|
دراسات نقدية
جدلية الشابي وايمانية السياب خلدون جاويد يعبئ أبو القاسم الشابي في قصيدة مهمة من ديوانه وهي بعنوان ( شكوى ضائعة )، نصا مشحونا بالتضاد والتغاير في لوحة ترسم موت البشر والكائنات الاخرى،ولكنها بذات الوقت تشير الى قهقهة القدر الساخر من كينونة تبلى وتتجد، تموت لتولد من جديد، كالشجرة تذوي وتنتفي لكن بذرتها تعود لتنفي الانتفاء بمعنى تعود لتوجد، لتلد لتزدهر. واذا كان هذا القانون ( نفي النفي ) في الفلسفة قد ومض بريقه الشاعري في هذا النص فان ذلك يحيلنا الى التفكر بمدى ديمومة ذلك. واذا تقدم هذا القانون في الزمن فهل هذا يعني ان المادة لاتفنى، ومن ثم فهي لاتخلق من العدم كما تقول القوانين العلمية؟.. وبذا يحيلنا ذلك الى اشكالية ابدية المادة وأزليتها. ان هذا يتنافى مع ماورد في الآية الكريمة " كل من عليها فان ويبقى ربك ذو الجلال والإكرام. والتي تشير الى بقاء الوجود الألهي كما انها مقدمة لحياة اخروية جديدة. واذا سلمنا بالخلود الكلي للأشياء، المترافق مع الموت الفردي لأجزائها. فهل يقودنا ذلك الى ان المشهد الكوني يراوح او يتقدم في دائرة من التغاير !وذلك لأنه متجدد مع بقاء أثر الآية الكريمة متجسدة في الحقيقة والواقع؟ وصورته ( أي المشهد الكوني ) أدعى الى الاحتفاء بالجديد وتوديع القديم والبائد؟ لنطل على شذرات الفلسفة في الشعر :
تنهد الليل، حتى قلت : " قد نثرتْ تلك النجوم، ومات الجن والبشر ُ وعاد للصمت يصغي في كآبته - كالفيلسوف – الى الدنيا ويفتكر وقهقه القدر الجبار، سخرية ً بالكائنات. تضاحك أيها القدر تمشي الى القدر المحتوم، باكية طوائف الخلق، والأشكال والصور وأنت فوق الأسى والموت، مبتسم ترنو الى الكون، يبنى، ثم يندثر.
لم يقل الشاعر بأن الكون يندثر ثم يبنى. الاّ ان الواقع يقول انه يبنى كل نهار بتقويم زماننا، ولذا فمادمنا الى هذه اللحظة في حالة من سير وبناء وحركة الأشياء فلابأس من الاحالة الى تيارات عديدة ناقشت هذا الأشكال، منها الايمانية والمادية واللآادرية، الاّ ان بعضا من الاستنباطات الفلسفية تذهب الى ما مفاده " تكامل المتحرك نتيجة للحركة " يقول الاستاذ محمد تقي مصباح اليزدي :".... لما كان المتحرك يصل الى فعلية وكمال جديدين بواسطة الحركة فان كل حركة تكون بالضرورة اشتدادية مؤدية الى تكامل المتحرك.... والذين استنبطوا مثل هذه النتيجة وجدوا انفسهم مواجهين لمشكلة كبيرة وهي ان كثيرا من الاشياء تتجه تدريجيا نحو الضعف والذبول والموت، وحركاتها وتعبيراتها ليس فقط لاتضيف شيئا ً الى كمالاتها وانما تنقص من كمالاتها باستمرار وتقربها الى الموت والعدم، كما يحدث ذلك من النباتات والحيوانات، فبعد أن تمر بمرحلة النمو والتفتح فانها تبدأ مرحلة الشيخوخة والضعف، وتعاني من حركة ذبولية ونزولية ". ويعود الكاتب مستقرءا حالات لاتحصى، عدا مثال الشجرة او التفاحة ليؤكد على ان موت جانب من أي شيء هو حياة لجانب آخر منه. يضيف الاستاذ اليزدي في نفس الصفحة : " وللتخلص من هذه المشكلة توسلوا بهذا القول وهو ان هذه الحركات النزولية والانحطاطية مقرونة بحركات موجودات اخرى تتجه نحو النمو والنضج، فالتفاحة التي تصاب بآفة مثلا تفسد لكن الحشرة التي في اعماقها تنمو، والحركة الحقيقية هي الحركة التكاملية للحشرة والتي تؤدي الى نقصان كمالات التفاحة، وأما ذبولها وفسادها فانما هو حركة في العَرض ". ولعل بدر شاكر السياب قد انقذ مساجلتي العدم والوجود في قصيدة ذات نكهة فلسفية وشاعرية، ألا وهي قصيدة ( سفر أيوب ) اذ يوكل مايدور على مسرح أي حدث الى قدرة الاله الواهب والمتحكم بما يهب. وان السياب انطلاقا من ايمان واضح يحمد الخالق على هباته وكرمه. ان الايجاب والسلب منه. الحياة والموت، المطر والجدب وهلمجرا :
لك الحمد مهما استطال البلاء ومهما استبد الألم، لك الحمد ان الرزايا عطاء وان المصيبات بعض الكرم ألم تعطني انت هذا الظلام وأعطيتني انت هذا السحر؟ فهل تشكر الأرض قطر المطر وتغضب ان لم يجُدها الغمام؟ شهور طوال وهذي الجراح تمزق جنبي مثل المُدى ولا يهدأ الداء عند الصباح ولايمسح الليل أوجاعه بالردى. ولكن أيوب ان صاح صاح " لك الحمد، ان الرزايا ندى، وان الجراح هدايا الحبيب أضم الى الصدر باقاتها، هداياك مقبولة. هاتها ! ".
