قصة قصيرة

الطريق الى القدس
 

عادل سالم
 

منذ مولده لم يغادر المدينة المقدسة، ولد فيها وتخرج من مدارسها، ورفض أن يلتحق بجامعة خارج أرض الوطن فظل صامدا بها. اشتغل بالتجارة وبعد سنوات طويلة أصبح يملك أحد المحلات في شارع الواد الممتد من باب العمود حتى باب السلسلة. كان سعيدا في حياته رغم كل الممارسات الإسرائيلية بتضييق الخناق على سكان القدس، فقد قرر أن لا يمنحهم نشوة الانتصار عليه.
- لن أتركها لمحتليها، سأموت وأدفن في مقابرها.

هذه كلماته الشهيرة، فالقدس بالنسبة إليه لم تكن مكان ولادة. بل كانت انتماء حقيقيا للمكان، والتراث، والتاريخ. كان كثير التجوال في شوارعها، وجبالها حتى أصبح يعرف كل زقاق وحي فيها. إن تسأله عن أحد محلاتها يحدد لك بالضبط مكانه في الشارع، وصاحبه الحالي، والسابق. أصبح معلما من معالم القدس، ومرجعا تاريخيا، وروحيا. القدس موطنه الدنيوي، وجنته التي ينتظرها يوم القيامة. ما سر هذا العشق لهذه المدينة المقدسة؟

هل سورها العظيم الذي بناه السلطان سليمان القانوني؟ هل هو المسجد الأقصى الذي يتوسط مدينة القدس. وبرز كعلم لها من السماء؟ أم كنسية القيامة القريبة منه؟ أم جبل المكبر الذي دخل منه عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس يقود جملا؟

هل هي شوارعها القديمة التي غنت لها فيروز؟ أم جبل الطور الذي منه ترى كل القدس كقطعة فنية رائعة امتزجت فيها كل الألوان بريشة مبدعها؟ الحقيقة لا يعرفها أحد ولا حتى هو، كل ما يعرفه أن القدس بالنسبة إليه روحه، وإلهامه، وسر وجوده.
إنها مصدر طاقته، وإصراره على الحياة.

في أواسط الثمانينيات استطاع أن يشتري قطعة أرض في منطقة كفر عقب التابعة لبلدية القدس حسب التقسم الإسرائيلي، وبعد جهد طويل حصل على رخصة بناء وبنى عليها بيتا جميلا يعده قلعته الأبدية، وشبهه بقلعة صلاح الدين. شعر بالراحة بعد بناء البيت. قال لزوجته:
- لن يخرجونا منها لقد بنيت بيتا وجعلت له أساسات قوية، وهذه الغرفة أسفل العمارة، عبارة عن ملجأ نختبئ فيه إذا اندلعت الحرب من جديد. لن نهجر إلى أي مكان فإما أن نموت هنا، أو نعيش مع أولادنا وأحفادنا.

بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام (١٩٨٧) بدأت إسرائيل تقيم الحواجز على الطرقات لفصل المدن عن بعضها وفصل المدن عن القرى، ومع استمرار الانتفاضة وتصاعدها تحولت بعض تلك الحواجز إلى نقاط عسكرية دائمة، ووضعت الحواجز الترابية، والأسلاك الشائكة حتى بين حي وآخر، وأصبح المرور من منطقة إلى أخرى يحتاج إلى تصريح ويأخذ وقتا طويلا قد يمتد إلى يوم كامل مما عطل أعمال الناس، وحال بينهم وبن إنجاز أعمالهم. ولأن القدس مركز فلسطين الثقافي، والديني، والسياسي والصحي فقد تضرر كثير من الموطنين بمن فيهم سكان القدس، وصاحبنا سعيد أحدهم.

