دراسات نقدية

 

غادة السَّـمّان والشعر النّسائي

 

الدكتور عبد الحسين فرزاد

    أقول: ترجمة الشعر امرٌ غير ممكن; فأنا لستُ مترجم أشعار غادة السمّان فحسب ، ولكنني وضعتُ نفسي في طيف من خيالها ومشيتُ في ظلال حركة شعرها واحساسها.

    منذ بداية بحثي في الأدب ، عرفتُ الأدب عند العرب قديماً وحديثاً وآنستُ أثالة ثقافة العرب وفروعها وحملتُ جروحَ الوطنِ العربي العميقة وفلسطين خاصة في قلبي ، حتّى صرتُ عربياً يقول الشعر بالفارسية: لذا ترجمتي الأولى لشعر غادة السمان «دربند كردن رنگين كمان» (اعتقال قوس قزح) أوجدت تياراً من المشاعر بين المثقفين وطلبة الفن الايرانيين.

    أما الدّيوان الثاني لغادة «غمنامه اى براى ياسمن ها» (رسالة الحنين إلى الياسمين) فهو مجموعة من اشعارها التي ارسلتها إلي في أواخر 1996م .

    وعندما نشرتها في خريف 1998 كانت أكثر الكتب رواجاً في الأسواق.

    في عزمي ان اكتب كتاباً نقدياً تحت عنوان «القصة المعاصرة عند العرب» وستكون غادة السمان بطلة هذه القصة ان وفقنا الله تعالى.

***

    إنّ المرأة بوصفها «الجنس الثاني» كانت عرضة لأشد أنواع التحيز والإجحاف على اعتبار ان ا لانسان في كل مكان ، هو الرجل  .  .  . مثلا في بلادنا (ايران) بعد الثورةَ الإسلامية ، إذا أرادتِ المرأة ان تعلنَ عن كيانها وتؤسس مُؤسّسات تبين حضورها في المجتمع ، تقلو: مثلا: مجله زنان (مجلة النساء) ، زن روز (المرأة العصرية); ولكننا لم نجد أبداً ما يسمّى: مجلة الرجال ، لأن كل شيء في بلادنا كان للرجال.

    بناءاً على هذا ، فالمرأة نفسها عند الإعلان عن كيانها ، فانها لا تستطيع التحرر من هذه الفكرة الموروثة وتنتزع نفسها من المجتمع وتضيف القاباً كالنساء او المرأة ، على منظّماتها .

    وإذا رغبت المرأة ان تعترضَ على أمر ما ، وتطالب بحق لها ، تبدأ بعبارة: أنا إمرأة . لكن الرجال لا يتفوهونَ بمثل هذا.

    فهذا يبيّن لنا سوء تقدير جذري عند الرجل مدى الأزمان.

    كتابُ (الجنس الثاني) ، لسيمون دي بوار ، الذي كشف عن كثير من المشاكل والجنايات الاجتماعية والثقافية بحقّ المرأة ، لم ينجح نجاحاً كاملا ، حتّى في فرنسا التي تعتبر مهد الحرية والمساواة وان كان الكتاب بحثاً قيماً.

    اعترفَ ويل دورانت في كتابه (تفاسير الحياة) Interpretatins of Life:

    (كتبت سيمون دي بوار سنة 1949 كتاباً اسمه «الجنس الثاني» في مجلدين ، فبدأتُ أقرؤه (700 صفحة) وكنت أظن اني اجد بحثاً سطحياً عامياً يستحسنه العوام; لكنني فوجئتُ بجامعيتّه وبحثه الشامل في أبحاث حياتية وفسلجية ونفسية والتحليل النفسي وعلم الامراض ، وايضاً أبحاث تاريخية واجتماعية واخلاقية ودينية واقتصادية وسياسية عن حياة المرأة . وأيضأ أعجبتني وحيّرتني معرفة سيمون الواسعة بأدب المرأة وتاريخ الفلسفة والشعر والقصة الفرنسية والانكليزية والاميركية» . ثمّ رأى ويل دورانت موضوع الكتاب: «من ناحية حياتية ، الانثى تشكل الحركة الرئيسة في الحياة وللذكر وجود فرعي متزلزل وغير ثابت ليس له اهمية احياناً.

