دراسات نقدية

 

الرصافي شاعر التحرر... يحاول إيقاظ الرقود ..!

 

هادي فريد التكريتي

hadifarid@maktoob.com

كثر هم شعراء العراق المعاصرين ، وكثر ، أيضا ، هم الذين وقفوا إلى جانب الشعب في مختلف مراحله ، يشاركونه همومه وطموحاته ، وما ابتلى به من حكم حكام ، أجانب وعراقيين ، أذلوه بعسفهم وجورهم عليه . إن ما أوقعه الحكام الجائرون بالشعب من مظالم ، على مختلف العصور ، تصدى لها الكثير من المثقفين ، وفي الطليعة كان الشعراء .
قبل تأسيس الحكم الوطني ، في العهد العثماني ، بزغ نجمان للشعر في وادي الرافدين ، هما الزهاوي والرصافي ، إلا أن الرصافي تميز بكونه أكثر التصاقا بهموم الشعب ، وأكثر مداومة على طرح ما يأخذ بيد العراق والعراقيين من أسباب التقدم والتطور ، متجاوزا كل ما من شانه أن يلحق به من ضرر شخصي ، فراح يستنهض الشعب ويبث فيه العزم والإقدام لتغيير واقعه ، وبجرأة متناهية ، أقدم ليس على كشف ما يحجب رؤى المجتمع من سجف الجهالة والتخلف ، بل عراها ومزقها ، علانية أمام الملأ وبصراحة متناهية ، طارحا البديل لها ، ومنذ أن كان العراق خاضعا لحكم الأمبراطورية العثمانية ، طالب بتنحية السلطان عبد الحميد ، وهذا موقف له لم يسبقه إليه شاعر عربي من قبل ، استمر في نقد الحكم وفضح الحكام ، بجرأته المعهودة حتى بعد أن نال العراق استقلاله ، أو ما يسمى بالحكم الوطني ، وأثناءه وحتى وفاته في منتصف الأربعينات لم يهادن الحكام أ وفساد حكمهم ، وإن كان ضاق ذرعا بجمود وتحجر الفكر الديني وموقفه المناهض للتطور ، واضعا إصبعه على الأسباب الحقيقية التي تعيق نهوضه وتطوره ، فالخلاص من المحتل ، والتحرر من الحكم الأجنبي ، ضرورة للتقدم والرقي ، لا يقل تأثيره على واقع المجتمع العراقي وتخلفه ، نتيجة المغالاة في الدين والتعصب له . فمنذ قرن من الزمان ، والمرأة وتحررها تشغل حيزا كبيرا في معالجات الرصافي ، فالتضييق على المرأة وإلزامها الحجاب ، وانعدام حريتها ، وعدم تعليمها ، والإنتقاص من حقوقها ، وإلزامها البيت ، من الأسباب الحقيقة في تخلف المجتمع وعدم تطوره ، لذا فالموقف عنده من المرأة ، سلبا أم إيجابا ، من الأسباب الجوهرية في التخلف أو التقدم ، فقصائده غنية بمعالجاته من هذا النوع ، وهذا ما أثار عليه حفيضة المتخلفين فكريا ، من حراس التخلف والرجعية . والفقر آفة ، عند الرصافي ، تعاني منه أغلبية المجتمع ، سببه الفساد والنهب والنقص في الكفاءة ، وجمود في أساليب التعليم ، وسوء الإدارة. والرصافي يعتقد جازما أن من أسباب انحطاطنا ، انعدام الحريات العامة وعدم وجود صحافة حرة ونزيهة ، ومجلس نيابي مزيف ، وحكومات غير وطنية ، ونقص في سيادتها ، كل هذه ، وغيرها من أسباب تكمن وراء تخلفنا ، عالجه وشخصه شاعرنا الوطني الكبير معروف الرصافي ، فالمتصفح لدواوينه لم يجد جرأة الطرح ، وغزارة المعرفة ، وسعة الأفق ، وعمق المعالجة في قصائده فقط ، بل هناك جزالة في اللفظ وغزارة في المعنى وتعددا في أغراض شعره ، وما نجده عنده دون الآخرين ، هو أن هم العراق وأهله لم يفارقه ، في كل قصيدة بارز وظاهر ، بغض النظر عن غرض القصيدة والموضوع الذي تعالجه ، وهذا أحد الأسباب التي تجعل من الرصافي ضمير الشعب وشاعر الوطن بلا منازع ، في تلك الحقبة الزمنية، قبل سقوط الحكم العثماني وبعده ، خلال الحكم الوطني وحتى وفاته.
لم يكن الغرض من مقدمتي هذه سوى أن أثير اهتمام القراء من الشباب للإطلاع على ما خلفه لنا هذا الشاعر الفحل من دواوين شعر ، كل بيت من قصائده يحمل الهم العراقي ويشكوه ، وكأن القارئ يعتقد ما يقرأه ، هو لشاعر يعيش لحظته بيننا ، يراقب وضعنا وحالنا عن قرب ، يستغيث من حكامنا وسوء فعالهم ، كما يقرعنا لتخاذلنا وعدم قدرتنا على المواجهة تارة ، وتارة أخرى ، يستثير حفيظتنا ، محاولا تأجيج نار وطنيتنا ومستفزا قدراتنا للنهوض من واقعنا المزري ، لمشاركة الأمم المتقدمة في نهضتها وتطورها ، خصوصا ونحن أصحاب مجد غابر ، فقصيدته \" إيقاظ الرقود \" هي بعض ما حاول أن يستنهضه فينا من همم للتغلب على واقعنا الذي سئمت عيشه قرود الغاب ، أنشدها قبل قرن من الزمان تقريبا، وهي لا زالت تحتفظ بكل أغراضها التي قيلت من أجله ، بما فيها من روعة في السبك والمعنى ، وسمو في الغرض ، كما هي تتماهي ووضعنا السياسي في ظرفنا الحالي ، أتمنى أن أكون قد أحسنت الاختيار ، تعريفا بشاعرنا العظيم الرصافي .
 