اشتدت المضايقات بعد انتفاضة الأقصى عام (٢٠٠٠) وتصاعدت الأزمة حتى أصبح تجاوز نقطة التفتيش في قلندية التي تفصل كفر عقب عن وسط القدس يحتاج إلى ساعات، لذلك صار سعيد يحرص على الخروج من بيته مبكرا ليصل إلى محله في الوقت المناسب. أحيانا بعد صلاة الفجر، وبعض الأحيان قبل صلاة الفجر بقليل. لكن حتى تلك لم تضمن له الدخول. فالجنود العاملون في تلك النقطة كانوا كثيرا ما يغلقون الطريق كليا في وجه الداخلين باتجاه القدس دون إبداء الأسباب ويمنعون أي شخص من الاقتراب منهم ولا حتى سؤالهم لماذا؟ ولا متى سيفتحون الطريق؟

كان سعيد في تلك الحالة يجلس في سيارته يستمع إلى نشرة الأخبار، وأحيانا إلى إحدى الأغنيات الطربية، ولأنه سئم من سماع نفس الأغاني اشترى مجموعة من إسطوانات الأغاني لعشرات المطربين الجدد والقدامى، وكان ينتقل من إسطوانة إلى أخرى حتى يقرر أحد الجنود ويفتح الطريق.

وقد طورت إسرائيل نقطة الحدود هذه ووضعت لها إشارة ضوئية فإذا كانت الإشارة حمراء يعني أن على السيارات الوقوف بعيدا حتى يتغير لونها إلى الأخضر حسب مزاج الجندي المسؤول. وعندما يتجاوز سعيد تلك النقطة فأمامه نقطة تفتيش أخرى أقل تدقيقا لكنها أكثر ازدحاما لأنها تجمع إضافة للقادمين من قلندية، وسمير أميس، وكفر عقب، ورام الله، القاطنين في الرام وضاحية البريد.
الانتظار صعب، ومن لم يجرب فليسأل سعيد الذي يقف بسيارته في طابور طويل ينتظر دوره للدخول. الطقس حار، السيارة لا يوجد فيها مكيف تبريد، من أين هل نحن في أمريكا؟ يقول سعيد. يكتفي بفتح شبابيك السيارة ومسح العرق عن جبينه كل خمسة دقائق. يحمل في السيارة علبة كبيرة من الماء المثلج الذي يتحول بعد ساعة إلى ماء ساخن من شدة حرارة الجو.

سعيد هذه المرة مع جاره الذي قرر أن يقبل دعوته ويستقل السيارة معه إلى القدس.
قال له جاره:
- متى ستزول هذه الحواجز؟
- تزول؟ يا جار ألا ترى السور الذي يبنونه؟ إنهم يفصلون القدس إلى نصفين. انظر سكان الرام سيصبح عليهم التوجه إلى قلندية قبل التوجه إلى القدس.
- إنهم يضايقوننا كل يوم. متى سيحل السلام؟
- سلام أي سلام؟ اليهود لا يريدون السلام.
- قصدك يريدون الأرض والسلام؟
- تمام يا جاري، يعني يريدوننا الرحيل ليصنعوا معنا السلام في المنفى.
- والسلطة؟
- السلطة؟ أية سلطة؟ كلهم مشغولون باللطش والسرقة ومصالحهم الخاصة، يعني إن غابت عنك زيهم زي الحكومات العربية.
- ألا يكفي اليهود يحاصروننا وجماعتنا يتقاتلون هذا حماس وهذا فتح.
- يا شيخ، خليها على الله. ما رأيك أن نسمع أغنية أحسن لنا.

لم تتحسن الأحوال بل زادت سوء، كثيرون انتقلوا للسكن خلف نقطة التفتيش، وآخرون لم يجدوا مكانا يسكنونه في القدس، حتى بيوت البلدة القديمة التالفة أصبحت تغص بالسكان، فاضطر بعضهم للبحث عن عمل في رام الله كي يهربوا من نقاط التفتيش العسكرية اليومية التي تضيع معظم وقتهم سدى. سعيد ظل صابرا كأنه من دم بارد. كان دائما يقول: ليس أمامنا خيار آخر، يريدون تطفيشنا ولكننا على صدورهم جالسون.

