دراسات نقدية

 

غزل البنات (2 ـ 2)

 عبدالكريم هداد / السويد

hadadkarim@hotmail.com

 مذكرات الشعوب، يمكن قرائتها من خلال تصفح الأدب الشعبي لها. فالحكاية الشعبية والأغنية وآلاتها الفلكلورية ومصنفات الأبداع الأخرى التي يتناقلها الناس يومياً بلغة بسيطة وعميقة الوضوح، تعطي الأنطباع العام لخصوصية هذا الشعب أو ذاك.

  الأدب الشعبي العراقي مازال متواصلاً وزاخراً بالتنوع والتعدد في الأشكال الفنية الضرورية له. وما نراه واضحاً في تجربة الشعر الشعبي العراقي المتنوع الأشكال والأغراض كالزهيري، الأبوذية، الميمر، العتابة، الهوسة، المربع، الملمع، وكذلك الدارمي، الذي يكنى في منطقة الفرات الأوسط من العراق _ غزل البنات _ وهو بإعتقادي من أجمل وألذ الأشكال الشعرية في الشعر الشعبي العراقي. واسم الدارمي له الكثير من التعليلات عند الباحثين العراقيين، منهم من يرده الى بني دارم، او لصبغة " الديرم " الداكنة المستعمل من قبل النساء في العراق وهو لحاء شجرة الجوز، ومنهم من يعلل الأسم لـ " دردمة " وهي تسمية شعبية للمتحدث مع النفس.

إن التسمية _ غزل البنات  _ أطلقت بسبب كون المرأة العراقية رائدة في الأبداع من خلال هذا النمط والشكل الشعري الشعبي. فقد دجنته وعبئته بدفء مشاعرها ومكونات أحاسيسها الشجية العذبة، كذلك نمنمات أشياءها اليومية. فما بين شفافيتها كأمرأة ووضعها الأجتماعي المتوارث والذي يقمع طموحها الأنساني، فوجدت في الدارمي خير لسان حال لها.

فتلك الفتاة التي منعها إخوتها من ترديد – ياعلي – وهي عادة مكتسبة بالفطرة لأغاثة النفس، بعد أن إتضح لهم إنها تعشق فتى من القرية إسمه " علي ". هذه الفتاة هي التي تنهدت بنار حزنها المكتوم قائلة :

حَرِمَوْا حَتَى الصوت   بِسْمَك فَـلا صيح

دمعتي بْطَرفْ العين    بَسْ أرمِشْ اتْطيحْ

  لذا فشكل بناء الدارمي يتكون من شطرين فقط. وهو سلس الوقع ذو موسيقى ناعمة تفيض به الكلمات الدارجة العراقية البيئة ذات الشحنات الجذابة بمدلوليتها. ومن خصائص الدارمي هو الكشف عن حالة ما، وبوضوح تام. وهنا نتلمس ابداعية شاعرة أو شاعر الدارمي لكون المساحة الكتابية ضيقة وقصيرة جداً مقارنة مع الأنماط الأخرى في الكتابة الشعرية الشعبية العراقية. فيمكننا هنا تسميته بشعر " الومضة "، فهو يحمل روحية الأقصوصة المرتوية بزوايا الحدث، كما توضح ذلك عند الدارمي المذكور أعلاه. ونظراً لسهولة معانيه العميقة وما يحمله من ترافة نغمية أخاذة ذات صدى شفاف على النفس، اعتمدت الكثير من الأغاني العراقية على شعر الدارمي وخاصة الأغاني التي ينتهي بها مطربو المقام العراقي، والمسماة بـ " البسته ".

  وقد أعطت الحياة العراقية اليومية الغنية والمتنوعة المواقف، تنوعاً حتمياً لأغراض الدارمي وموضوعاته المراد التعبير عنها. ومن الموضوعات التي تشبع بها هذا النمط من الشعر الشعبي، هو وصف الحال، وما أقرب حال الأنسان العراقي الآن من حالة قائلي هذه الدارميات...

