دراسات نقدية

 

 أبو نواس في مصر ( 1 )

سهر العامري

aslam326@hotmail.com

 كان من بين دواعي رحيل أبي نواس، الحسن بن هانىء، من بغداد الى مصر خوف الشاعر، وخشيته من عقاب هارون الرشيد الذي أتي على البرامكة بالموت بعد خيانتهم له، رغم المناصب العالية التي ارتقوها في الإمبراطورية العباسية في زمنه، ولهذا السبب فقد كان أبو نؤاس قد خشي سطوة الخليفة، وهو الذي طالما تردد، من بين شعراء آخرين، على دواوين البرامكة، كي يبيعهم فيها قصائد المديح على عادة شعراء ذاك الزمان . فمن بين البرامكة الذين مدحهم الشاعر هو الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي * الذي قال فيه:

سلام على الدنيا إذا ما فقدتمُ ................ بني برمك من رائحين وغادِ

بفضل بن يحيى أشرقت سبل الهدى ...... وآمن ربي خوف كل بــلادِ

ويبدو أن وقت الرحلة تلك الذي تزامن مع الوقت الذي جرت فيه نكبة البرامكة هو الذي قيض وجود مثل هذا السبب لمثل هذه الرحلة، فالمعروف أن نكبة البرامكة قد ابتدأت بمقتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي في الأول من شهر صفر، سنة 187هـ = 29 يناير 803 م، وهذا التاريخ يقرر أن أبا نؤاس قد ارتحل من بغداد الى مصر، وهو في سن جاوزت الأربعين سنة، فقد ولد هو سنة 139 هـ، وتوفى سنة 195هـ **، ومما يدل على هذا بيت من قصيدة قالها في مصر، وفي مدح مضيفة الخصيب، إذ يقول:

إني لآمل يا خصيب على ..... يدك اليسارة آخر الدهر

كما أن البيت الذي يعقب هذا البيت يرجح وقوع رحلة أبي نؤاس في تاريخها بعد نكبة البرامكة، فالشاعر يرى فيه أن تجارة الشعر الرابحة في بغداد قد أصابها الكساد، ربما كان ذلك بسبب موت التجار من بني برمك، حيث كانت تزدهر عندهم تجارة الشعر، فيقول أبو نؤاس مخاطبا الخصيب:

وكذاك نعم السوق أنت لمن ....... كسدت عليه تجارة الشعرِ

أما الداعي الآخر لهذه الرحلة فقد قيل أن والي مصر من قبل هارون الرشيد، أبا نصر، المعروف بالخصيب هو الذي دعاه لزيارتها، والقدوم إليه، والخصيب هذا هو إبن عبد الحميد بن الضحاك الجرجاني، وكان خادما من خدم الرشيد، يقوم في خدمته على وجه الخصوص ساعات الوضوء، وقد ولاه الرشيد على خراج مصر، وقد قيل إن سبب تولية الرشيد له على خراج مصر هو أن الرشيد كان قد قرأ يوما في المصحف، فانتهى إلى قوله تعالى: ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) الآية، فقال لعنة الله ما كان أرقعه ادعى الربوبية بملك مصر، والله لأولينها أخس خدمي، فولاها الخصيب .

ورغم أن داعي الزيارة هذا يعد مقبولا، إذا ما عرفنا العلاقة القديمة التي كانت تشد الخصيب الى أبي نؤاس، حين كان الخصيب فيها خادما للرشيد، وحين كان يجزل على الشاعر العطاء وقتها، فقد نقل ابن المعتز في كتابه طبقات الشعراء عن أبي خلصة أنه قال: رأيت أبا نؤاس واقفا بالجسر، ومعه غلام وجارية، لم أر أحسن منها، وهو على حمار فاره، فقلت: يا أبا علي ما وقوفك ؟ وما هذان معك ؟ قال: إن الخصيب حملني على هذا الحمار، ووهب لي هذا الغلام وهذه الجارية، فكيف تراهما ؟ قلت: ما يصلحان إلا للملوك . قال: صدقت . ولكنهما نعمة تتبعها نقمة . قلت: ولمَ ذاك ؟ قال: إني أخاف أن أدع الغلام مع الجارية، فيكشخنني فيها ( أي يجعله قوادا )، فهل عندك من رأي ؟ قلت: تجعل الجارية في منزل الثقات من أخوانك، فتزورها إذا شئت . قال: أخاف أن أسترعي الذئب ( أي يجعل الذئب راعيا )، بعدها افترقنا، ثم التقينا بعد أيام، فقال لي: شاورناك في أمرهما فما فتحت لنا بابا، وإني لما فارقتك ازدحم الرأي المصيب على لساني وقلبي . فقلت: ما صنعت ؟ قال زوجت الغلام من الجارية، فصرت أكشخنه فيها ( أي صار الغلام قوادا له )، فقلت: إن الشيء كان حلالا لك، فجعلته حراما . فقال: يا أحمق أ في الحلال شاورناك أم قلنا لك ما الرأي ؟ فقلت: عليك لعنة الله ما أهداك الى كل آبدة! ( عمل موحش )

ومن هذه الحادثة يظهر لنا قدم العلاقة التي كانت تشد الشاعر الحسن بن هانيء الى الخصيب، خادم هارون الرشيد، ووالي مصر الجديد، وقد تكون هذه العلاقة القديمة هي السبب في الدعوة التي وجهها الخصيب الى أبي نؤاس من أجل زيارته في مصر، تلك الدعوة التي لباها الشاعر، فجاءه في رحلة طويلة، رغم شحط المسافة ما بين العراق ومصر، وعلى قساوة السفر إذ ذاك الزمان، حيث كانت العرب تقول: السفر قطعة من العذاب!

ومع هذا فقد كانت جل القصائد الذي قالها أبو نؤاس في مصر كانت قصائد مدح للخصيب، وكانت تطرح داعيا واحدا لسفره لا غير، وهو الحصول على ثمن هذا المدح بعد أن كسدت تجارته في بغداد على حد تعبير الشاعر في بيته المشار إليه من قبل، فما من قصيدة مدح قالها ابو نؤاس في ديوان الخصيب في مصر إلا وطلب منه ثمن مديحه هذا، وهو الهدف الذي كان يرمي إليه الشاعر، والذي حمله على أجنحة التعب، أو على نوق هوج مثلما صورها غاية في التصوير، إذ يقول:

إليك رمت بالقوم هوج كأنما ....... جماجمها فوق الحجاج قبورُ

ومن قصائد المدح تلك قصيدة في مدح الخصيب هي الأولى، على ما يظهر، من القصائد التي قالها الشاعر حال وصوله مصر، ولقائه بممدوحه، والتي مطلعها:

أجارة بيتينا أبوك غيورُ ....... وميسور ما يُرجى لديك عسيرُ

إذ فيها يرسم الشاعر طريق رحلته، ويذكر الاماكن والديار التي مر بها، ولكنه قبل هذا يلمح الى هدفه من رحلته تلك، وعلى لسان امرأة كان يخاطبها فيها فيقول:

تقول التي عن بيتها خف مركبي ...... عزيز علينا أن نراك تسيرُ

أما دون مصر للغنى متطلب ......... بلى إن أسباب الغنى لكثيرُ

= = = = = = = = = = = = =

* هو وزير هارون الرشيد قبل أخيه جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وكانت أم الفضل قد أرضعت هارون الرشيد، مثلما أرضعت الخيزران أم الرشيد الفضل كذلك، وكان هارون الرشيد لا ينادي الفضل إلا بأخي .

** اعتمدت أنا رواية ابن المعتز في كتابه طبقات الشعراء عن سنة ولادة الشاعر، أبي نؤاس، وسنة وفاته التي اختلف فيها الرواة، فقالوا هي أما سنة 195هـ، أو سنة 198 هـ، كما إن ابن المعتز يحدد عمر الشاعر بخمس وخمسين سنة بعد ذكره لتاريخ ولادته ووفاته .

 
 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com