رزق سعيد بمولود جديد كان السادس بعد أولاده الخمسة (ثلاثة أولاد، وبنتان) فتوجه إلى مكتب الداخلية الإسرائيلية في القدس لتسجيله حتى يصدر له شهادة ميلاد. فرغم وجود السلطة الفلسطينية، فسكان القدس مجبورون للتوجه إلى داخلية إسرائيل لتسجيل أبنائهم، بعد انتظار طويل من الصباح الباكر حتى الثانية بعد الظهر وصل شباك تسجيل المولود الجديد. قدم أوراق مستشفى المقاصد في القدس، وبطاقته الشخصية، المولود الجديد اسمه صابر. صابر الاسم الوحيد الذي اختاره سعيد ليصف نفسه في مواجهة التطبيقات الإسرائيلية على أهله وبلده.
نظرت الموظفة اليهودية في بطاقته، ثم في جهاز الكمبيوتر الذي أمامها، بعد ثوان قالت له:
- بطاقتك يا سعيد مسحوبة، انتظر قليلا.
حملت البطاقة وغادرت مقعدها.
كان سعيد مبهوتا بما قالته:
- مسحوبة؟ كيف أنا أسكن في القدس ولم أغادرها.
عادت بعد لحظات بدون البطاقة، قالت له:
- المدير يقول إن بطاقتك ملغية لأن مكان سكنك أصبح تابعا لمنطقة ج، أي خارج حدود بلدية القدس.
- ماذا تقولين؟ عندي رخصة بناء صادرة من بلدية القدس.
- هذا المخطط أقر منذ سنة تقريبا.
- وبطاقتي، وعملي؟
- لا أعرف، هذا ما قاله المدير.
- أريد بطاقتي، لا تسجلي الولد.
- بطاقتك مسحوبة ولن تعاد إليك.
- ماذا تقولين أين المدير، أريد الحديث معه.
- اخفض صوتك حتى لا أستدعي لك رجال الأمن.
- ولكنك صادرت بطاقة الهوية وتعرفين أن الجيش يدقق في هويات المواطنين العرب كل لحظة.
- دعني أرى ما يقول المدير.
غابت ثم عدت بعد لحظات مع رجل كبير في السن يلبس نظارات سميكة وعلى رأسه طاقية يهودية سوداء.
ابتسم له ابتسامة صفراء، وسأله:
- ماذا تريد؟
نظر إليه سعيد بغضب وقال:
- أريد البطاقة التي صادرتها.
- هذه البطاقة مسحوبة لأنك لا تقيم في القدس.
- وبأي قانون تسحبها؟
- قانون القدس.
قانون القدس؟ وأين سأعيش؟
- ليس مشكلتي، اذهب إلى السلطة.
- ولكنني من سكان القدس ومواليدها ولن أتركها.
- أنت حر.
 أدار المدير ظهره وعاد إلى مكتبه.
ماذا يفعل سعيد الآن؟ هل يلحق ويحطم الباب؟
سيلقون به في السجن. هل يصرخ؟ هل يشتم؟
لن يعيدوا له بطاقته. هل يستسلم؟ لا لكن ماذا سيفعل الآن.
ترك المكتب وهو حائر، يسير في الشوارع بدون بطاقته؟ ماذا سيفعل؟ ماذا سيقول للجيش عندما يسألونه على الحاجز أين بطاقتك؟ هل سيسمحون له بالعبور أم سيعيدونه من حيث جاء؟

توجه إلى مكتب المحامي جواد على الفور وشرح له قصته.فقال له المحامي:
- علينا رفع قضية لإعادة بطاقتك، لكن نجاحها غير مضمون.
- غير مضمون؟ كيف؟ لماذا؟أنا لم أخرج من القدس ولم أسكن خارج حدودها،عندما بنيت البيت كان ضمن حدود القدس. هم الذين غيروا خارطة المدينة لتضم أكبر نسبة من السكان اليهود، وأقل عدد من السكان العرب. هذا ليس ذنبي.
أنا لا أطالب أن يغيروا خارطتهم هم أحرار في أن يغيروا ما شاءوا ما داموا يحتلونها، لكن ليس من حقهم أن يطردوني منها بجرة قلم.

