دراسات نقدية

 

الشاعرة رنا جعفر ياسين .. الكتابة عند غابات الدهشة

علي حسن الفواز

ali_fwaaz@yahoo.com

 

 ان محاولة الكتابة عن الذات الانثوية وما تكتنزه من خصائص تعبيرية ونفسية وتصويريةلايحمل بالضرورة نزوعا نحو  تعرية هذه الذات  ومحاولة تمثلها في نوع من الكتابة الخالصة التي هي اشبه بالكشف (المرآوي ) الذي يفضي الى محاولة انسنة الانوثة في فضاء من الحميمية الذي تحتشد فيه الاصوات الداخلية المحمولة على سايكولوجيا النداء بكل ما يعنيه من مفارقة رمزية قد تبدو  وكأنها معادل موضوعي  لفكرة ( الانوية ) التي تجعل الصوت الانثوي بمثابة القوة الباسلة الحافظة للنوع و التي ترفض الذوبان في الذات الجمعية المكفولة بنسق المكان والسلطة والذكورة  ...

ان اليات البحث في هذه الكتابة  تملك بطبيعتها صفات مزدوجة يتقارب فيها التجريد الذهني والتوصيف الحسي، اذ يكون المخيال هو المجس الذي توظفه الشاعرة بسرية تامة  لملامسة  ما هو متحقق  في الواقع الخارجي وناتىء في حيوات الاخر الخارج / الرجل /الموت، اذ تحاول  ان تقترح عبر هذه الرؤيا الاشكالية بنيات تعبيرية قلقة  فيها الكثير من السايكولوجيا الاحتجاجية والتعويضية  وربما تحاول  ان تجعلها اداة في الغوص عبر قشرة هذا الواقع الخارجي الى ما يناقضه،،، ومن هذا المراودة بين الواقع والانوثة تحاول الشاعرة  رنا جعفر ياسين ان تمارس مغامرتها الشعرية الاولى وترسم لها خطوات فيها الكثير من القلق والريبة والخوف وكانهاتحاول ان تجترح طقوسا خاصة في االكشف عن قوة مواجهتها ومحاولة ابراز ما تمتلكه ذات الانثى المؤنسنة في الحب والاحتجاج من مواقف تتجسد عبر تمثلات تضعها الشاعرة في بنيات رمزية تحوز على دلالة الكشف  و المغايرة عبر الحدس،

وقصائد ( طفولة تبكي على حجر )  تمثل هذا التوازي بين الذات الهاجسة  بعلامات التمرد والاحتجاج وبين الخارج الذي يمثل سياقا مكررا ومأ لوفا

ومتشيئا في قسوته وصلادته   والتي  وجدت الشاعرة في دلالة (الحجر ) وتكراره مقابلا صوريا ونفسيا/ تعويضا ليس وفق معيارية محددة وانما بالقدر الذي يجعلها امام لحظة فارقة هي ما تحمله روحها الانثوية من رغبة في انسنة ما يحيطها من يوميات مكررة واشياء عاطلة عن اللذة و تركيبات صورية موشومة  بالوعي تارة وبنوع من رد الفعل تارة اخرى!

ان ما يحوط هذه القصائد المكتوبة بمزيج من العفوية والروح المتمردة  يتمثل الى وعي الشاعرة في ان تكون لغتها هي حساسيتها ازاء العالم الخارجي والتداعي وهي محاولة لمكاشفة هذا الخارج  برؤيا هي اكثر جرأة في الافصاح عن مكوناتها النفسية،

                 وهناك

                  هناك

               حيث أنا

               والمدينة لاتكترث بنابيات الاوزار والخطايا

               الشمع يلهث

             على جلدي يسيح

             وانت تفبق بين وحل وخاتمة

              ومدينتي  تتبخر 

ان هذه الصور التي تنثال كدفقات شعورية وتوترات روحية تكشف عن خط عام  تنتظم عنده اغلب القصائد وربما هو دافع لأ ستحضار  صور الخارج المأزوم الى تشكيل مشهد غير مرآوي فيه الكثير من التفاصيل اليومية مثلما فيه من الحميمية بالقدر الذي  يجعل التوالي الصوري وكأنه نسيج  محتشد بالذاتي والرغبوي والحلمي ودموع الحنان والتمرد و القسوة التي تصرخ وتحتج وتبحث عن معان اخرى للوجود والذات والانوثة ....

في قصائدها ثمة نسيج تتلاحم المعاني بالشكل وتجعل من تقنيتها النثرية اشبه بنص مفتوح تتعدد فيه الاصوات والصور والمعاني بعيدا عن  ايهامات وتحوطات التشكيل الانيق القصدي الذي غالبا ما تلجأ اليه المرأة في كتابتها وكأنه نص في الغواية او البوح،، ما نجده في قصائد رنا جعفر ياسين محاولات جريئة في  الكتابة الحية الطازجة التي تشحن سياقها بطاقة دلالية فيها الكثير من المكاشفة الخالية من المألوف  مع واقع يمور بالذروة دائما ويحمل رغباته على عربات الجسد و( عمر يجر الاحفاد الى محطات البنزين) واظن ان هذه الكتابة تشكل أول الخطوات المتسارعة بعناية نحو

 تلمس الفضاءات  السرية للشعر، اذ يكون الشعر هنا  روحا باسلة وقراءة باطنة في افراغ اللاشعور وتتبع قوتها  في المغامرة وفي الكشف عن اسرار ما تحت اللغة وما تحت الواقع / المكان الموغل في الاعلان عن جسديته المريبة  .......

          استتب الامن

         وحراس الليل ناموا في حقائبهم

            الطين :

                     رطب

                    احمر

           والياقوت :

                        نديّ

                       بارك عودة الطين أحمر

         من اين يأتي الصبح بالمكائد

            وحراس الليل

               ناموا في حقائبهم

        وأطفال البلاد مازالوا يغطون في حلم عميق ؟!

 

ان ملامح هذا النص تشيء بطابع نفسي تلوح فية حسية عالية وهو ماتكرر في قصائد اخرى، اذ  تعيد الشاعرة قراءة المشهد اليومي الملتبس وترهنه الى بنية رمزية لاتتوقف عند حدود الواقع حيث تشتبك الذات الانثوية الرائية مع ( جوانية ) الواقع  باتجاه  تشكيل فضاء دلالي  يجذب اليه ماهو غائم وشخصاني  محمول على رؤيا  تصير( الذات) الانثوية محورها،اذ تلوح للزمن  بتقطيع رمزي يجمع ( القصب) و (الشمع) في حقيبة العمر،لكن بالمقابل تجد هذا الزمن يفقد من لذته( شتاء ناقص) .. وهذا التقطيع الاشكالي للزمن يمنح شعريتها احساسا موازيا لقوة ما تحمله اللغة الجسدية التي تمارس عبرها (الثورة) وتحريك النوع السري للانوثة..

                           اسكبني

                          فوق جرح في اليسار

                                                 تطوّى

                          فأنكسر بين ضلوعك

                          أذوب في مساماتك

                          انصهر بانفاسك

                          اشهق صوتك

                          وربما ..

                            اثور فيك!!

ومن هنا نجد ان الشاعرة تحاول ان تجترح لذاتها مواقف ذات مرجعيات استعارية متراكبة تأخذ بعض صور الواقع  ودلالاته مع رؤية العالم الذي يهجس بحدوس وصفات وبما يجعلها موازية للشعر والتي تشد اللانتباه اليها من خلال براعة التخييل  الشعري الذي اجدّ ان الشاعرة تملك الكثير من أدواته،وتكشف عن ملامح هذا التخييل عبر تركيبات صورية مكثفة  تتكشف فيها اللحظة الشعرية عن حيوية دافقة وعوالم يتجاذبها المحسوس والخارجي والايهامي عبر تشكيل شعري يكشف حقا عن موهبة لايمكن الغفلة عنها،،،،

الشاعرة تستحضر فضاء الطفولة  عبر تلمس مكوناته المشوبة بصور قاسية للخارج المفتوح على فضاء مضاد  هو الموت، الرصاص، الاسلاك الشائكة،،

وهذا التقابل الصوري تجعله الشاعرة جزء من فضائها الشخصي في استحضار عوالمه الغائرة وتشكيل سياقه الشعري عبر تراتب  بنائي اشبه  بمكون نفسي/ تشكيلي تجيده  بحرفة ومهارة  .

                     احذر :

                             ( التوكي )

                              العابهم

                             دماهم

                            قطاراتهم

                 رصاص في صدر بلادي

                  ينسيهم عيد الميلاد

                    احذر :

                          البارود

                         الدبابة

                         الاسلاك الشائكة

                        العبوات

                  تنسينا لعب الاولاد  

ان استخدام تقنية قصيدة النثر لايلغي ايقاع الصوت الداخلي الذي تمور به القصائد، فالشاعرة تميل الى استخدام لغة مشحونة ومتوترة ذات بعد تشكيلي، اذ توظف تقنية التشكيل في اعطاء الجملة الشعرية قوتها الحسية /اللونية وما تحفل به من اشارات حدسية ذاتية، و رغم انها تترهل احيانا تحت ضغط تنامي الانثيال الصوري وتكراره وعدم السيطرة عليه، الآ نها  تتدارك ذلك عبر استحضار اجواء طقوسية تستحضر فيها النداء والقناع  وقوة روح الانثى واغوائها، وهذاالاستخدام يجعلها امام احتمال اللغة دائما وامام قوة مختبرها  التي  تعطي  للشعرية دافعية في التشكيل وفي مزاوجة الايقاع الداخلي مع دالة الكلام الملفوظ الذي يمثل ذروة هذه الشعرية وفي ضبط التركيب الصوري لوحداتها، حيث تتنامى هذه الوحدات عبر صياغة هندسية  تصعد من الجملة الفعلية الكاملة وصولا الى جملة فعلية ناقصة، وهذا التنامي بين مكونين متحركين يكشف عن جذوة القلق والانفعال في خطاب الذات الانثوية وهي تواجه عالم يفقد صراحته ويتجه بجنون نحو الرمز  مثلما يقول انسي الحاج ... ولعل هذا هو جزء من فضاء الشعريةذاته الذي يتراكب فيه الزمن والصوت الداخلي والدلالة والمعنى ..  

ومع حديث هذه الشعرية  ومكوناتها المثيرة تجد الشاعرة في مقاطع اخرى نفسها امام لحظتها الشخصية، لحظة الذات والجسد والمحطات // المكان وكأنها تمارس لعبة التصريح والمكاشفة عن صوتها الداخلي الذي تتجلى فيه رغم نثريته لغة  مشحونة ومشدودة الى ايقاع نفسي

              لا توقفني عند محطتك الاخيرة

              ففي مكان

              وزمان

             مجهولين

                       التقينا

            البحر بفصلنا وأنفاسنا عمقها الازل

        

   لا تذهب

            فعيناك ودمعي في سجال   ..

 

ان هذا التشكيل الصوري الموحي بلغة بصرية دالة تفضي الى تواليات نفسية من خلال التقاطع بين بنية النهي ( لاتوقفني ) وبين بنية الاستمرار( في سجال ) واحسب ان هذه التقنية اعطت للتشكيل الصوري عمقا رمزيا عبر استخدام البناء المقطعي للجملة والصورة في ايحاء الى توظيف طاقة النداء الداخلي / نداء الانثى بكل مايستدعيه من رغبة وحلم ..                                                    

وتتصاعد هذه النبرة الصوتية / النداء في قصيدة اخرى وكأن الشاعرة تسعى فيها الى  الكشف عن كامل لحظة وجودها  الرافض للايقاع الرتيب ودونما تورية عبر توظيف بنية الاستدعاء في المواجهة، فهي تجد في الثورة النفسية نوعا من التعويض اولا واستعراضا  لقوة ذاتها المستلبة،،

لكن صوتها الانثوي النافر يسترخي في المستوى الاخرمن القصيدة ليكشف

عن روح الانثى الباحثة عن لحظة حب فائرة وعن ذوبان حسي يمنحها احساسا  اكثر انسانية وتوازنا في الثورة .

           لا زلت

          كما عهدتني

          اعوم في طوفاني الاعزل

         اثور على جسدي

                          فللحلاوة ثورة

                          وللمرارة ثورة

        اسكبني

        فوق جرح في اليسار

                         تطوّى

      فأنكسر بين ضلوعك

      أذوب في مساماتك

      أنصهر في أنفاسك

     أشهق صوتك

      وربما..

      أثور فيك!!

 

ان الشاعرة رنا جعفر ياسين  صوت واعد وجريء في الشعرية العراقية، وهي تتوافر على احساس دافق بحيوية اللغة الشعرية وانثيالاتها عبر استخدامها تقنيات التشكيل الصوري واللوني والصوتي، فضلا عن التقاطاتها الذكية والجسورة لايقاع انوثتها وهي تبحث عن كينونتها وسط عالم  يمور بالقسوة والغرابة وسعيها الى تطوير مختبرها الشعري من

خلال ممارس نوع من الكيمياء اللغوية التي تتكشف عن بنيات ومقاطع

 وتراكيب فيها الكثير من الادهاش، واظن ان تواصل هذه الطاقة وبهذه الحيوية  وانتباهاتها الى اهمية السيطرة على حركة جملتها الشعرية الصورية من الترهل وتمكين مجسها اللغوي من تحسين ادواته في الاختيار

سيمنحا  فرصة حقيقية لان تكون صوتا شعريا فاعلا في مشهدنا الشعري

الجديد الباحث عن حياة ورؤيا وزمان  وسط خراب له مخالب الوهم وربما العقل العاطل عن اللذة!!!           

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com