دراسات نقدية

 

(نقوش على جذع نخلة) ليحيى السماوي قصائد مشغولة بنار الحب والحرب

 

لامع الحر

الشعر يقتحم عالم يحيى السماوي. ويتوغل في ثناياه، كأنه اللغة التي تترّبص به، لتعطيه النسغ المحدّ ق في الكلمات والمحلّق في الوجود، لا حباً في التحليق، بل لآجل التعالي على الجرح النازف أبداً.

يواصل الشاعر السماوي في ((نقوش على جذع نخله)) الصادر عن مجلة ((كلمات)) في سيدني (استراليا) الاستغراق في المأساة العراقية التي تستمر فصولاً على مسمع الرأي العالمي وعلى مراَه. وكأن هذا الدم البريئ الذي يسقط يومياً مضرجاً بنير الآله الآمريكية ليس دماً ! وكأن هؤلاء البشر ليسوا جديرين بالحياة وكأن الحياة لا تستقيم الا اذا شقّ الغزاة درباً من الموت لا نهاية لها في الآفق المنظور.

((نقوش على جذع نخلة)) ديوان كتبه الشاعر في القارة الاسترالية، حيث يقيم، أو حيث يكون منفاه الذي اختاره – على ما يبدو هرباً من الحاله الصداًمية التي سادت العراق خلال العقود الماضية، وأدّ ت الى رحيل ما يقارب مليوني مواطن، طمعاً في حياة أفضل، في اوطان تعترف بالانسان، وبقيمته على مختلف المستويات والصعد.

قارىء ((نقوش)) السماوي يدخل مباشرة الى بلاد الفرات، الى نخيله، الى ناسه، و الى جراحه التي تتدلى عناوين لزمن كان رمادياً، وصار أسود بالكامل، وكأنه الذاهب الى خضم لا يعرف السكينة ولا الهدوء.

العراق حاضر بقوة ليس في نقوشه فحسب، بل في مختلف دواوينه التي أتيح لنا قراءتها. لكن استراليا حيث يقيم اليوم، فلا أثر لها في الديوان، لا من قريب ولا من بعيد، ولولا الاشارة التي دوّنها في الصفحات الاولى، لما عرف القارىء مكان صدوره، وما خطر في باله أن الشاعر مقيم في استراليا منذ سنين خلت.

يبدو أن الشاعر، ما يزال يستلهم نصوصه من الذاكرة أولاً، ومن المتابعة الدقيقة لأحداث بلاده ثانيا، وكأنه مقيم في الحلّة أو في بغداد، او في اي مدينة عراقية أخرى، ترتع في خضم الصراع، وتمضي في ما يعده الزمن، من احداث جسام، لم تكن في حساب احد.

لست ادري كيف يتمكن السماوي من تجاوز المكان، مكان اقامته الجسدية تجاوزاً كلياً، وكيف يخرج من الزمان الاسترالي، وكأنه ما دخل اليه أصلاً، ويكتب شعراً لا يستمد شيئاً من الواقع الذي يعيشه، بل يستغرق كلياً في الماضي الممتد الى الحاضر الذي يسكنه وكأنه ما غادر أفياءه قط.

يترك السماوي، بملء ارادته، الواقع الاسترالي، بكل ما يحمله من جمال وتطوّر وحضارة ورقي، لينغمس في حرارة الصحراء العراقية بكل ما تحمله من دفء، واحتضان، وتأريخ عريق، وبكل ما يحملها اليها من حنين، يتجلّى قصائد، طالعه من قلب المأساة وكأن الشاعر ما غادر العراق قط !

نزار قباني على سبيل المثال، لم يكن أقل ارتباطاً وحنيناً الى واقعه العربي لكنه كان عندما يكتب، يدفع القارىء الى الدخول في الزمن القباني الجديد، فتستشف من خلال النص ان القصيدة لم تكتب في بيروت أو في دمشق، أو في أي عاصمة عربية، بل في الهند، أو في اسبانيا، أو باريس، أو لندن. وهذا ما يجعل النص قائماً على زمانين أو على مكانين، أو أكثر من ذلك، فيعطيه المزيد من الحيوية والجمالية.