عاد مساء إلى البيت، لاحظت زوجته تعابير الغضب المرسوم على وجهه، سألته:
- خير إن شاء الله؟! أراك غاضبا؟ كأنك تشاجرت مع أحد؟
- ليت الأمر كذلك؟
- ماذا إذن؟ أخبرني ماذا حصل؟
- ذهبت إلى الداخلية لتسجيل صابر لإصدار شهادة ميلاد له فصادروا بطاقة هويتي وقالوا لي أنت لم تعد من سكان القدس.
وضعت يدها على خدها وقالت له وقد قطبت حاجبيها:
- يا لطيف، وماذا فعلت؟
- ماذا أستطيع أن أفعل، والحراس الجنود يملأون المكتب خرجت من عندهم بدون بطاقة، أحمد الله أنه لم توقفني أية دورية وتسألني عن البطاقة.
- وماذا ستفعل؟
- لقد ذهبت إلى مكتب المحامي ووكلته لمتابعة الأمر فنصحني كي نستطيع كسب القضية أن أنتقل لمكان آخر لأن بيتنا الآن أصبح خارج حدود القدس.
قالت له:
- كنت أشعر أن شيئا يدبر لنا، ألا تذكر أنهم لم يرسلوا لنا فواتير ضريبة البيت هذا العام؟ قلت لي حينها ربما نسونا، وقد قلت لك...
- أعرفت قلت «إن اليهود مكارين لا بد وراء ذلك أمر خطير». وبالفعل هذا ما حصل.
- إذن سيسحبون بطاقتي أيضا؟
- لقد أخبروني أن كل سكان المنطقة سقطت بطاقاتهم من مكتب الداخلية وأنها غير صالحة لشيء.
- الكلاب؟!
- لعنهم الله. ألا يكفي الحواجز، والمضايقات
والسور الذي يبنونه، والآن يطاردوننا حتى على بطاقة الهوية.
أين سنعيش؟
- يريدون تهجيرنا.
- لن يحصل ذلك حتى لو تحولت إلى متسول.
- وماذا ستفعل الآن؟ كيف ستذهب إلى المحل؟
نظر إليها وقد شعر أن هموم الدنيا تنزل على رأسه.
- سأحاول أن أجد بيتنا في البلدة القديمة يريحني من الحواجز. وسأقلل من تنقلاتي حتى نرى ما يفعله المحامي.
- وبيتنا هذا؟
- ليس أمامنا خيار، سنغلقه حتى تتغير الأحوال وتحل القضية.
- صدقني أرى الحل بعيدا جدا.
- عندما يكبر الأولاد يسكنون فيه.

في اليوم التالي ترك سعيد سيارته باب بيته، وتحرك نحو القدس حيث استقل إحدى السيارات (السرفيس) حتى الحاجز الرئيسي في قلندية (مسافة ليست بعيدة) وهناك بعيدا عن أعين الجيش استدار إلى جهة المخيم وبدأ يسير مشيا على الأقدام، ليلتف حول المخيم ويدخل الشارع الجديد الذي افتتح خلف منطقه الرام، ومن هناك ظل ماشيا كل منطقة الرام حتى اقترب من المفرق الرئيسي. عليه الآن تجاوز نقطة التفتيش قرب مفرق الضاحية. فاتجه شمالا عبر شارع ضيق متعرج إلى ضاحية البريد، وهناك قبل مفرق الضاحية مع الشارع الرئيسي اتجه إلى اليسار عبر شارع فرعي إلى أعلى الجبل خلف العمارات بعيدا عن نقطة التفتيش القربية، وبعد أن وصل إلى سور إحدى العمارات هناك قفز عنه وقطع الطريق إلى شارع صغير منحدر من العمارات القريبة من مستوطنة (نيفي يعقوب) وسار باتجاه الشارع الرئيسي. فجأة كان أحد السكان يغادر بيته في المنطقة فطلب منه سعيد أن يوصله إلى شعفاط كي لا يراه الجنود ماشيا فينادونه للتفتيش. سأله السائق:
- هل أنت من أهل الضفة؟
- لا من القدس وصاحب محل في شارع الواد.
- اصعد.
نزل سعيد هناك واستقل الباص باتجاه باب العامود. كان تعبا جدا، يتساءل هل هكذا ستكون رحلته كل يوم إلى القدس؟

بينما كان غارقا في تفكيره توقف الباص فجأة، نظر ليرى إن كان أحد الركاب سينزل فلم ير راكبا مستعدا للنزول. كانت دورية لحرس الحدود الإسرائيلي المتنقلة قد أوقفت الباص للتفتيش. صعد أحد الجنود وبدأ يدقق بالهويات. وعندما وصله الدور، قال له سعيد:
- نسيت البطاقة لكن هذه رخصة السواقة الإسرائيلية انظر؟
نظر إليه الجندي، تفحص رخصة السواقة، سأله:
- لماذا نسيتها؟
- تعطلت سيارتي ونسيت البطاقة بالسيارة أمام البيت.
اشتبه به الجندي، لكن سعيد بادره على الفور:
- لو لم أكن من سكان القدس لما كان معي رخصة سواقة من القدس. بإمكانك أن تتصل. انظر هذا مفتاح محلي في القدس.
هز الجندي رأسه وقال له:
- لا تنس الهوية في المرة القادمة.

