دراسات نقدية

 

أنسنة اللغة  قراءة في مجموعة (( ضيوف في ذاكرة الجفاف ))

للشاعر { نوفل أبو رغيف }

 

علي عزالدين الخطيب / الجامعة المستنصرية

 إن ما تعنيه هذه الدراسة بـ ( أنسة اللغة ) ليس المعنى الإنساني الذي تعبر عنه القصيدة، بل إذا جاز التعبير ـ شكلنة اللغة إنسانيا من خلال بناء علاقات جديدة بين المسند والمسند إليه تجعل الألفاظ تمارس السلوك الإنساني أو تتصف بصفات إنسانية وعليه يكون الانزياح الدلالي صورة مهمة من صور تشكيل اللغة في النص الشعري، ولعبة التحول التي تمارسها اللغة ليست مجرد عملية للأسلوب الشعري أو لعبة تستهوي الشاعر قدر ما هي رد فعل أو استجابة لحالات لا شعورية.

لقد شكلت هذه الظاهرة في شعر (نوفل أبو رغيف) ملمحاً أسلوبيا أفاد منه في مهمة التعبير عن تجاربه المتنوعة محاولاً من خلاله تطويع عالمه وإقامة تواصل معه. واتكاؤه على هذا الأسلوب يبدو واضحاً من خلال هيمنته على الأساليب اللغوية الأخرى في بناء الصورة الشعرية حيث استخدمه أكثر من 50% من تلك الأسالبيب، يقول في قصيدته (طفولة عراقية) التي تجسدت شعرية هذا النمط من الإداء اللغوي فيها من خلال تحويل ما هو مجرد (الألم) إلى صورة مرئية بعد أن استطاع أن يرصد حركته مستعيناً بالفعل المضارع ذي السلوك الإنساني الذي يحمل إضافة إلى دلالته السياقية بعداً نفسيا.

يكتظ الموت / على أبواب تفتحهم / يتقاسمهم / صوت النايات التعبى من وجع الليل / تعفر كف الآه براءتهم / يتعاظم هذا  الموت / وينسج وطناً في الاحشاء / يتفاقم هذا اليأس / ويغتصب الأشلاء / والآه / تفتش عن أمد أطول... فالألفاظ ( الموت / النايات / الليل / الآه / الوطن / اليأس / الأشلاء / الآه ) كلها أشياء وإن كانت ذات صلة بالإنسان إلا أنها ضمن البناء اللغوي للنص الشعري استطاعت أن تكتسب السلوك الإنساني عندما أسندت إليها أفعالاً وصفات إنسانية وهي بهذا التحول حققت حالتين، الأولى ( التعبير عن شدة الألم) (يكتظ الموت / تعفر كف الآه / ينسج وطناً في الأحشاء  / يغتصب الأشلاء ) والأخرى هي رصد حركة الألم ونموه وانتشاره في جسد (النص / الذات ) بعد أن أفاد الشاعر من توظيف أفعال ذات بناء صرفي حققت هذه الدلالة ( يتقاسم صوت النايات / يتعاظم هذا الموت / يتفاقم هذا اليأس ) ليظهر لنا في النهاية صوت ( الآه ) في مساحة بيضاء منفرداً كأنه الرمق الأخير. كما أن للموسيقى الداخلية التي شكلها التدويم على صيغتين من الأفعال بشكل متناوب (يكتظ – يتقاسم  /  يعفر – يتعاظم / نسيج – يتفاقم ) استطاعت بثقلها أن تتواءم مع الأجواء الكئيبة في النص.

 وفي قصيدة (هاجس قديم) تمارس اللغة الدور الإنساني نفسه بعد أن توظف بنية (الجسد) محولة ما هو نفسي لا مرئي (الهاجس) إلى صورة أخرى لها وجودها المادي المؤثر كاشفة من خلال ذلك عن شعور إنساني مأزوم.

 

عمر تقضّى بأنفاس تنازعـه                  واحتل صوتي فلا يرضى أقاطعه

شيء له نفس وجه الموت يصحبني                   وتختفي بين أعوامي دوافعـه

كأن كفيه سور بينه عنقـي                   و وزعت حول أنفاسي أصابعـه

مرت بأمنيتي الجدباء أرجلـه                  و ألقت الحزن أنهاراً منابعـه

  

فعملية التحول في سلوك اللغة من خلال توظيف (الجسد) حول (الهاجس) من حركة نفسية داخلية غير مرئية إلى حركة مرئية احتلت مساحة على مستوى النص، فالهاجس بدأ دون تحديد (شيء) ثم استطاعت لغة النص تحديد صورته ( شيء له         وجه / كف / دوافع / أصابع / أرجل ) ومن ثم تحقيق حضوره، وهذا الحضور المرئي للهاجس الذي صورته اللغة معادل لحضوره على مستوى الذات الإنسانية وهو ما يكشف عن شعور الذات المأزوم.

 

 وفي نص آخرعنوانه (على ساحل الغروب) في رثاء الطفل (صلاح) يقول :

((والصبر يسبح بالدموع / وصداك يسأل نفسه / من يوقد الضحكات في وجه الطفولة / وانطفت فيك الشموع...)) فالصبر والصدى والطفولة استطاعت في لغة ( أبو رغيف ) أن تمارس السلوك الإنساني وهي بحضورها المادي هذا استطاعت أن تكشف عن مشاعر إنسانية محترقة و معذبة كما استطاعت بعض الألفاظ في لغة أبي رغيف أن تمارس السلوك الإنساني من خلال إسنادها إلى صفات إنسانية تحمل بعض الجدة والطرافة مثل (الصبر الأرمل / الهم الأحدب / الصمت الأرمل ) محققاً بذلك طاقات تعبيرية تميّز لغته الشعرية فضلاً عن اشكال الانسنة الأخر التي تزخر بها هذه المجموعة.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com