قصة قصيرة

المخدوع
 

عادل سالم
 

في نهاية عام (١٩٦٨) وفي يوم من أيام شهر كانون أول حيث البرد القارص في القدس. كان صالح جالسا في محلة الصغير الذي لا تزيد مساحته عن عشرة أمتار مربعة في باب السلسلة في القدس القديمة، ما بين مدخل حوش الغزلان، وطريق الهكاري يحتسي الشاي الساخن الذي طلبه من مقهى الرشق التي تبعد عنه عدة أمتار، ويقرأ جريدة الصباح ينتظر أول زبون يهل عليه ليشترى أحد براويزه التي يعرضها للبيع.

فجأة دخل عليه زبون يبدو في الأربعين من عمره، يلبس بذلة أنيقة، ولحيته خفيفة، كان شكله يوحي أنه يهودي فقد تعود اليهود على النزول من باب السلسلة متجهين إلى معبدهم (المبكى) الذي يبعد عن محلة حوالي مائة متر. كان اليهودي يتكلم العربية بطلاقة، فسأله:
أكيد أنت صاحب المحل؟
وقف صالح ووضع الشاي على الطاولة ثم قال:
نعم أنا ماذا تريد؟
أنا عزرا جئت لأعرض عليك مشروعا يغنيك.
يغنيني؟! قالها صالح بتهكم وهو يقول في قرارة نفسه (من أين يأتي الخير منكم؟! سلبتم أرضنا، ووطننا وقتلتم أبناءنا..)
فقال له عزرا بعد أن صافحه:
نعم يغنيك، اسمع حبيبي جيدا وفكر في العرض بهدوء.
ماذا عندك؟
أنا تاجر ببحث عن محل في هذا الشارع لأنه قريب من معبدنا، وعندي استعداد أدفع ثمنه مضاعفا.
ماذا تقول؟ أتريد أن….
فقاطعه عزرا:
صالح لا تغضب لم أنه العرض. محلك هذا لو بعته لا يساوي أكثر من عشرة الآف دولار، وأنا أعرض عليك مائة ألف يعني عشرة أضعاف.
أبيع محلي لليهود؟ ألا يكفي أنكم أجبرتم الناس على الرحيل من حوش الغزلان وحوش الشاي وحارة الشرف.
لقد دفعنا لهم تعويضا.
تعويضا؟! لقد طردتموهم بالقوة وقلتم لهم من أراد تعويضا عن بيته فليأت، ومن لا يريد فليضرب رأسه بالحائط، لم تتركوا لهم خيارا. لقد هدمتم البيوت في حارة المغاربة على آثاث أصحابها وممتلكاتهم.
سيد صالح هذه بيوت بنيت في ساحة الهيكل. اسمع لماذا تضيع وقتنا في جدال لا يفيد. العرض الذي أعرضه عليك هو تسليم المحل بعد (٢٥) سنه!
لم أفهم وضح ما قلته؟
تبيعني المحل وتقبض ثمنه كاملا ونسجل في الأوراق أن التسليم يتم بعد خمسة وعشرين سنة من تاريخ التوقيع على الاتفاق.
ضحك صالح وقال:
أنت متفائل جدا، ومن يضمن لك أنني سأسلمك المحل بعد هذه السنوات؟
حسنا إن كنت تعتقد أننا سنرحل فهذا أفضل لك. أنا أعرض عليك مائة ألف تدفع لك كاملة فور التوقيع على عقد البيع، وتسلمني المحل في التاريخ المحدد. لن ترى وجهي قبل موعد التسليم، وإن مت سيأتيك أحد الورثة ومعه صكوك البيع والشراء.
احتار صالح في العرض وقبل أن يرد عليه، قال له عزرا:
على كل حال سأترك لك رقم هاتفي، فكر فإن أحببت تتصل بي… صمت لحظة ثم قال:
لا تضيع الفرصة فإن عثرت على محل غيره فلن أشتري محلك.
عاد صالح مساء إلى البيت، ليحدث زوجته بما حصل معه. فقالت له: لماذا يدفع لك هذا المبلغ الخيالي؟
يريدون طردنا بكل طريقة. عام (١٩٤٨) طردونا من بيتنا في المالحة، غربي القدس بالقوة، وحولونا إلى لاجئيين، واليوم يريدون طردنا بقوة المال.
فقالت له زوجته:
ولكنه عرض عليك التسليم بعد (٢٥) سنة.
هذا ما قاله.
إذن لماذا لا نأخذ الفلوس منه بدل ما سلبوه منا عام (١٩٤٨)، وبعد (٢٥) سنة لن نسلمه المحل.