حمد الله على أن الأمر مر بسلام هذه المرة. لكن من يضمن كيف ستكون المرة القادمة.
سعيد وعائلته الآن يسكنون في منطقة رأس العامود التي تبعد حوالي كيلومتر عن سور البلدة القديمة.
من شرفة بيته يستطيع أن يرى سور القدس الذي يقف شامخا رغم الرياح.
للقدس سبعة أبواب مفتوحة يعرفها كلها لكن أقربها إليه باب الأسباط المحاذي للمقبرتين الممتدتين حول السور إحداهما يسار الباب والثانية إلى يمينه. بيته الجديد عبارة عن شقة في عمارة من الطراز القديم، فيما ظل بيته الجديد مغلقا لا يسكنه أحد.

سارت الأمور على ما يرام، لكن منذ الانتفاضة الثانية تكثفت دوريات الجيش في الطرقات باحثين عن (المتسللين) من مدن الضفة الغربية إلى القدس. الطريقة الوحيدة للتخلص من الاعتقال أن تبرز لهم بطاقة القدس. وحتى تلك البطاقة كانت أحيانا لا تحمي حاملها من البهدلة والشتائم خصوصا الشباب الذين يرى فيهم الجيش وقود الانتفاضة وحاملي شعلتها المضيئة.

سنة كاملة وهو على تلك الحال، لا يعرف لها نهاية جلسات المحكمة لا تبشر بالخير، ومشاكله مع دوريات حرس الحدود لم تتوقف حتى حفظه بعضهم وأصبحوا يتركونه بحاله، فكلما اعتقلوه، يتم إطلاق سراحة بعد ساعتين. في الجلسة الأخيرة للمحكمة كانت يده على قلبه. وحينما نطق القاضي حكمه بإعادة البطاقة له، لم يصدق، لكن المحامي أكد له أن كل الأوراق لصالحة، فهو ولد بها وعاش بها ويعمل بالقدس، وحصل على رخصة بناء بالقدس، ولم ينتقل منها، ولكن البلدية غيرت مخططها، وأخيرا انتقل للسكن بعدما علم ذلك ويدفع الضرائب ومستحقات مؤسسة التأمين الوطني.... يا سلام مواطن صالح، رغم ذلك لم يتركوه بحاله.
الآن هو من المرضي عنهم، من سكان القدس، مولدك في القدس أبا عن جد لا يعطيك حق الإقامة فيها، بل قرار القاضي المحتل القادم من روسيا، ورومانيا وبولندا وحتى من إثيوبيا فهو الذي يمنحك هذا الحق، وله وحده حق طردك منها حتى لو شهد في صفك كل حجارة القدس، وسورها وأبوابها.