من الصعوبة بمكان، أن يعيش الانسان جسدياً في مكان، وفكرياً في مكان أخر. وكأن هذا الجسد لا يتحسّس ما حوله، ولا يستغرق في جمالية المكان، ولا يستعذب بريق الحضارة الجديدة على طريقة شعراء الاندلس. أو كأنه يعتبر ان الخروج من الزمن العراقي الى أي زمن أخر، أشبه بالخيانة.

لا يمكن أن يسيطر الشاعر على أحاسيسه بشكل كامل. ولا يمكن للمرء أن يبقى خارج الزمان والمكان الذي يعيش في ثناياها. ولا يمكن ان يتجاوز مداول الذات، المتطلعة الى حاضرها ومستقبلها، والمستغرقة في تفاصيل ماضيها المستمر الى اليوم، وكأنه الحقيقة الوحيدة التي تتملكه فلا يستطيع مغادرتها، ولا حتى الاستئذان منها للتعرف أو للانخراط في حقيقة أخرى، قد تمتلك من الجاذبية ما يكفي، للتوغل في أعماقها.

شاعر عراقي في استراليا، يبدو وكأنه ما يزال مقيماً في عراق العراق، على ضفاف دجلة، على جذع نخلة، في حي بغدادي عتيق، أو في مربد البصرة، ينشد الجمهور قصائده الحماسية في حب بلاد الفرات، ويعلن حبه الكبير لهذا العراق الشامخ كنخلة في أقصى الفضاء، والماضي قصيدة خليلية، تستقوي بعمودها على رحابة المكان، وكأنها تريد أن تدق اَفاقه الواسعة.

شاعر لم تستطع الحياة الاسترالية أن تخترقه، أن تدخل حواسه، أن تقتحم وجدانه، أن تؤثر في يومياته، أن تخترق روتينه القديم، أن تتوغل في جوارحه، وأن تعيد نسج حياته من جديد. وكأن الحياة التي يعيشها تستمد كينونتها من الماضي المتجذر في ثناياه، كحقيقة وحيدة، لا تقبل الاشتراك بها، كي لا يحصل المحظور، وتقع في ما لا يحمد عقباه.

لا شك أن هناك الكثير من الشعراء عاشوا في عواصم غربية، سنين طويلة، وبقي الحنين جارفاً الى أوطانهم، ولربما ازدادت حرارته تحت وطأة الشوق فكتبوا ما جادت به أقلامهم له، من رؤى وعواطف. الا انهم عاشوا حياتهم في الغرب، وتأثروا الى حدّ ما بهذه الحياة، وبدت هذه التأثيرات جليه واضحة في كتاباتهم، ولا تسيء في قصائدهم التي تتوغل بعيداً في الجرح الانساني العميق.

السماوي نسيج وحده في هذه المسألة. عراقي من قمة رأسه الى أخمص قدميه في استراليا. وكأنه ما يزال في الصحراء قريباً من ((الخيل والليل والبيداء)) وقريباً من سنا أحلامه الكبيرة التي تتفجر هنا وهناك وصولاً الى اللحظة الحاسمة، أي الى عراق حر، وذلك يوم يرحل الغزاة من بلاده بخفي حنين، تاركين البلاد لأهلها الميامين.

وهذا يعني أن اقامة الشاعر في المنفى اقامة مؤقتة، وان امتدت الى ما يقارب العقدين وما تزال، وأن عودته الى ديار الأهل متوقعة، ومأمولة، وستتحقق على وقع طبول النصر القادم، وعلى وقع الوصول الى عراق محرر، من قيود الأجنبي، بعد أن تحرر بالكامل من المرحلة الصدامية التي كان وقعها ثقيلاً على العراقيين، المتطلعين الى الغد تطلعهم الى شمس الحياة، والى كينونتها الرائعة.

كما ان السماوي لم يزل ابناً باراً للشعر العمودي. وكأنه انتقل من الصحراء العربية الى الصحراء الاسترالية. وكأن الوضع لم يتغير وما يزال هو هو. فراح يغرف من ثنايا الشعر الخليلي كمن يغرف من بحر. وكتب أيضاً قصيدة التفعيلة الى جانب القصيدة البيتية، فكان التناغم بينهما واضحاً. حتى بدت كل قصيدة تكمل الاخرى، على وقع التفاعيل والقوافي التي تأتي في مكانها وكأنها قد صبّت صباً.