إيقاظ الرقود *

لشاعر العراق الكبير \" معروف الرصافي \"


إلى كم أنت تهتف بالنشيد
وقد أعياك إيقاظ الرقود
فلستَ وإن شددت ُعرى القصيد
بُمجد في نشيدك أو مفيد
لأن القوم في غي بعيد

إذا أيقظتَهم زادوا رقادا
وإن أنهضتهم قعدوا وئادا
فسبحان الذي خلق العبادا
كأن القوم ُخلقوا َ جمـادا
وهل يخلو الجماد عن الجمود

أطلتُ وكاد يعييني الكـلام
ملاما دون وقعته الحسام
فما انتبهوا ولا نفع الملام
كأن القـوم أطفـال نيـام
تُهز من الجهالة في مهـــــــود

إليكِ إليك يا بـغـــداد عنًي
فإني لسُتُ منـكِ ولسـتِ مني
ولكني وإن كَبـــــــُر التجني
يعز عليَ يـا بغــــداد أنــــي
أراك علــــــى شفا هول شديد

تتابعت الخطوبُ عليكِ تترى
وُبدِل منكِ حُلوُ العيش مُرًا
فهلا ُتنجبين فتى أغرَا
أراكِ عقمتَ لا تلدين حُرا
وكنت لمثله أزكى ولودِ

أقام الجهل فيكِ له شهودا
وسامكِ بالهوان له السجودا
متى تُبدين منـك له جُحوُدا
فهلا عُدتِ ذاكرة \" عهودا
بهن رَشُدْت أيام الرشيدِ

زمانَ نفوذُ حكمك مستمرُ
زمان َسحابُ فيضكِ مستدر
زمانَ العلمُ أنت له مقـــرُ
زمانَ بناءُ عزك مُشمخِرُ
وبدرُ علاك في سعدِ السعودِ

برَحتِ الأوجَ ميلا للحضيضِ
وضقتِ وكنت ذات عُلىً عريضِ
وقد أصبحت في جسمٍ مريضِ
وكنتِ بأوجه للعٍزِ بـيـض
فصرت بأوجهٍ للذل سُودِ

ترقَى العالمون وقد هبطنا
وفي َدَرك الهوان قد انحططنا
وعن سَنَنِ الحضارة قد شَحطْنا
فقَطْنا يا بني بغداد قَطْنـا
إلى كم نحن في عيش القُرود

ِ ألم تكُ قبلنا الأجدادُ تبني
بناءً للعلوم بكل فــــنِ
لماذا نحن يا أسرى التأني أخذنا بالتقهقرَ والتدني وصرنا عاجزين عن الصعودِ

كأن زحلٌ يشاهدُ ما لدينا
إذاك احمرَ من حَنَقٍ علينا
فقال موجها لوما إلينا
لو أني مثلكم أمسيتُ هيْنا
إذن لنضوتُ جلباب الوجودِ

رَكدتم في الجهالة وهي تمشي
وعشتم كالوحوش أخس عيشِ
أما فيكم فتى للعز يمشي
تبارك من أدار بنات َنعشِ
وصفدكم بأصفاد الركودِ

حكيتم في توقفكم جُدَيا
فصرتم كالسها شَعبا خفيا
ألا تجرون في مجرى الثريا
تؤمُ بدورها فلكا قصيا
فتبرز منه في وضع جديد
*******
حكومة شعبنا جارتْ وصارتْ
علينا تستبد بما أشارت
فلا أحدا دعته ولا استشارت
وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الجُدوِد