لكن ماذا يفعل ببيته الكائن في كفر عقب؟ هل يبيعه؟ هل يؤجره؟ كيف؟ والمستأجرون لا يلتزمون بالعقد، ولا يخرجون من البيت إلا بالقوه. لا لا، لا يريد أن يؤجره، سيترك البيت لحين استتباب السلام، السلام قريب. لا يعرف متى، كل ما يعرفه أنه في كل عام يستمع إلى نفس الأقوال النصر على مرمر حجر، الدولة قريبة، اصبروا….إلخ حتى مل كل تلك الشعارات. المتباكون على القدس كثيرون لكنهم يتاجرون باسم القدس ومقدساتها.
بعد فترة ليست قصيرة ركب سيارته واتجه إلى بيته في كفر عقب. البيت كما هو، الأعشاب تنمو حوله دون أن يقلمها أحد، دفع الباب الخارجي للسور، ثم أخرج المفتاح من جيبه وهم بفتح الباب. لكن المفتاح لم يدخل في الفتحة المحددة للقفل.
غريب، هل نسي المفتاح؟
نظر إلى مفتاحه مرة أخرى، دقق به. إنه مفتاح البيت لا يمكن أن ينساه فقد مر على استخدامه أكثر من عشر سنوات. جرب مرة أخرى لكن دون نتيجة. نظر إلى قفل الباب، شعر كأنه قد تغير، لكنه لم يغيره، هل غيرته زوجته دون إعلامه؟
اتصل بها من هاتفه الخلوي فردت عليه.
- أبدا لم أصل البيت منذ انتقلنا إلى هنا.
- هل فعلها بعض اللصوص؟
أغلق الخط وبدء ينظر من الشبابيك إلى داخل البيت فشاهد باحدى الغرف الداخلية بعض الآثاث.
أنا لم أترك شيئا في البيت، من أين جاءت الآثاث؟ لا بد أن أحد الزعران يسكن البيت مستغلا غيابنا.
ثارت ثائرته، اتصل بأحد إخوته وطلب منه أن يحضر معه لاقتحام البيت. فهب أخوه لنجدته. عاد سعيد إلى السيارة، فأحضر بعض المفكات والشاكوش وحاول بها كسر القفل، بعد ساعة وقبل أن يصل أخوه استطاع كسر الباب، دخل البيت، فشاهد بعض الآثاث الموجودة في البيت، دخل غرفة نومه فلم يصدق. وقف مبهوتا:
- يا إلهي، فعلها الكلاب.
كان علم إسرائيل معلقا على الحائط، فعرف أن المستوطنين استولوا على البيت. فجأة سمع صوت سيارات تقف أمام البيت فخرج ليرى سيارة للجيش وأخرى للمستوطنين اليهود، يحملون أسلحتهم. سألهم:
- ماذا تريدون؟
فقال له الجندي:
- أنت ماذا تفعل هنا؟
- هذا بيتي.
فقال له أحد المستوطنين الذي يبدو في الستين من عمره:
- هذا بيتنا وليس بيتك، لماذا كسرت الباب لو كان بيتك؟
- لأنكم غيرتم قفل الباب واستوليتم عليه.
فقال له الجندي:
- هل معك أوراق أنه بيتك؟
- طبعا!
- أين هي؟
- معي في البيت في راس العامود.
فضحك المستوطن وقال للجندي:
- لو كان بيته لكان يسكن فيه، لكن تعال إلى الداخل،
دخلوا جميعا فقال المستوطن:
- كيف يكون بيته وهنا صورتي على الحائط، وهذا علم دوله إسرائيل. إنه يريد سرقه البيت.
- اخرس يا ك.... هل تريد الاستيلاء على بيتي وأنا حي؟
- أنا لم أستول على البيت أنا اشتريته من الشركة التي اشترته منك.
-متى؟ أنا لم أبع البيت.
فقال له الجندي:
- اسمع هذه أمور تحلونها في المحاكم أنا هنا لأخرجك من البيت وسآخذك لقسم الشرطة لأنك كسرت الباب وتسببت بأضرار.
- إنه بيتي، يا عالم.
- قل ذلك للقاضي.

قيدوه وساقوه إلى الجيب فوصل أخوه في تلك الفترة، فوجئ بما حصل، سأله:
- ماذا جرى؟
- المستوطنون استولوا على البيت ويدعون أنهم اشتروه.
- الكلاب
اقترب منه أحد الجنود وسأله:
- من أنت؟
- أنا محمد.
- أنت أخوه؟
- نعم.
- اذهب من هنا قبل أن أسجنك معه.
- لكنه بيت أخي.
- أخوك باعه.
- هذا كذب.
- حسنا كذب قل ذلك للقاضي أنا لا أحكم بينكما.
قال محمد لسعيد:
- توكل على الله سأعود بسيارتك فقد جئت بسيارة أجرة أعطني المفتاح. وسأوكل لك محاميا.

غادر محمد البيت ليبدأ اتصاله، فيما اقتيد سعيد إلى قسم الشرطة في القدس.
كان خلال الطريق متوتر الأعصاب، يكاد ينفجر. الكذب عينك، عينك، يستولون على البيت وهو بيتي ويدعون أنهم يريدون السلام وأننا الإرهابيون. آخ لو استطع أن.....
لا أعرف ما العمل الآن؟
محام من جديد؟ مصاريف؟ جلسات؟ ملاحقات؟ حتى لو أعادوا البيت السؤال إلى متى؟ متى سيتوقفون عن الاعتداء علينا، ونهبنا؟

