دراسات نقدية

 

شهادة ابداعية

 

بمناسبة الأحتفاء بالشاعر (نوفل أبورغيف) من قبل أدباء وكتاب ومثقفي

محافظة واسط بعد صدور ديوانه الأخير(مطرٌ أيقضتهُ الحروب)

د. علي عبد الأمير

جريئٌ،قوي الارادة، عالي الهمةّ، مفعمٌ بالامل  ....وقبل هذا عاشقٌ لحزمتهِ المقدسة؟! ويعرف ماذا يريد،، هذا هو الشاعر المثقل بصوته....نوفل أبورغيف، الذي نحتفي به اليوم ،،نحن ادباء ومثقفي هذه المحافظة....ومثلما تحتضن الأم الرؤوم أبنها العائد من الحرب، نضمٌّ الى صدورنا صديقنا وأخانا وحبيبنا الشاعر المعروف السيد نوفل أبورغيف الذي عاش سنوات عنفوانه وعطائه وتشكله الثقافي والاعلامي في بغداد، وانعجن بطينها وأختلط بكبار مبدعيها

وشعرائها وكتابها ورموزها فنشرعشرات القصائد واللقاءات والآراء في الصحف والمجلات

العراقية وأختار طريق العناء والأنتظار بعيداً عن الأهل والأحبة من اجل هدف أسمى.

الا أنه لم ينسَ مدينته الأم ومنبته الأول (واسط)،فمرةً حين ألتقيناه في( أسبوع المدى) في اربيل ،انا والشاعرحميد حسن جعفر وآخرون ، عانقنا بحرارة وأستقبلنا بحميميته المعهودة

قائلا:  ((مرحبا برائحة الجذور ومساقط الضوء...دعونا نسجل هذه اللحظات صوراً))  ،،ولم

يكن نوفل أبورغيف ليعيش في الصور والذكريات التي جمعتنا عبر مناسبات ومواقف مختلفة،

فحسب بل عاش معنا قبل ذلك بزمن طويل ...فهو الذي حضر أول انتخابات لرفع اتحاد الادباء

وأشرف عليها ممثلاً عن المركز العام لأتحاد الادباء في العراق،بعد سقوط الصنم وسيعيش معنا أبدا في الزمن القادم وفي الاعوام التي ستعقبٌ ((وحشة الأحتلال)) كما يسميها عنوان لأحدى قصائد الديوان الاخير ((مطرأيقضته الحروب)) الذي صدر عن وزارة الثقافة /دار الشؤون الثقافية في بغداد ،مؤخراً .

وتعد مناسبة صدور هذا الديوان فرصةً ذهبيةً لكي نعبرّ عن تقديرنا العالي وأعجابنا المتزايد

بموهبته الشعرية وأجلالنا لمواقفه الوطنية وهو الذي لم يفكر يوماً أن يسخّر أشعاره لمدح الطاغية وتمجيد حروبه البربرية الرعناء، وبذل قصارى جهوده بالأمس القريب مع زملائه

المقربيّن ومنهم فائز الشرعّ وحسن عبد راضي في الحفاظ على مبنى أتحاد الادباء/المركز العام ، من السلب والنهب والتخريب أبان فوضى الحرب، ولكي نشد على يده لمواصلة مسيرته الادبية ونشاطه الانساني والوطني  شاعراً وأعلامياً وصاحب موقف في هذا الظرف

العسير من عمر وطننا الجريح.

ومن المناسب تذّكر مقولة الشاعر التشيكي (جيري وولكر):ـ

               ((عندما تقتل الاحلام الكبيرة تسيل دماءٌ غزيرة))،

ولقد حلمنا جميعاً بالعيش في وطن ينعم بالحرية والمحبة والسلام ،مستقرٍ آمنٍ وذي هي الحروب تتوالى وتستمر تباعا، ونوفل يفقد أباه صبياً في الخامسة عشرة ،يبتهل الى الله

أن يشد عوده ويثأر لوالده الذي أعدم رمياً بالرصاص بوصفه جنرالا عسكرياً اختار الانقلابات العسكرية للأطاحة ِبالظلمةِ والقتلة ، ولا يثأر الشاعر لوالده الشهيد عن طريق السلاح بحكم الواقع الذي يمثل سجناً كبيراً،وأنما من خلال الكلمةِ التي أختارها وسيلةً لذلك الثأر البطيئ

فيثأر باللغة ،بالمجاز،بالاسطورة،بالصورة الشعرية،بالأيحاء والتضمين والرمز....وعدا ذلك،،

أكاد اتخيل الآن أن زميلنا الشاعر في سنوات البدء بالرحلة ،هذا الفتى العراقي الأسمر،بهيّ الملامح، معذب السنوات، يكتم صراخاته ويكابر ويأبى أن يستسلم للكرب العظيم الذي هيمن