ان قصيدة السياب بلا ادنى شك، تقف على ناصية التوكل والايمان بأن الاله هو الواهب، وان عنصر المقابلة في النص الشعري السيابي اعلاه ليعبر عن ان كل ماهو حاصل للمرء في مسار حياته وما حدث ويحدث فهو وفق دلالة ومغزى. ان السياب يقابل الضد بضده ويعتبر ان مايصيب المرء كرما الهيا " الرزايا عطاء والمصيبات بعض الكرم " فلايجدر به ان يغضب او يتبرم. ذلك هو الكون المشتمل على الأضداد في مكوناته وكائناته المعلومة للرائي او غير المعلومة، فما يصيبنا اذن هو جزء مما لا نعرفه او نراه. ان للسياب في مرضه حبا وفي مصائبه حنينا وتوسلا بالارادة الالهية وانه في حالات ضعفه القصية لايرى الاّ الأمل بباقات الورد في هذه الحياة أو في الآخرة. لقد ذهب السياب الى ابعد من ذلك فجعل من الرزية ندى والندى على مابه من طراوة فهو رمز الحياة وبشارة للماء. بل هي اكثر من ذلك انها باقات ورد يضمها الشاعر الى صدره راضيا بما كتب الله له. ان الرمز الجميل المعبر عنه بكلمة ندى ليعني في نظر القارئ ان لاشئ في هذا العالم المنفوح بالعطايا، يموت او يندرس. انه قابل للعودة والتبرعم من جديد ولا ادل على ذلك من الابيات :
" لك الحمد ان الرزايا ندى وان الجراح هدايا الحبيب اضم الى الصدر باقاتها ".
واذ لابد من ( عود على بدء ) فان الحركة النزولية والانحطاطية كما عبر الاستاذ محمد تقي مصباح اليزدي لهي مقرونة بحركات موجودات اخرى تتجه نحو النمو والنضج. الندى اذن سبب النمو وباقة الورد النضج وكلاهما امتداد ضد السلب والذبول المرافق لطبيعة الحياة. ومن يدري فربما قصد السياب بالباقات مايأمله من ورد الجنان. وهذا يتساوق مع الرؤية الايمانية بأن الموت جسر لحياة اخرى. ان الايمان وسواه حالة خاصة بالمرء، لكن قصيدة الجدل الفكري وتعدد وجهات النظر سواء ادت الى هذا الهدف او دونه، تعطي للعقل الرياضي مرونة حوارية ومحاور خلافية تمنح المحاضرة ابعادا وصراعات وتتوالد عن التضاد والتغاير باعتباره ميكانيزم الحركة، والمتفلسف كائن حر في اختيار مساره الفلسفي، وهذا لايعني ان الشابي في جدليته قد جانف طقوسه لابل الايمان في عمقه وجذوره وان ديوانه يضيء بايمانية ساطعة، الاّ انه يجترح الجدل في قصيدة شكوى ضائعة اكثر مما تثيره قصيدة السياب – فسفر ايوب - حاسمة للجدل. ان قصيدة الشابي مثل معادلة رياضية متشعبة بينما قصيدة السياب منتهية بدايتها الشكر وخاتمتها التسليم. ولو وضعنا الايمان جانبا في حالة اطمئنان عليه ! لتيقنا ان الانتعاش يكمن فيما يقدح بالجدل، وان السكون في النص المنتهي جدلا أي غير القابل للمحاورة هو ما يغلق الابواب ! انه يشبه وجهات نظر متشابهة من قبل طرفين فلمن التقدم في النقاش؟!. المماحكة الفلسفية هي التي تقدح بالحضارة هي التي تلد بل هي الولود، بينما التي ترفض الرؤى والانفعال والتساؤل هي التي تقود الى النوم المبكر. سنجادل بين الشابي المؤمن والسياب المؤمن لكننا سوف نبقى مع الأول لكثرة اطلالاته ونوافذه على البناء والاندثار والوجود والعدم. وهكذا فان امة لاتتفلسف هي بناء ناجز غير قابل للّمْس والمَس واعادة البناء والتجديد. من يتفلسف اكثر يتضلع في العلم أكثر شريطة ان لايضيع ثوابته وجذوره وهويته.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |