دراسات نقدية

 

طواويس الخراب للشاعر سعد جاسم توظيف اليومي والمألوف شعرياً

 

عيسى حسن الياسري

شاعر عراقي مقيم في كندا

fantasticbird2005@yahoo.ca

( ايها الخريف

 متى...

 ستخلع

 قميصك المريض...؟ )

  طواويس الخراب هي المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر العراقي سعد جاسم . حيث اصدر قبلها مجموعة شعرية بعنوان ( فضاءات طفل الكلام ) ومجموعة( موسيقى الكائن) . واذا كان الشاعر وفي مجموعتيه الاولي والثانية قد وقع تحت ضغط الاشتغال علي تشكيل الصورة الشعرية ... والانقياد نحو هندسة الابنية الخارجية ؛ والتجريب البنائي اللغوي؛ الا انه وفي مجموعته الشعرية الجديدة؛ اوجد لنفسه منطقة شعرية متميزة... حيث اعطى لتجربته الشعرية حرية التنقل عبر فضاءات تنفتح علي سعتها لتسهل علي القصيدة ان تغور عميقا في الواقع.. وان تشكّل مادتها الفنية والابداعية من خامات حياتية يومية قد نمرُّ نحن عليها من دون ان نوليها اهتماماً.

 لقد شكّلتْ المادة اليومية وكل ما هو سائد ومألوف ومنطرح علي الطرقات .. العناصر الادائية الشعرية المهمة لهذه القصيدة . وبذا ألغى الشاعر الفوارق المفتعلة بين ما هو شعري وبين ما هو غير شعري مستندا الى النظرية التي تحيد الرأي القائل بأن المفردة اللغوية ذات استخدام خاص... فما يصلح منها للشعر لا يصلح للسرد القصصي.. وما يصلح لهذا السرد لا يصلح للاستخدام الشعري.. في حين اثبتت الكشوفات النقدية بأن كل مفردات اللغة هي مفردات شعرية ؛ حتى تلك التي التي تبدو في منتهي العادية شريطة ان توضع في موضعها المناسب والطبيعي.

ومن هنا جاءت استخدامات الشاعر سعد جاسم لمادة الحياة اليومية ... حيث لم نتمكن من فصلها عن حقل القصيدة شعرياً ؛ رغم اغراقها في اليومي

والعادي والمألوف كونها جاءت معبرة عن حالة شعرية خالصة ونتاج تجربة تتميز بالصدق والعفوية ... وهكذا تظلُّ قوانين الشعروتنظيراته النقدية

أقرب الى الدرس التعليمي ؛ وتبقى للشاعر قوانينه الخاصة في كتابة نصه الشعري والذي تحدده تلك اللحظة الزمنية الاستثائية والتي يقع فيها تحت تأثير

المكوّن الجمعي الخارجي والمكوّن الفردي الذاتي ... وعندما يذهب الشاعر للكتابة من خارج هذه المنطقة فان الفارق بين الشعري واللاشعري : مفردة

أو موقفأ أو حالة حياتية سيظلُّ قائماً وفارضاً حضوره على النص . ومن هنا تقوم الحواجز النفسية بين النص ومتلقيه ... ولكي يتخطى الشاعر هذه

المعضلة فأنه استطاع وبوعي معرفي منفتح أن يتجاوز هذه الاشكالية ؛ لأنه وبقدر ماكان يشعر بحاجته الى الحرية رآى ان النص هو تشكيل حياتي

لايقلُّ عنه حاجة لأن يكون حرأ في حركته وأبنيته وتقنياته ... وقد ظهرَ هذا بوضوح منذ أول نص شعري يفتتح به مجموعته ( طواويس الخراب ) .

حيث نلتقي بنصوص تمثّل لقطات ذكية لموضوعات قد لاننتبه اليها دائماً :

( هيئتهُ ...

التي كانت فصلاً مثيراً

في كتبِ السيرةِ السريةِ

لنساءِ الأحياءِ القديمة ).

هنا يتتبع الشاعر تحولات هيئة الآخر مستخدماً ضمير الغائب وحالة التغييب - هنا- هي حالة الشاعر المنحّى عن هذه الهيأة والتي كانت في يوم ما

تخصَّه .. لكن حين يجدها وقد تحولت من فصل مثير تتناقله نساء الاحياء القديمة في مجالسهن السرية ؛ الى شئ يخيف الزوجة والاطفال ومرايا

الغرفة والدفاتر والطيور والاصدقاء ؛ بل وحتى تخيفهُ هو ... هذه التحولات المروّعة للهيئة هي تحولات مألوفة ويومية نصادفها في كل طريق

ومنعطف نمر به ... وقد لاتثير استغرابنا ... وكل مايمكن ان نصفها به هو كونها مألوفة من حالات افعال الزمن هذا اللص الذي يعرف كيف يسرق منا حياتنا الجميلة والآسرة ؛ ويحولها الى هيئات مفزعة دونَ ان نستطيع حمايتها أو الدفاع عنها ... ولكن هل فعلاً ان هذه الهيئة التي وضعها الشاعر

أمامنا على طاولة النص التشريحية قد مرّت عليها هذه التحولات بفعل الزمن ؟

لو كانت رؤية الشاعر مقتصرة على عامل الزمن لأنتجت نصاً مختلفاً تماماً لاصلةَ له بالنص المطروح بين ايدينا ... ولكانت الصفة الغالبة عليها هي صفة وجودية محضة ... في حين ان النص يعالج موضوعة بعيدة عن موضوعة الزمن الفلسفي ... انه ينحو منحى شعرياً خالصاً وذلك من خلال التعامل مع تحولات هيأته تعاملاً انسانياً ؛ فما حدث لها لاصلة للزمن به على الاطلاق ... والا مادخل الزمن في صنع هذا التكوين السوريالي المفزع :

( - سحنةٌ متفحمةٌ

 - عينٌ واحدةٌ

 - نصفُ أنفٍ

 - اذنٌ خرساءٌ

 - ذراعٌ يتيمةٌ

 - وعكازٌ اعمى ... )

 ان هذه التشوهات لايمكن ان يقوم بها الزمن حتى ولو عدنا فيه [ الى ارذل العمر] وعلى العكس من ذلك فانه يضفي علينا جمالاً جديداً اسمه :

 وقار الشيخوخة .

ان ماحدثَ لهذه الهياة هو بسبب فعل عبثي شكَّلهُ أعداء الانسانية وأعداء الحرية .. ومشعلو حرائق الحروب المرعبة ... وبالرغم من بساطة التناول

والاقتصاد في استخدام المفردة ... وهي مواصفات تنطبق على جلِّ قصائد المجموعة ؛ وكذلك بالرغم من ابتعاد الشاعر عن اية اشارة واضحة

لاسباب هذا الخراب الا انه وظّف هذه المجموعة من المفردات البسيطة توظيفاً رمزياً ناجحاً . وهذا مااعطاها قوة الشفرة الدالة على الحدث من دون

البوح به أو الذهاب اليه بطريقة مباشرة .

 ان كل ماقدمه لنا الشاعر هو مخلفات تلك الحروب والآثار التي تدلُّ عليها . وهذا ماجعلَ كل مفردة من مفردات نصه تحتشد بكم ايحائي وتخيلي مبهر.

 وتقابل قصيدة ( هيئته الآن ) من حيث ابنيتها واشاراتها الدلالية قصيدة ( طواويس الخراب ) والتي اتخذت منها المجموعة عنواناً لها .. انها قصيدة

يومية هي الاخرى . ولكن هل يمكن ان نفرغ اليومي من شرطه الترميزي والدلالي ؟ عندما يحدث هذا فانّ استخدامنا سيبقى متوقفاً خارج دائرة الشعر.

ولكنَّ وعي الشاعر الذي تشكَّلَ داخلياً وبعيداً عن القصيدة ؛ هو تشكّل يزدحم بالرموز ذات الدلالات الموحية قد ارتفع بكل ماهو وضيع ومألوف

الى ما يقرب من الاستثنائي ؛ بل وحتى الاسطوري . وهو يفاجئنا بهذا المنجز منذ العنوان ... فالطاووس هو رمز الجمال ؛ وجماله هذا يدفعه الى

 الكِبَروالخيلاء . وهنا يثير لدينا الشاعر اكثر من تساؤل لايخرج عن دائرة الشعر الذي هو عبارة عن سلسلة من الاسئلة التي لانبغي هنا ان نجيب

عليها بالضرورة . اننا نسأل : كيف ينتهي الجمال الى عامل ينشر الخراب في كل ماهو جميل ؟ أوَ لايمكن ان يدمر هذا الجمال نفسه عندما يحوِّل

كل ماهو قريب الى خراب ؟

وهنا يظهر لنا الجانب التجريدي في استخدام العنوان . وكذلك استعاراته المجازية الترميزية ؛ حيث ننحي الطاووس جانباً حتى لانسئ الى جماله البرئ

ونستقدم معادلة التشبيهي ليحلَّ محله . فالمعادل التشبيهي هو وحده القادر على تأدية وظيفة الخراب ؛ وهو خراب لايصيب الابنية ليمضي فيها

خراباً ويضعها في منطقة تجعلها قابلة لكل توصيف يطلق عليها :

 ( أَمّا عن اسمهِ

 فانهُ ... وفي حمّى النداءاتِ

 سيصبحُ غنياً عنهُ

 لأنَّ الآخرينَ ... سوفَ لن ينادوه

 الاّ :

 - ياأخ

 - ياسوّاق

 - ياحاج

 - ياشوفير

 - ياعم

 - ياسيد

 - يازلمه

 - يارجل

 - ياشيخ

 - يا ... يا ... الخ .. الخ .. )

 كلمات ... لاشئ سوى كلمات نسمعها في اليوم الواحد مرات ومرات ؛ حيث يتصالح معها السمع للدرجة التي قد لايسمعها على الاطلاق لكثرة تكرارها.

ولكنها هنا تهزُّ كلاً منا هزاً عنيفاً ... لأنها تنبهنا الى ماتحولنا اليه بعد ان اصابنا الخراب .

 ان ( طواويس الخراب ) نقلة مهمة في تجربة الشاعر سعد جاسم تتناسب تماماً مع ماآلتْ اليه حياته ... أو هيئته ...

 وتحولات هذه الحياة وهذه الهيئة .

 

 * طواويس الخراب - شعر سعد جاسم - منشورات دار الخليج - الاردن - عام 2001 .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com