في اليوم التالي خرج سعيد من السجن بكفالة، وعلى الفور رفع قضية يطالب فيها باستعادة بيته، وقدم كل الأوراق التي تثبت أن البيت بيته. حتى قال له المحامي أن نجاح القضية مضمون مئة بالمئة. بعد عدة جلسات أكد القاضي أن أوراق سعيد كلها صحيحة وأنه فعلا كان صاحب البيت لكن أوراق المستوطن كلها صحيحة أيضا، وأن سعيد قد باع الدار إلى إحدى الشركات التي باعتها للمستوطن.
صاح سعيد من الغيظ
- لكني لم أبع البيت.
- لكن التوقيع حسب محلل الخطوط توقيعك والشهود شهدوا على ذلك.
- يا حضرة ال….
قاطعه القاضي:
- يمكنك الاستئناف رفعت الجلسة.

كاد سعيد ينفجر من القرار، كان يريد الهجوم على القاضي وضربه، حبذا لو يستطيع فعل ذلك لمن نشكو يا رب؟ القاضي يتحيز لهم، والشهود يهود، الشرطة يهود، من ينصفنا.
توجه إلى المحامي وسأله:
- كيف يحدث هذا، يسرقون بيتي، هذا كل ما أملك. إنه مستقبل أولادي.
حاول المحامي أن يهدأ من روعه.
فقال له:
- التزييف محكم يا سعيد.
- لكن كيف عرفوا توقيعي؟
- بسيطة من الأوراق التي قدمتها لبلدية القدس حيث حصلت على رخصة للبناء.
- وكيف حصلوا على ذلك؟
- هل هذه مشكلة؟ شركات الاستيطان اليهودية لديها مؤيدون وعناصر في كل مكان في مؤسسة الدولة. وهناك متخصصون في تزييف التوقيع بحيث يصعب أن تميزه عن الأصلي. والمحامي الذي صادق على توقيعك أهرون حسون يعمل مع المتطرفين اليهود وكان في السابق من جماعة عضو الكنيست المتطرف «رحبعام زئيفي» الذي يطالب بطرد العرب.
بصراحة توقعت كسب القضية، لكني فوجئت بالقرار العنصري.
سنستأنف القرار.
- هل تتوقع أن يصادقوا على القرار؟
لا أعرف لكن علينا ألا نستسلم. أليس هذا رأيك؟
- لم يعد رأيي مهما. إنهم يضعوننا دائما في الجانب الضعيف، ويتركون لنا نفقا واحدا للخروج منه. هذا النفق يؤدي إلى الطريق التي يريدونها. وكلما خرجنا من نفق أدخلونا في نفق آخر.
- ألم يكن باستطاعتك تأجيره لأحد الأقرباء؟
- هل هذه هي المشكلة؟ ألم أكن أسكن فيه؟
أليس هذا بيتي؟
- سنتابع الاستئناف في المحاكم.
- لم أعد أثق بمحاكمهم.
- ولكنا نجحنا في مرات سابقة.
- وهل هذا يجعلها محاكم عادلة؟ كم حالة مشابهة مثلي رفضت المحاكم إعادة بطاقاتهم لهم؟ ماذا يفعل سكان ضاحية البريد الذين كانوا منذ العهد الأردني (قبل ١٩٦٧) ضمن القدس. ثم فجأة حولتهم بلدية القدس إلى منظقة غير خاضعة لها كي تتوقف عن تقديم الخدمات لهم وتحرمهم من دخول القدس.....
- أنت صحيح، لكن يا سعيد، ليس أمامنا من خيارات أخرى.
- هل تعرف نحن وهم مثل خصمين يتلاكمان في حلبة الملاكمة. أحدهما قوي ويمثل إسرائيل والثاني ضعيف ويمثلنا. القوي لا يريد أن يضرب خصمه الضربة القاضيه من الجولة الأولى كي لا يضج الجمهور الذي اشترى تذاكره ليشاهد مباراة كاملة. لكنه يضرب خصمه ضربة يوقعه أرضا ويتركه يترنخ على الأرض ثم يستعيد أنفاسه ويقف ليفاجئه بالضربة التالية، وهكذا.
- أذهلتني بهذا الوصف، وماذا ترى أن على الخصم الضعيف أن يفعل؟