    ان الحركة الدّائبة للذكر (في الثّدييات) في تأمين الغذاء ، جعلته ذا قوى فاقَ بها الانثى وفي الانواع المتكاملة هذه الحركة هي السبب الرئيس لتفوّقه الاقتصادي والعقلي.

    انّ ضعف الجنس المؤنث بسبب  الطَّمث والحمل والتَّوليد والأمراض التناسلية ولزوم البيت ، حدّدها في تأمين معاشها وضيق لها المجال في العلائق والحركات فهي كلها تنتهي إلى محدوديّة ذهنها.

    اما الاختلاف النفسي بين الجنسين ، يرتبط بالتاريخ والحقوق ، لا بالخصائص الوراثية ، لأن المرأة إذا وجدت لها فرصاً مساوية للرجل ، أظهرت من نفسها قوى في الفكر والتعقل تساوي الرجال».

    اذكرُ في السبعينات (1970) وأنا طالب جامعي; كنت أسمع احياناً جملة كمثل سائر بين ا لايرانيين: (الفتيات يتزوّجن او يدرُسن) ، ومعناها: انّ الفتيات الجميلات يجدنَ الزوج سريعاً لكن الفتاة التي ليس لها جمال تتجه إلى الجامعة والدراسة . بعبارة اخرى ان الفتاة تعتبر رجلا لولا جمالها بقدر الكفاية.

    اني أفهم من العبارة الماضية: انّ ميراث المرأة من التاريخ ، قد حُدّده وضيقه الرجل من كل جانب ، فإذا ارادت المرأة ان تفكر او تعمل في حوزة الرجل ، فعليها ان تترك شخصيتها كأنثى ، او بعبارة اخرى من كانت تمر بالطّمث والحمل والرضاعة وسائر الامور الطبيعية (مائة بالمائة) لا يمكن لها ان تعادلَ الرجل.

 

الإنسان هو الرجل وحده!

    علينا ان نعيد النظر في الجنسين حتّى ترتقي المرأة إلى مرحلة الانسانية التي لم تبلغها حتّى الآن مع الأسف.

    لي صديق وهو استاذ جامعي يدرس العرفان والتصوف وهو يعتقد ان المرأة خطأ حدث في الخلق ، يعني الإنسان هو الرجل وحده . هنا أجد النّكتة الانحرافية في قضية المرأة . علينا ان نشك في الافكار الفلسفية والاجتماعية كلها.

    «افلاطون لم يفكر قطّ في تحسين حالة المرأة ولم يهتم بدرس أخلاقها واستكشاف درجتها العقلية واستعدادتها .  .  . افلاطون هذا قضى حياته في أسف لانّه ابن المرأة وكان يصرح بازدرائه أمّه ويعتقد ان من كان جباناً من الرجال في هذا العالم ، فعند ولادته مرة أخرى تتقمّص روحهُ في جسد حيوان او جسد إمرأة .  .  . وما علم افلاطون أن امرأة ستعلّم الفلسفة الافلاطونية الجديدة في مدرسة الاسكندرية ، وان تلك المرأة لا يمنعها شبابها الغضّ وجمالها الرائع ان تكون أعلم علماء عصرها ، تلك هي الفتاة هيباثيا ابنة ثيونوس الرياضي الشهير التي قُتلت في شوارع الاسكندرية في اوائل القرن الرابع ، فذهبت شهيدة علمها واخلاصها ورغبتها في إشهار التعاليم الافلاطونية الجديدة».

    في اعتقادي: كلّ مِنَ الجنسين مظهر لشخصية الإنسان وإذا حُذِف أحد منهما او ضعف ، لن نستطيع ان نصل إلى الحياة الواقعية ، لاني أرى الوصول إلى مفهوم الإنسان التّام ، يمكن في ظلّ الواقعية الانتقادية فقط ، يقول لوكاچ العالم المجري: «المسألة الرئيسة في الواقعية هي إظهار شخصية الإنسان متناسباً وتاماً».