على جو الاسرة المنكوبة وبدءاً من تلك السنوات المنقوعة بدم الأبرياء الابطال وعلى رأسهم

والد الشاعر،،قرر نوفل أبورغيف أن يكون شاعراً وماوطناً في آن واحد ،لم يشأ أن تبقى

مشاعره رهينة فؤاده المعذّب وفمهِ المكابر، ولم يكن ـ نوفل ـ  من ذلك الطراز من البشر القادرين على أخفاء أحاسيسهم وتمويه أفراحهم ومشاعرهم وأحزانهم وتفاصيلهم الاخرى،

أنه من ذلك الطراز الذي تفضحه ملامحه ومشاعره الصارخة،فلا يقبل بالمراوغة والهرب

من الذات متنكراً لجيشانات روحة الضاجةّ بالوجد والعذاب والحرمان كابتاً آهاته ونشوته وأعتداده الكبير بذاتهِ وبالموقف  البطولي لكلّ الوطنيين الأحرار الذين ضحوا بأرواحهم في قافلة أبيه وفي غيرها من أجل كرامة وكبرياء الشعب والحرية الحمراء.

وعندما شرع ـ نوفل أبورغيف ـ يكتب أشعاره على الورق المدرسيّ المخطط ،شعر،،و،،،

يالسعادته، أن الكتابة أشراقةٌ ألهيةٌ تنير عتمة الروح التي ظلتّ نقيةً طاهرةً على الرغم من

العذاب والحرمان ،فكانت الكتابة بالنسبة له ومازالت عزاءه الوحيد في سنوات الوحل.

ثلاث موضوعات رئيسة هي التي يتحدث عنها نوفل في ديوانه، الا وهي : الاب،الشهيد،الحرب،الوطن..... ومع اننا لانستطيع أن نفصل هذه العناصر الثلاثة عن بعضها

الا انها شكلت الهواجس التي ظلت عالقة بروح وفكر الشاعر..ألم يسقط الاف الشهداء دفاعاً

عن الوطن، المبادئ،والمثل السامية وألقي ابناؤنا في حروب مجانية دفاعاً عن حماقات رجلٍ مجنون وظالم في آن ؟؟ أليس هذا الشيطان المجنون هو الذي حكم على بلادنا بالقسوة؟؟

والوحشية؟أليس هو،ومن غيره؟ الذي شوّه أعراسنا وأعيادنا؟ وأفسد أعمارنا الجميلة،خذلنا

وتركنا نتخبط في بحر الظلمات؟ ألم يكن هو وراءكل هذا العهد والخراب ،أنه قائد أوركسترا

الذبح المجاني والموت العشوائي؟ هل كان بمستطاع نوفل أبورغيف أن يتجاهل المآسي البشرية التي ألمّت بشعبه ؟وهل كان بمستطاعه أن ينسى اباه الذي دفع حياته ثمناً لمبادئه

وقيمه العليا..لك أن غياب الاب ترك جرحاً بليغاً في روح الشاعر الذي كان مازال صبياً حين أودع الزناة عياراتهم النارية الغادرة في أحشائه.

أنى لنوفل أبورغيف أن ينسى ها الاب الحنون، الشجاع،العنيد، وأنى له أن يتجاهل المحن والنوائب التي حفرت تجاعيدها وندوبها وقروحها في ملامحنا ،وحرمتنا من أحلى سنوات عمرنا...

هذه هي البانوراما التي ترسمها لنا القصائد التسع عشرة في ((مطرٌ أيقضتهٌ الحروب))

في قصيدة ((وأنت الدليل الوحيد)) يصف صديقن الشاعر نوفل أبورغيف وطنه الحبيب في ابيات موجزة مركزة معبرة::

 

      دماءٌ  وأقبيةٌ  وحديد 

                       وجرحٌ كريم ٌوموت عنيد

    وأرصٌ معبأةٌ بالعذابِ

                       وحزنٌ وأسئلةٌ وبريدٌ

    وشمسٌ تراءى على كتفيك

                        وفجرٌ لهٌ عيونٌ وعيدٌ 

 

 

ثم يناجي بلادنا التي بالرغم من الأهوال والنوائب التي لحقت بها مازالت عزيزة على قلب كل

شاعر،ومنهم نوفل ابورغيف ،وجديرة بالعشقوالتضحية، أذ يقول في الصفحة تسعون من القصيدة نفسها في الديوان:ـ

 

 

  بلى سوف تسألني ياعراق

                       لماا عشقتٌ وسوف أزيدٌ

فلا تتعبني بهذا الغرام

                      فحبكًّ صعبٌ وأفقي بعيدٌ  

 

 

وفي قصيدة ((قدرٌ أني أقتفيك)) يناجي الشاعر أباه الشهيد، ومن خلاله يناجي كل الوطنيين المخلصين لتربة بلادهم وسمائهم ومائها ونخيلها ومقدساتها... فيقول:ـ

 

 

 

     أصيح بهِ

     ياأبي

    كيف بي

   وكل الذين أبوح لهم يرحلون

    ومن حولي الأرذلون ......