شاعر يتملكه الوزن تملكاً يدفعه الى الاستغراق فيه، والى الاستلهام من فضائه الواسع ما يروق له ويطيب. فيجمع ما بين قصيدة امرىء القيس، بكل ما ترمز اليه من جمال وقوّة، وبين قصيدة بدر شاكر السياب، بكل ما ترمز اليه من توق نحو التحرير من قيود الماضي، وللانطلاق نحو المستقبل. وظل يحلّق في هذين الفضائين. ولم يقارب أجواء قصيدة النثر، وما تحمله من طاقة تحررية، ومن قدرة على تجاوز الموروث، بكل ما فيها من سلبيات وايجابيات.

لكن ما يسجّل للسماوي انه شاعر مجيد في نظم الشعر العمودي، وشعر التفعيلة. وقادر على تطويع الاوزان لاحتواء الصورة التي يريد، والمعنى الذي يريد. وهذا امر غير متيسر لكثيرين من ابناء الشعر العمودي، الذين يرهقهم الوزن، فتأتي القوافي اذا ما طالت القصيدة مفتعلة، مصطنعة، وفي غير مكانها الطبيعي.

 لا يتوقف شعره على النزعة الوطنية، الصارخة؛ الطاغية، الممتدة مع امتداد الحبر الذي يجمع قصائد الديوان. بل ينأى أحياناً عن الوطنيات، ليذهب بعيداً في فضاء الوجدان، منغمساً في مشاعر حب صادقة، تصوّر ما يزخر به قلبه من شوق بالغ الى تلك الحبيبة المفترضة. الا أن هذه المشاعر لا تلبث ان تختلط بمشاعر الانتماء الى العراق، الى مدنه، الى نخيله، الى مأساته، الى جحيم الاحتلال، والى رحاب الجرح النازف، فتأتي القصيدة المشغولة بنار الفؤاد، متعددة الاوتار، مزدانة بالحركة، مكتملة بفيضها الابداعي المختلف الابعاد. ويغدو الشاعر وحده الفرات وبابل وسومر والرصافة والسماوة وكل ما يرمز الى العراق الصميم، بكل ما فيه من نبض وحياة. يقول : ((انا انت.. فتشني تجد بدمي – ما فيك من جمر ومن برد ـــ تجد الفرات يسيل من مقلي ـــ دمعاً فأشربه على جلد ـــ تجد الخراب البابلي على وجهي ـــ وذعر العاشق الأكدي انا بابل وانا حدائقها ـــ ورمادها وشريدها الابدي ـــ هل تسألين الان كيف انا ـــ انا في الهوى : بدد على بدد)).

والشاعر السماوي في ((نقوش على جذع نخلة)) لا يمكن أن يصل الى حافة اليأس، ولا أن يشعر بالاحباط، ولا أن يتراجع عن قناعاته السابقة، ذلك لأنه قد هيأ نفسه للتعامل مع مختلف الاحتمالات ومع مختلف المستجدات، مهما تكن صعبة أو قاسية.

فألليل ما يزال على حاله، والصبح يأتي بحكم التكرار، دون أن يحمل في طياته أي بشارة. وبات الشاعر وحيداً بلا أصدقاء، يتمشى في الأرصفة نفسها، متحملاً ما وصل اليه نهره من قحط وجفاف، وما تعرضت اليه الطبيعة من خراب.

الشاعر السماوي ما يزال يكتب القصيدة العمودية باتقان. وكأنها الخيار الشكلي الذي لا يتخلى عنه، مهما توغلت الحداثة في ابتكار مفاهيم جديدة، وأشكال جديدة بالموسيقى، وبالقافية.

((نقوش على جذع نخلى)) ما هي الا صورة المبدع المسكون بالهم العراقي، بكل ما يحمله من شجن وكبرياء، والمنساب شعراً كأنه الأرض التي تستقبل ما يرويها بعد طول جفاف، فتلتهم تلك العذرية، وتبعثها نشيداً للحب والحياة.

عن مجلة الشراع بيروت

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com