***

    الادب الفارسي حكم عليه الرجال وفي الحقيقة ليس هناك شيء إلاّ الادب الرجالي ، وما على النساء إلاّ ان يفكرن كالرجال ويعشقن ويتحدثن مثلهم:

    السيدة جيهان ملك خاتون ، (شاعرة ايرانية ـ القرن الثامن للهجرة):

ياريح الصبا! جيئي بنكهة من شعرها

وببشارة من الورد الريان إلى الغابة

ومِن شفاهها التي تبعث الحياة في روحي كماءِ الحياة

هاتي متكرمة ، شراب ماء الورد من ذلك الفم

انظري إلى حالة عيني المهجورة

يا بشارة قلبي! هاتي شميماً من ذلك القميص

يا سروتي الأسيلة! مرّي على حديقة الجمال

واتركي من حُسن قامتك اضطراباً في بدن البانِ

     لاشك إذا لم نعرف هذه الشاعرة الايرانية ، نتصور القصيدة لرجل ، لانّ محبوبها كمحبونه واوصافها كأوصافه وحالة غرامها كغرامه.

    أما في العربية فيمكن لنا ان نعرف جنس الشاعر بسهولة لوجود بعض الضمائر في النص ، يرجع إلى الشاعر: الخنساء:

يا عين فيضي بدمع منكِ مغزار

وابكي لصخر بدمع منكِ مدرار

اني أرقت فبت الليل ساهرة

كأنما كحلت عيني بعُوّار

قال: ابن امّكِ ثاو بالضّريح

سوّوا عليه بألواح وأحجار

إبكي فتى الحيّ نالته منيته

وكل نفس إلى وقت بمقدار

    نرى ساهرة وامّكِ وابكي، كلها على صيغة المؤنث وتكشف لنا ان شاعر القصيدة ، امرأة ، وفي الفارسية ليس كذلك.

***

    اين المرأة الايرانية ، من زمن الشاعر رودكي ، إلى نيمايوشيج (أبي القصيدة الحرة) في ايران؟

    مَنْ هو الذي قد تصور في الغزل الفارسي ؟ أرجل هو أم امرأة؟

    اين دفن في التاريخ الجنود الذين قتلوا بسبب أهواء السلطان محمود الغزنوي وتيمورلنك؟

    اين النساء اللواتي كن يعشن مع أيتامهن بعد انتصار الغزنوي على الهند؟

    اين تلك الام الاصفهانية التي وطيء ابنها الوحيد تحت أقدام الفيل ، ودفنه نادرشاه افشار ، في دلهي؟

    في الادب الفارسي حتّى القرن الاخير ، كانت هوية المرأة الشاعرة ، المرأة عامة ، تحت سيطرة الرجال ، وفي السنوات الاخيرة ، نحن نجد تعابير خاصة للمرأة ، في شعرها.

    السيدة فروغ فرخزاد:

قام حبيبي

على ساقيه الشديدين كالمنيّة .  .

إنّ لحبيبي،

مفهوماً صريحاً قاطعاً ، كالطبيعة (مثل عالم الكائنات)

إنه عندما قهرني،

يؤيّد قانون القدرة الصادق .  .

إنه رجل من القرون الخالية،

إنه مُذكِّر اصالة الجمال

***

لا يدور الكلامُ على وصل أخفق بين اسمين،

وعناق على أوراقِ الدفتر الرثّة،

إنّ الكلام مِنْ شعري السعيد،

مَعَ شقائق لثماتِك المحروقةَ .  .

***

يا حبيبي الرؤوف!

إذا مررتَ إلى بيتي،

هاتِ لي سراجاً ، ونافذة صغيرة،

حتّى انظر إلى الزقاق السعيد .  .  .