   ذئابٌ موزعةٌ حول بيتي

  وأهلي ملائكةٌ نائمون.                                   ص99

 

 

ان أبورغيف يستشعر مرارة هجران أصحابه ورفاق دربه الذين عوّل عليهم الكثير،وأفضى لهم بأسراره ،وأئتمنهم ووجد فيهم أبناءً مخلصين ساروا في الطريق الصعب الذي سلكه والده

..لكنهم، تركوهو وحيداً، يتعذب، ويكابد المرارة والالم ...هو ذا يقول متحدثا عن اهله الذين

وصفهم بكونهم ملائكة نائمين، كنايةً عن الوداعة والرقة والانتظار والوحدة والتحدي.

 

  بعتٌ ليلي من أجلهم

  وبعت سمائي..

  قمحي

 ومائي

 ونصف الظنون

 ولم يبقٌ الا عيوني

 فكيف ابيع عيوني

 وانت العيون...

وكل الذين نبوح لهم يرحلون                   ص 100

 

ومع أن صوت الشاعر أبورغيف كان يمتلئ بالمرارات ..مرارة الرعب، ومرارة الجوع،

ومرارة اليتم المبّكر... الاأنه لم يجعل اليأس يهيمن على فؤاده وروحه...لان الشاعر الاصيل

يؤمن أيماناً راسخاً بالمستقبل الطامح بالأمل والحرية والسلام..... ان قصائد ابورغيف حافلة

بالاصرار والثبات على المبادئ والقيم النبيلة وحب الله والوطن والاهل والاصدقاء.....لنستمع

اليه في قصيدة ((بلاد باب الجواهري))      ص24

 

 

  أطفالنا الضيعّو آباءهم ،وقفوا

  على ضفاف بقاياهم وما أنكسروا

  كان العراق يصلّي كلما سألوا عنهم

  وكان يغنيّ كلما كبروا........

 

 

وفي ختام هذه القصيدة دعوة للتسامح ولمّ الشمل تحت جنح الوطن الجريح ، فما أجمل ان يضمكّ الوطن تحت قوادمه النازفة... ويقول نوفل:ـ

 

 

   ولتحتضنهم ،أبوهم أنت ،خيمتهم

   من آمنوا بك،من حادوا ،ومن كفروا

   وأغفر خطيئة هذا الطين يا وطني

   وانت أول يامولاي من غفروا

 

 

لم تكن الحرب بالنسبة لنوفل مجرد مأساة بربرية اخرى، جرنيكا اخرى، مسرحية دموية من مسرحيات الامعقول،عرسا وحشيا تعلقّ فيه الاوسمة الذهبية على صدور جنرالات الزناة...

ولم تكن مجرد مارشالات عسكرية ،اصوات شاكية،حشرجات موتى ،آهات أمهات وخطيبات وحبيبات وزوجات،أزيز رصاص، وهدير طائرات.... ألحرب في نظر نوفل ابورغيف مطرٌ، محلٌ ،سيقودنا حتماً الى السلام ،والمحبة ،و التأخي.. سيعقبها الخير والوئام، وانهمار المطر

فدخان الحروب البربرية لن يشوّه وجوهنا ووجوه احبتنا فحسب،ولن يلذوث بلادنا الجميلة وحدائقنا وبساتيننا ... بل سيتحوّل الى غمام، الى أمطار تروي اراضينا المتعطشة للماء..أراضينا التي داستها جنازير الدبابات، وعجلات المركبات العسكرية الذاهبة الى جبهات القتال، والاحذية المطاطية الثقيلة للمحتلين ... يقول نوفل:ـ

    

 

       فالحرب حبلى بأحزان مؤجلة

                               فأجمع صغارك واسمعهم ،ستنتصر

 

ومثل أي شاعرٍ حقيقي له مشروعه الخاص ،أبتعد نوفل أبورغيف عن المباشرة التقريرية في

قصائده ، فالشاعر كما تقول نازك الملائكة ،لايعظ بل يغني ،ولايدعوا الى شئ وأنما ينفعل ويحيا ويتدفق.. أن وسيلة الشاعر،كما تضيف نازك الملائكة، هي الصور الأخاذة، والرموز

الموحية ، واللغة الشفافة التي تكشف بالظلال والألوان أكثر مما تكشف بالكلمات.

ولنستمع ، في الختام ،،لهذه الشهادة لما يصف الشاعر به  نفسه :ـ

 

               أنا نخلة في طريق الجنوب

                                 أنا سعف ترتديه الحدود

               أنا ألق تشتهيه العيون

                                 انا قمر والليالي شهود

                                                                                       ص93

  

نعم........ صديقي ـ نوفل ـ أنت قمرٌ وأصدقاءك شهودٌ...............

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com