كيف؟ سنوقع على أوراق، انسيت أنهم يحكمون البلد الآن؟
يا صالح وهل تتوقع أن نظل تحت حكمهم (٢٥) سنة؟!
لا أدري ربما.
لالا، خلٍّ ايمانك بالله قويا، ستطردهم الجيوش العربية.
الجيوش؟! ألم يهزمونا قبل سنة؟
إنها نكسة ولن تتكرر.
يا فتحية هذه مقامرة.
يا صالح، لقد خدعونا دائما، فلماذا لا نخدعهم الآن؟ انسيت قبل عشرين سنة، عندما هجموا علينا وأجبرونا على ترك بيتنا بما فيه ونهرب إلى البلدة القديمة؟ ماذا أخذنا سوى بطاقة اللاجئين، وكيس الطحين الشهري وحليب البودرة؟! آخ يا صالح!
يا فتحية لا تذكريني دخيلك، لقد حكيت لك ما حصل لتشجعيني على رفض العرض فإذا بك تقنعيني بالموافقة.
أنا لا أنصحك بالبيع، فكل ملايينهم لا تساوي حجرا في القدس لكني أحببت أن تستغل شرط أن التسليم بعد (٢٥) سنة. بهذا المبلغ، نشتري قطعة أرض في ضاحية البريد ونبني عليها بيتا، فالأولاد يكبرون وغدا يحتاج كل منهم إلى غرفة خاصة.
وماذا لو مرت السنوات وجاء يطلب تسليم المحل؟!
خلال هذه الممدة ستكون إسرائيل قد انهزمت وأعادت القدس إلى العرب. لن يطول احتلالهم، ولا تغتر بقوتهم. لو هجم العرب عليهم بالعصي والسكاكين سيهزمونهم.
ضحك صالح وقال لها:
والله حيرتني. أتمنى أن يكون كلامك صحيحا وإلا سأصبح في نظر الناس بائعا ممتلكاته لليهود، وسيقولون عني جاسوسا، وسوف أتمنى أن تنشق الأرض وتبلعني.
توكل على الله، واسمع كلامي ولو مرة واحدة ولن تندم.
تنهد صالح وقال لها:
سأسمعه هذه المرة، وأرجو أن يتحقق نصر العرب كما تتوقعين.
عشرون عاما مرت على عقد البيع، لم يرحل اليهود، وزادت مستوطناتهم حول القدس، وصادروا الكثير من بيوتها ومحلاتها. شعر صالح أن موعد تسليم المحل آت لا محالة. بقي خمس سنوات على الموعد.
انطلقت الانتفاضة الأولى واستمرت بشكل متصاعد فتأمل خيرا، لعلها ساعة تحرير الوطن، وتحرره من الهم الذي ينتظره. كان يعد الشهور ثم السنوات، وعندما هل عام (١٩٩٣) كان يحمل كل هم الدنيا على كتفيه. لا أحد يعرف سر الصفقة سوى زوجته، قال لها:
ها قد اقترب موعد تسليم المحل. لم يبق سوى شهور، ماذا سنفعل؟ سأصبح خائنا، جاسوسا، سيبصق علي الناس، سيفاجأ الأولاد بما فعلت، سأقتل نفسي.
بعيد الشر يا زوجي، اصبر لعل الله يرسل حلا من عنده.
هل تهذين؟ من أين سيرسل حلا؟ كانت هذه مشورتك، الحق علي لأتتي استمعت إلى اقتراحك. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
في شهر أيلول (١٩٩٣) كانت الصحافة ومحطات التلفزة تنقل خبر اتفاق أوسلو ولقاء عرفات ورابين في البيت الأبيض الأمريكي. قالت فتحية لزوجها:
أرأيت لقد جاء الحل.
أي حل؟
ألم تسمع بالاتفاق؟ أكيد غدا سينسحب اليهود من القدس.
يا فتحية إنهم يقولون غزة وأريحا.
اسمع لا تعقدها، لماذا لا تلتقي مع عزرا وتقول له بأن الاتفاق يعني أنهم سينسحبون من القدس وتعرض عليه ما دفعه لك مقابل إلغاء البيع. قل له إنك تعرض عليه ذلك من حسن نية حتى لا يخسر فلوسه.
فكرة معقولة، ولكن هذا عزرا اليهودي. إنهم أبالسة.
جرب ولن تخسر شيئا.
اتصل صالح بعزرا وطلب الاجتماع به.
