دراسات نقدية

 

 أبو نواس في مصر (3)

سهر العامري

aslam326@hotmail.com

طريق الرحلة:

سلك أبو نؤاس في رحلته الى مصر طريقا تجارية، متعرجة، مأهولة، ومأمونة في الوقت نفسه، مثلما كان أصحاب القوافل التجارية يريدون ذلك في تعاملهم التجاري ما بين بغداد عاصمة الإمبراطورية العباسية زمن رحلة أبي نؤاس الى مصر، وبين أطراف الإمبراطورية هذه شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا .
ويبدو أن الرحالة من غير التجار في ذلك الزمان كانوا يفضلون هذه الطرق الآمنة التي تصل بهم الى غاياتهم، فأشخاص مثل أبي نؤاس، أو مثل ابن بطوطة، أو ابن حوقل لا يقون بمفردهم على توفير حماية لقافلة ما، وفي طرق لا يعرفون اتجاهات سيرها، ومحطات توقفها، بذات القدر الذي يعرف به أصحاب القوافل التجارية تلك الطرق عن سابق خبرة وتجربة، وعلى هذا قلما رأينا مثلا الرحالة المشهور ابن بطوطة مسافرا دونما قافلة تجارية، أو قافلة حجيج يصحبها نحو مبتغاه في هذه الدولة من الدول، أو هذا البلد من والبلدان، شأنه في ذلك شأن الشعراء والأدباء والمؤرخون المسافرون في تلك الأزمنة .
كانت الرحلة التجارية البرية المنطلقة من بغداد الى البلدان الأخرى تتخذ مكان تجمع للقوافل المغادرة يكون على مقربة منها، وباتجاه البلد المغادر إليه، وبذات الوقت يكون هذا المكان هو محطة استراحة للقوافل التجارية القادمة لها، ويبدو أن محطة التجمع هذه للرحلات التجارية المتجهة من بغداد صوب الشام ومصر، وما وراءهما، وفي زمن الشاعر، أبي نؤاس، كانت هي محطة عقرقوف، تلك المدينة العراقية التي كانت عاصمة للملوك الكيشيين الذين بسطوا سيطرتهم لفترة وجيزة على بابل، وكانت هي تحمل قديما اسم: دور كوريكالزو، نسبة للملك الذي ابتناها .
من هذه المدينة التي لا زالت قائمة للان، والتي تبعد عن بغداد بأكثر من عشرين كيلومتر، وتقع الى الشمال الغربي منها، انطلقت الناقة الهوجاء التي حملت أبا نؤاس على ظهرها، حين كان الفجر يكحل بأول خيط من خيوطه عيون تلك المدينة القادمة من أعماق التاريخ:
إليك رمت بالقوم هوج كأنما
جماجمها فوق الحِجاج قبورُ *
رحلن بنا من عقرقوف وقد بدا
من الصبح مفتوق الأديم شهيرُ
وبعد مسير مجد، وحين غارت الشمس وراء الأفق، كانت النوق الهوج هذه تغور في مكان يقع بعد الأنبار، تقطنه قبائل أياد من العرب، يدعى: عين أباغ، ومنه واصل الركب سيره ليلا حتى بلغت ماء يسمى: ماء النُقيب**، حيث شفت تلك الإبل غليلها منه، وقت أن حان من الديك صياح يعلن فيه عن مولد يوم جديد من أيام هذه الرحلة النواسية المتواصلة، والتي مرّ فيها الركب بتدمر والغوطتين والجولان من الشام، لينحدر بعد ذلك جنوبا نحو فلسطين في ليل مدلهم، بهيم، عانت به تلك النوق ما عانت من وعثاء الطريق، وهي تمر دون مدينة بيسان، ومن ثم دون الرملة ونهر فرطس القريب منها، منحرفة في سيرها عن بيت المقدس، نازلة في غزة من أقرب نقطة تقع في جنوب مدينة الرملة تلك، ثم من غزة الى مدينة الفرما الفرعونية، المصرية التي لا تبعد أثارها القديمة اليوم كثيرا عن مدينة بور سعيد الحديثة التي ظهرت الى الوجود بعد حفر قناة السويس زمن سعيد باشا، ومن هذه المدينة القديمة تحث النوق تلك خطى السير، ليلقي الشاعر عصا الترحال في مدينة الفسطاط*** التي اختطها العرب سنة 20 للهجرة وقت أن كانت القاهرة التي قامت على لصق منها في بطون القادم من الأيام، حيث لم تكن هناك دولة فاطمية قد قامت بعد، وحيث كان جوهر الصقلي، بانيها، أمشاجا في ظهور أجداه تفصله عن زمن الشاعر والخصيب ما ينيف على المئة سنة .
بعد أن طرحت على القاريء الكريم خط سير الرحلة النواسية من بغداد الى مصر نثرا، ها أنذا أطرح هذا الخط عليه ثانية شعرا، ومن لسان الشاعر نفسه، ليستمتع به، رغم شحط المسافة الزمنية بيننا وبين الشاعر، ووقت جريان تلك الرحلة . يقول أبو نؤاس:

إليك رمت بالقوم هوج كأنما
جماجمها فوق الحِجاج قبـــورُ
رحلن بنا من عقرقوف وقد بدا
من الصبح مفتوق الأديم شهيرُ
فما نجدت بالماء حتى رأيتها
مع الشمس في عيني أباغ تغورُ
وغمّرنَ من ماء النُقيب بشربة
وقد حان من ديك الصباح زميرُ
ووافين إشراقا كنائس تدمر
وهن الى رعن المدخن صـــورُ
يؤممن أهل الغوطتين كأنما
لها عند أهل الغوطتيــــن ثؤورُ
وأصبحن بالجولان يرضخن صخرها
ولم يبقَ من أجراحهن شطـــورُ
وقاسين ليلا دون بيسان لم يكد
سنا صبحه للناظرين ينيـــــــــرُ
وأصبحن قد فوزن من نهر فُرطس
وهن عن البيت المقــــدس زورُ
طوالب بالركبان غزةَ هاشم
وفي الفرما من حاجهن شقـــورُ
ولما أتت فسطاط مصر أجارها
على ركبها أن لا تزال مجيـــــرُ
من القوم بسام كأن جبينه
سنا الفجر يسري ضوؤه وينيــرُ
زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى
وفي السلم يزهو منبر وسريـــرُ

الأبيات هذه جاءت في ختام قصيدة من قصائد المدح التي قالها أبو نؤاس بأمير مصر، الخصيب، وقد افترضت أنا فيما مضى من الكلام أنها كانت هي أول قصائد المدح التي أنشدها الشاعر لممدوحه، فالشاعر منحها عناية خاصة، وقدم فيها لممدوحة وصفا لرحلته ابتدأه من مطلع هذه القصيدة الذي طرح فيه تبريرا لهذه الرحلة حيث قال:
أجارة بيتينا أبوك غيورُ
وميسور ما يُرجى لديك عسيرُ
والقصيدة هذه، بعد ذلك، كانت من قلائد شعر الشاعر، وقد طارت شهرتها، فحفظها العامة والخاصة، مثلما يقول ابن المعتز في طبقاته، ويبدو أن الشاعر قد أعد لها العدة قبل أن تطأ أقدامه مصر، ولهذا فقد زاد عدد أبياتها عن نظيراتها الأخرى، كما أن المرء يلحظ أن الأبيات التي اشتملت على وصف طريق الرحلة قد أضيفت الى القصيدة بعد ساعات الوصول الى مصر، وذلك من خلال سبق الأبيات التي اختصت بمدح الخصيب، ومن ثم تأخرها عنها فيما بعد .
عدا قصائد المدح الأربعة هذه لم يظهر في ديوان الشاعر إلا ثلاث مقطوعات شعرية قالها الشاعر في مصر، واحدة في بنت الخصيب، لُباب، والتي عرج على مدح أبيها فيها كذلك، والثانية في فتى قبطي قضى معه الشاعر ليلة غلامية على عادته في بغداد، والثالثة ألقاها في مسجد على بعض من أهل مصر الذين شغبوا على الخصيب، ففرق أبو نؤاس شملهم بأبيات تلك المقطوعة، وأعفا الخصيب بها من قتالهم .
ــــــــــــــــــــ

* الخطاب في البيت موجه الى الخصيب .

** النُقيب ليس تصغيرا لصحراء النقب من فلسطين مثلما ظن محقق الديوان وشارحه، فالطريق التي سلكها أبو نؤاس لا تؤيد هذا الظن، وربما كانت هي عين ماء، أو شريعة على نهر الفرات بهذا الاسم، حيث سارت القافلة بأبي نؤاس بمحاذاته، والبيت الذي يحمل كلمة: النُقيب، بعد ذلك، مستقر في مكانه الطبيعي من القصيدة، وليس زاحفا عنه على ذلك الظن .

*** وصف ابن حوقل في صورة الأرض مدينة الفسطاط بعد ما يزيد من قرن وثلاثين سنة من رحلة أبي نؤاس إليها فقال: (الفسطاط مدينة كبيرة نحو ثلث بغداد، ومقدارها نحو فرسخ، على غاية العمارة والخصب والطيبة واللذة، ذات رحاب في محالها، وأسواق عظام، ومتاجر فخام، وممالك جسام الى ظاهر أنيق وهواء رقيق وبساتين نضرة، ومنتزهات على مر الأيام خضرة ... وقد استحدث المغاربة بظاهر مصر مدينة سمتها القاهرة، استحدثها جوهر صاحب أهل المغرب عند دخوله الى مصر لجيشه وشمله وحاشيته، وقد ضمت من المحال والأسواق، وحوت من أسباب القِنية والارتفاق بالحمامات والفنادق الى قصور مشيدة، ونعم عتيدة ... )


 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com