حكومتنا تميل لباخسيها
مُجانُبة طريقَ مؤسسيها
فلا يغرُرْك لين مُلابسيها
فهم كالنار تحرِقُ لامسيها
وتحسنُ للنواظر من بعيد

لقد غصَ \" القصيمُ \"بكل نذلِ
وأمسى من تخاصمهم بشغل
فريقا خُطتي غَيٍ وجهل
كلا الخصمين ليس بأهلِ
ولكن َمن لتنكيل المريد

إليهم أرسلت بغداد جُندا
ليهلك فيه من عبثٍ وُيفَدى
لقصدي ابن الرشيد أضاع قصدا
فلا يا بن الرشيدِ بلغت ُرشدا
ولا بلغ السعودَ ابنُ السعودِ

مشوا يتحركون بعزمِ ساكن
ورثة حالهم تبكي الأماكن
وقد تركوا الحلائل في المساكن
جنود أرسلت للموت لكن
بفتك الجوع لا فتك الحديد

قد التفعوا بأسمال بوال
مُشاة في السهول وفي الجبال
ُيجدُون المسير بلا نعال
بحال للنواظر غير حالِ
وزيٍ غيرَ ما زي الجنودِ

مشوا في منهجٍ جهلوه نهجا
يجوبون الفلا فجَا ففجَا
إلى حيث السلامة لا ترجى
فيا لهفي على الشبان تزجى
على عبث إلى الموت المبيدِ

وكلٌ مُذ غدوا للبيت أمًا
فودع أهله زوجا وُأما
وضم وليده بيد وشما
بكى الولد الوحيدُ عليه لمًا
غدا يبكي على الولد الوحيدِ

تقول له الحليلة وهو ماشِ
روُيدا\" لا برحت أخا انتعاش
فبعدك مَنْ يُحَصِل لي معاشي
فقال ودمعه بادي الرشاش
وكلتكم إلى الرب الودودِ

عساكر قد قضوا عُريا وجوعا
بحيثُ الأرض ُ تبتلع الجموعا
إلى أن صار أغناهم رُبوعا
لفرط الجوع مرتضيا قنوعا
ِ بِقِد لو أصاب من الجلودِ

هناك قضوا وما فتحوا بلادا
هناك بأسرهم نفدُوا نفادا
هناك بحيََرةٍ عدموا الرشادا
هناك لروعهم فقدوا الرقادا
هناك عُروا هناك من البرودِ

أناديهم ولي شجنٌ مهيجُ
وأذكرهم فينبعثُ النشيجُ
ودمع محاجري بدمٍ مزيجُ
ألا يا هالكين لكم أجيجُِ
ذكا بحشايَ محتدمَ الوقودِ

سكنا من جهالتنا بقاعا
يجور بها المؤمر ما استطاعا
فكدنا أن نموت بها ارتياعا
وهبنا أمة هلكت ضياعا
تولى أمرها عبد الحميد

أيا حرية الصحف ارحمينا
فإنا لم نزل لك عاشقينا
متى تصلين كيما تطلقينا
عدينا في وصالك وامطلينا
فإنا منك نقنع بالوعود

فأنت الروُح تشفين الجروحا
يُحرَج فقدك البلد الفسيحا
وليس لبلدة لم تحوِ روحا
وإن حوت القصور أو الصروحا
حياةٌ ُتستفاد لمستفيد

أقول وليس بعضُ القول جِدا
لسلطان تجبر واستبدا
تعدًى في الأمور وما استعًدا
ألا يا أيها الملك ُالُمفدى
ومن لولاهُ لم نكُُ في الوجودِ

أِنمْ عن أن تسوسَ الملك طرفا
أقم ما تشتهي زمرا وعزفا
أِطْل نكرَ الرعية ، خلِ ُعرفا
سُمِ البلدان مهما شئت خسفا
وارسلْ من تشاء إلى اللحودِ

فدَتكَ الناس من ملكٍ مُطاعِ
أبن ما شئت من طُُرق ابتداع
ولا تخشَ الإلهَ ولا تراعِ
فهل هذي البلادُ سوى ضياع
ملكت ، أو العبادُ سوى عبيدِ ؟

تنعم في قصورك غير دار
أعاش الناس أم هم في بوارِ
فإنك لن تطالب باعتذار
وهَبْ أن الممالك في دمار
أليس بناء \" يلدزَ \" بالمشيدِ؟

جميع ملوك هذي الأرض فلكُ
وأنت البحر فيك نَدى وُهلكُ
فأنى يبلغوك وذاك إفكُ
لئن وهبوا النقودَ فأنت ملكُ
وُهوبٌ للبلاد وللنقودِ .
 

*عن ديوان معروف الرصافي / المجلد الأول / الصادر عن دار العودة 1983
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com