جاءه عزرا بعد انقطاع أكثر من عشرين سنه لم يره فيها حتى كاد ينساه. كانت لحيته قد طالت، وابيض شعره، وأصبح يلبس نظارات، ويضع على رأسه طاقية صغيرة (كوفع). قال له صالح:
سيد عزرا لا شك أنك سمعت باتفاق أوسلو بين عرفات ورابين.
طبعا، نريد السلام معكم.
وتعلم أنكم ستنسحبون من القدس؟
ضحك عزرا وقال له:
لا لا تصدق ذلك، الاتفاق لم يتطرق إلى القدس.
يوما ما ستنسحبون، لهذا أنا هنا أعرض عليك إلغاء صفقة بيع المحل وإعادة ما دفعته لي حتى لا تخسر فلوسك.
ابتسم عزرا يخبث وقال له:
تعرض علي إعادة ما دفعته لك قبل (٢٥) سنة؟! هل أنت مجنون. هذا المبلغ لو شغلته في البنك لأصبح أكثر من مليون دولار.
سأدفع لك أرباحا عليه.
ولا حتى مليون دولار.
لكنك قد تخسر المحل.
لا يا حبيبي، سأكون هنا في موعد التسليم صدقني، سأستلم المحل في الموعد المحدد. إذا كنت لا تريد أن يراك أحد، فلا تحضر ذلك اليوم سألتقي بك في مكان ما وتقدم لي المفاتيح. حتى لو لم تسلمني المفاتيح، سأكسر الأقفال لأركب بابا جديدا وقفلا جديدا. يجب ترميم المحل، وتركيب (مازوزا) (الوصايا العشرة) على باب المحل مع نقش لنجمة داوود أعلى الباب. أحس صالح بشوكة في حلقة، لم تنجح محاولته، وغادر عزرا المحل رافضا كل العروض.
قبل موعد التسليم بشهر مرض صالح، ولم يفتح المحل، وقرر ألا يفتحه نهائيا. اشتد مرضه، وعندما زاره أبناؤه للاطمئنان عليه قال لهم:
أشعر أن نهايتي قد اقتربت، سامحوني إن أخطأت بحقكم.
أحس صالح بالسعادة بوجود أبنائه حوله، كان يود أن يخبرهم بسره، لكن فتحية منعته من ذلك.
لماذا يا فتحية غدا سيعلمون من الناس؟
سأشرح لهم الموقف في حينه، لقد اعتقدنا أن اليهود سيرحلون لكنهم بقوا على صدورنا. سيطروا على ثلث البلدة القديمة بيتا بيتا.
أنا المجرم، أنا المذنب، استمعت لاقتراحاتك الهدامة، أنا المسؤول، ليتني لم أفعل، قبل (٤٥) سنة أخذوا بيتنا بالقوه. طردونا بالسلاح، تركنا كل ما نملك وهربنا بملابسنا، وغدا سيستلمون محلنا، اشتروه منا بالمال. خدعونا لطمعنا. لقد طمعنا، لقد حسبناها غلط. أين سأذهب من ربي؟! من الناس، من أولادي، لا أريد أن أراهم بعد اليوم اللهم أرحني، أرحني من تلك الساعة.
بعد يومين رن جرس الهاتف.
ألو أبو علي.
أهلا جاري أبو حلمي
الحق، المستوطنون اليهود كسروا محلك مع الجيش وسيطروا عليه.
ماذا تقول؟
كما سمعت، يجب حضورك بسرعة.
أنا قادم.
أغلق صالح الخط، وصار يبكي وينوح كالأطفال. جاءت فتحية تسأله ما الأمر؟
سيطروا على المحل، كسروا الباب واستلموه. جاري أبو حلمي يطلب مني أن أحضر لأحمي محلي منهم. لا يعرف أنني بعته لعزرا قبل خمسة وعشرين سنة.
بدأت الرائحة تفوح يا فتحية. آه أشعر بضيق أنا بردان، أشعر بالبرد، غطيني، غطيني.
هل أنقلك إلى المستشفى؟
لا لا أريد أن يراني أحد أريد أن… أموت… هنا… ف…ي… البيت.
شهق صالح شهقته اثنتان ثلاثة ثم انتقل إلى العالم الآخر.
صرخت فتحية، وبدأت تلطم وتشق ملابسها، انكبت عليه تقبل رأسه، وتنادية:
صالح، صالح، أنا السبب، أنا السبب، هذه مشورتي، لقد ظلمتك، لقد حملتك عارا للأبد. لماذا لم يحرروا فلسطين؟ لماذا لم يستعيدوا القدس؟!
يا خسارتك يا صالح، يا عارك يا فتحية.
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2... bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com