     السيدة سيمين بهبهاني (شاعرة معاصرة ايرانية):

أغسل يوماً جسمي اللطيف في النور،

حتّى تعطيني الشمس تلك الحُلّة المزركشة

إنّ وميضَ السحر يوماً ،

يمطر على رماح أهدابي اللطيفة،

                   وسوسة القتال .  .

وعندما الون وجهي بأقلام الجمال السّبعة،

يصور في قوس قزح .  .

سأترك أوراقي النيلوفرية للرياح

عندما اهفهف عمامتي الحريرية

***

    عندنا شعر كثير مثل شعر فروغ فرخزاد وسيمين بهبهاني ، تصور فيها الشاعرات حضورهنّ النسائي ، هن جرّبن الحياة بتجربتهن .  .  . وفي الحقيقة ، إن المعشوقة الفارسية الاثيرية ، تخرج من هودجها ومقصورتها وتنظر الآن إلى الدنيا .  .  . لا من وراء ثلمة الخدر الضيقة ، بعبارة اخرى : إنّ المرأة تخرج من زنزانة ذهنِ الرجل التي بنيت من نظرته المعوّجة الوراثية إلى المسألة .  .  . تريد ان تعيش برئتيها وقلبها وعروقها وتلمس الحياة بلامستها .  .  . إنها قد خرجت من الحالة الإنفعالية ، حتّى تشغل ذلك النصف الانساني الذي وقف عن العمل واجرى الدم في عروقه .

    عند الشعراء العرب ، السيدة غادة السمّان ، هي الشاعرة الأولى التي خرجت من اسطبل التدجين ، واطلقت الحصان العربي الجميل في براري الضوء .  .  . بعبارة اخرى قد شهدت عكس الريح لاول مرة امام الرجولة العربية  القاسية.

    إنَّ المرأة في نظام العشيرة ، تعيش كحيوانات بيتيّة مثل البقر والخراف ، أمّا نحن فنجد في شعر غادة ، أنها تقف بالرفض:

أشهد عكس الريح

على زمن عدواني عكس القلب

وأشهد بالمحبة

على كوكب في مدارات الكراهية

وأقف بالرفض

أمام مستنقع الرمال المتحركة الشاسع

بين عدن وطنجه

وأعلن أن «لا»

    هي تشعر بالحرية في كل خلايا كيانها ، وتعرف نفسها وتعرف أيضاً معوّجات النظر عند رجولية ارضه .  .  . ومن هنا ، شعرها كان صوت المرأة الطبيعي في العرب .  .  . الذي يطرق الأسماع من وراء قرقرة الإبل وصليل سيوف القبيلة ، ورنّة الأذهاب (الذهب) ، جاءت بالريج ، من أدغال آبار النفط ، والنار والدم في فلسطين وجنوبي لبنان ورماد بيروت المحروقة.

    ليس هذا النداء من حنجرة المرأة ولا من حنجرة الرجل ، بل هو صرخة استغاثة بالانسان العربي ، الذي شقّه التاريخ الأعور ، شقّتين ، أعلى شقة منه ووأد شقّته الاخرى تحت رمال غيرة القبيلة.

    إنّ غادة السمان شاعرة وكاتبة مثقّفة وملتزمة بالمعنى الدقيق ، هي تعرف جيداً مشاكل دنيا العرب العصرية ومسائلها ، مسائل نسائها ورجالها ، و لا تريد الحرية على الطريقة الغربية على غرار ما يقال في الغرب او في بعض أطراف الشرق ، فهي ترى حرية المرأة في حقها في الإنتخاب وفي العقيدة والفكر والمسؤولية ، إنّ غادة تخالف تحديث الخرافات الوراثية.

    ترى غادة السمان الحرية ، في قصصها وقصائدها ، في حقّ الانتخاب ، ولو كان هذا الانتخاب ، انتخاب القيد والحصر .  .  . بعبارة اخرى ، هي تفكر في ماهية حرية المرأة.

    وأخيراً ليست المرأة الغربية والحربية الغربية من مُثُلها في آثارها.

 

 

 

 

 

 

Google


    في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
  info@bentalrafedain.com