صمت طويل
- لا أدري، لا أفهم كيف يمكن للضعيف أن ينتصر وهو يرى الأقوياء يصفقون للقوي والضعفاء يترقبون عبر شاشات التلفزيون صامتون، يدعون الله أن ينصره على خصمه.
- وهل يفكر خصمك الضعيف بالاستسلام؟
- أحيانا أتساءل لماذا لا يفكر الخصم الضعيف بالاستسلام من البداية. والرضوخ للأمر الواقع؟
- وماذا ترى؟
- لو استسلم سيبصق عليه كل الجمهور والمشاهدون سيقولون إنه جبان، إنه تافه، إنه خائف. لن يقولوا إنه يواجه خصما أضخم، وأقوى منه.
- عجيب أنت يا سعيد. تصور الأمور بطريقة...
- غريبة أليس كذلك؟
- وعجيبة أيضا. لكنك لم تجب على سؤالي ماذا على الخصم الضعيف أن يفعل؟
- أحيانا أقول إن على الضعيف، أن يظل يترنخ على الأرض أو يتظاهر كذلك حتى الجولة الأخيرة حيث يكون القوي قد وصل إلى قمة غروره، ثم ....
- ثم ماذا؟
- ثم فجأة يهجم عليه بسرعة يكيل له ما استطاع من ضربات قبل أن يطلق الحكم صفارته بانتهاء المباراة.
- والنتيجة؟
- ربما يحقق بعض النقاط على خصمة، وربما...
- وربما ماذا؟
- وربما يذهل خصمه بالمفاجأة ويعجز عن سد الضربات.
- دعنا من الأحلام وقل لي، هل أستأنف القرار؟
- نعم سنستأنف القرار حتى النهاية.

صادقت محكمة الاستئناف على قرار محكمة الصلح وحكمت لصالح المستوطن، وصادقت محكمة العدل لصالحة ولم يبق أمام سعيد أية محاكم يلجأ إليها. هل يلجأ إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي؟ كيف؟ هل ستقبل استلام قضيته والنظر فيها. لقد أحكموا الخناق عليه الشهود منهم، التوقيع محكم التزييف، ماذا باستطاعته أن يفعل؟
اتصل بالسلطة الفلسطينية وشكا لهم ما جرى فنصحوه أن يتابع الموضوع بالمحكمة، وقال له أحد المسؤولين:
- وهل تعتقد أن بيتك الوحيد الذي سيطروا عليه.
- وهل سنظل صامتين؟
- وماذا باستطاعتنا أن نفعل؟
- أوقفوا اسرائيل عند حدها.
ضحك وقال:
- كيف؟
- تسألني أنا كيف؟ ولماذا أنتم سلطة؟
قاطعه وقال له:
- لدي أشغال سأرفع قضيتك للجنة المتابعة.
سافر سعيد إلى الأردن وعرض على أحد المحامين أن يرفع القضيه أمام إحدى المحاكم الأردنية باعتبار أن القدس كانت تابعة لها قبل عام (١٩٦٧) وبالفعل تشجع المحامي ورفع القضية لكن جاءه الرد بعد فترة:
المحاكم الأردنية لا تنظر في قضايا خارج الحدود الأردنية، وقد فكت ارتباطها القانوني والإداري مع الضفة الغربية عام (١٩٨٨).
- اللعنة!
عاد إلى القدس ليطلب من محاميه رفع القضية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي فقال له:
- محكمة لاهاي لا تنظر في خروقات فردية ولكن في جرائم دولية أو جماعية.
- هل أنت متأكد؟
- هذا ما أعرفه، لكن حتى لو كانوا سيقبلون قضيتك فأنا غير متخصص في المحاكم الدولية. وهذا بحاجة إلى عدة محامين دوليين، وهذه مصاريف مكلفة قد تصل إلى عدة مئات من آلاف الدولارات، ألديك كل هذه المبالغ؟
ضحك وقال:
- طبعا لا
صمت طويلا...
- أعرف أن الصدمة كبيرة لكن أعتذر أنني لن أستطيع فعل شيء.
لم يعد أمامنا سوى حل واحد.
عندما تحل قضية فلسطين ستحل قضيتك.
- وهل تعتقد أنها ستحل قريبا؟
- لا ليس قريبا.
- كيف عرفت؟
- المفاوضات فرصة الأقوياء ليستسلم الضعفاء بشرف. والمقاومة طريقها طويل لا أحد يرى نهايته.
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com