 

أَنْهَضْ وَگَعْ لِلگاعْ         وَتْوَچَّه وَانْهَضْ

ماخَلَه عَظِمْ اصْحيحْ      رَضْني الدَهَر رَضْ

***

يِالتِنْشِدْ اعْلَى الحال              حالَتْنَه حالَه

سِمْچَه وشِحيحْ المايْ          وِبْظَهْري فالَه

***

الدنيَا لِلتِهْواهْ                   تِرخيلَه الِحْبال

اتْنَزِلْ الطَيْبينْ                    وِاتْغَيّرْ الحال

***

مِتْعَجِبْ ابْدِنْيّاك                   غَثِتَكْ فَدْ يومْ

غَثَتني وَكْ دنيايْ                 خَلَتْني ماگومْ

  وكم هي جميلة وصية الأم لأبنها، على أن يكون عزيز النفس في زمن ردئ...

خَلْ روحك ابْعِزْ دوم               بالَكْ تِذِلْهَا

ولا تِطلِبْ الحاجات              إلا من اهَلهَا

***

لو ضَكِتَكْ دِنْيّاك                ها بالَكْ اتْصيحْ

إرچي الرمح لِچلاك           واصبر لَمَا اتْطيحْ

***

الدنيا يوم ويوم               إسْحَکْ عَليهَا

لو بالعمر تِشْريك             لا تِشْتِريهَا

  المتتبع منا لشعر الدارمي، بستشف في الكثير منها إسلوب المحاكاة، وهو نمط اسلوبي جميل بنيّ على طريقة المطاردة الشعرية. والمطاردة الشعرية في الدارمي تختلف عن تلك المتبعة في الشعر العربي الفصيح، لأنه يركز على الموضوعة المتناولة لا على حرف الروي. كما أن المطاردات في الدارمي تأخذ منحى المجارات للموضوع او نقضه وأحياناً كثيرة المبالغة في تناول الموضوع  المطروح...

 

بَتْ بَعَدْ بِالَدلال            واتعكزْ اعليه

لا يِنکِطِعْ وَابْلاك        يالحادي رِدْ بيه

***

بَتْ بعَد بِالدَلال           شعره ايْتِلولَحْ

حتَى المِچانْ البيه         ذاب وتِمولَحْ

***

بتْ بعد بالدلال            عندك عجيبَه

هم شِفِتْ هَمْ سِمعيتْ       بالريَه شيبَه

  وعلى هكذا منوال تستمر الردود في الموضوعة الواحدة لعشرات الأبيات من الدارمي، وفي موضوعات أخرى مختلفة ومتنوعة طرحها الشعراء في مباراتهم. التنوع هذا أعطى لشعراء الدارمي الكثير من مناهل تدعيم بنائية الدارمي. فمنهم من استساغ الشعر العربي الفصيح وأخذ موضوعاتها وأعاد صياغتها بوجة نظر مختلفة ضمن إطار الدارمي. فقول الشاعر قيس بن الملوح :

                دعا بأسمِ ليلى غيرها فكأنها

          أطار بليلى طائراً كان في صدري

يكون خلال صياغة شاعر الدارمي في بناء أكثر وضوحاً، ضمن سلاسة شعبية لها رجفتها الخاطفة في ومضها :

ريتْ الله لا ينطيك يالصحتْ باسمَه

فَرْ فَرّتْ العصفور گلبي شيلِزْمَه

كما غرف اغترف شعراء الدارمي من الأمثال الشعبية لتدعيم موضوعهم. فالمثل الشعبي القائل ( اذا طاح البعير كثرت السجاجين..!) يتعامل معه الشاعر الشعبي كركيزة في الأفصاح عن مبتغاه، فها هو يقول...

 

طاح الگلب وارتاح     كثروا السچاچين

ما بعد يِسْوَه اللوم       والعتَبْ يَاحسين

 

  وهناك من يعتمد صيغة السؤال والجواب كوحدة أساسية ضمن إطار حدود شكل الدارمي مع الإبقاء على خاصية هذا النمط الشعري ألا وهو إبراز الحالة بوضوح عميق...

