخافت ضوءه . مظلمة كحكايتها، كما الليل الدّامس المختنق بالضّباب. إلى متى سيظلّ ذلك الجدار يكبّل الماضي بصورة حنان زائف منقوش على الجدار؟ إلى متى سيظل الماضي مستحيلا يهتف في أعماق الروح ويرثي غبار الحاضر؟ أجهشت بالبكاء ووقفت من مكانها تهمّ بالرحيل وكلماتها متحشرجة تقول له في حين كانت ترنو بخطواتها نحو الباب. لماذا تتصنع الكلام؟ قلها ولا تتردّد. لقد ضاعت كلماتك في غياهب تلك العاصفة المشئومة واختفى معها ذلك الحلم الجميل.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com