اشْلونَك اشْلون الدار     واشْلون اهَلهَا

حَزْنانَه خويَه اعْليك       جا ما تِصَلْهَا

إضافة لذلك استخدم اسلوب الحوار حينما يكون هناك موضوعاً مشتركاً بين اثنين أو أكثر، ومن هذه الحوارات الحوار التالي بين عاشقين...

هايِمْ وادور اعليچ       واتنشَد الناس

ياحِلوَه كيف انساچ    والفشخه بالراس

***

تِلگاني بالبستان         وي ريحة الياس

ويه الهوه الحلمان        اصرخ ياعباس

ومن الحوارات ذات النكهة المنولوجية، والمشهد حاصل بين سيدتين...

المرأة الأولى :   

دادَه اخذي رجلي    اوْياچْ لِلسوگ اجلْبيه

بِوجيَةْ تمر بيعه               بالِجْ تِرِديه

المرأة الثانية :

دادَه انتي رجلج زين      ايْجيبْ الوْجيّه

بِعتَه ابْثَلِثْ تمرات         او ردوه عَلَيّه

 والدارمي ادناه يرسم الشاعر نفسه به بشكل كاريكتيري طريف ذا تعبير يبين روحية صاحبه الفكاهية...

وبْجيبي ابو الفلسين    واطرب واغني

لو چان ابو الخمسين     چان اشحملني

أما عن علاقة الدارمي بالسويحلي، هو أن السويحلي دارمي مقلوب أي زحف االقافية الى البداية في الشطرين ولتوضيح ذلك  نرى أن الدارمي التالي...

يايمّه شيلي الزاد             بالهَّم تَعَشيتْ

جابولي طاري اهوايْ      وبالزبده غَصيتْ

وعندما يتحول الى السويحلي يكون شكله هكذا...

بالهَم تَعَشيتْ               يايمّه شيلي الزاد

وبالزبدة غَصيتْ     جابولي طاري اهْوايْ

ومن الدارميات الجميلة...

شبه الدرج دنياك           شَيْ اعْلى من شَيْ

يِالبِشَمس ظَليتْ                لازم يِجي الفَيْ

***

ياروحي لا تملين               للنذل بالچ

راح وبعد ماعاد             اليرجي حالچ

***

اصفج الراح ابراح      واتغنه بالراح

خاف من اگولن آه      شماتي ترتاح

***

گالولي منهو ذاك          گلتلهم اهواي

شنهو العلامة البيه      رف گلبي وچلاي

***

نجمة صبح ياهواي       واسگط على اغطاك

وبحجة البردان                 اتلفلف اويّاك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • نشر هذا الموضوع في جريدة المجرشة العراقية،  التي اصدرها الفنان العراقي فيصل لعيبي في لندن، في أواخرعقد تسعينيات القرن الماضي.

  • ولكاتب هذه السطور بعض الدارميات المنشورة في ديوان " آخر حزن " الصادر في السويد عام 1999.

يَالرايِحْ اعْلَه الدار       هاك إخذْ العيونْ

حَنّتْ تِشوفْ هْناكْ     أهلي اليِنطرونْ

***

لِلوطن... للناس       مشتاگه كِلِّشْ

روحي بْحَنين وشوگ   بَردانَه تِرعِشْ

***

بْداري لُـو مَريتْ   طِشْني ندَى وياسْ

ولأمي بوسَة عيد    حِبْهَا عَلَى الراسْ

***

مَراتْ أفزْ فرحان    چنّي بْوَطنَه

وفْيّايْ نخل البيت   يْلِمْني وْيَه اهلنَه

***

فارِشْ جفون العين     مَلگه  لْصِوَرْكُمْ

بلچنْ أصادِفْ طيفْ      يحچيلي عَنْكُمْ

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com