دراسات نقدية

 

اشتعال الحرائق وتسرب الأقنعة في شعر البياتي

 

الدكتور صدام فهد الاسدي / البصرة

saddam_alasadi@yahoo.com

البياتي بدأ حياته شاعرا يشعل الحرائق في دروب الحكام وانتهى برموز علنية صارخة,وتتحول عنده كل قصيدة إلى عالم خاص معقد تتشابك فيه العلاقات الموضوعية والفنية,وكل ما قاله البياتي شعر لا يوجد كما عند غيره سقط متاع نهائيا طوال العقود التي عاشها فقد بدأت صرخته عام1967((في وطن المشانق السوداء

والليل والسجون والموت والضياع) وانتهى قبل رحيله بلافتات سياسية وقد اجزم بان البياتي ضحى بفنه الشعري الكبير من اجل هدفه السياسي الذي ضاع منه في عواصف الزمن,وثمة معادلة متكافئة تصنع المشهد الشعري ضمن بقعة توتر تقوم على ثنائياتمتقاطعة تتكىء على الجمل الاسمية لرسم تلك الايماءات المشتعلة نارا ويفصح عن اقنعةسوداء يرتديها الطرف المقابل الذي يمثل النقيض عند الشاعرحيث يقف امام قضية الانسان وهنا تتسلق مرافىء قصائده ثيمات متكررة لايحدد الشخوص من خلالها بصورة مفردة بل الجمع الشامل,انظر قوله((المجد للشعراء والكتاب احباب الحياة,الخائضين اليوم معركة المصير,والضاربين يد الطغاة))هنا تبرز سمتان في هذا النص الاولى الخوض بايماءة ذكية والثانية متحركةتفصح عن منطق شاعر مفكر واقعي تنحني الى شعره الذائقة الشعريةوهو يحمل معول الهدم امامالنكرات الحمقاء من الشردون الكشف عن القناع((قلت لكم لكنكم اشحتم الوجوه,,,عالمكم مزيف وحبكم مشبوه,سرقتم كنوزي المخبوءة,لكنكم لم تسمعوا بقية النبوءة))فلاخفاء يرتدي سرا لايكشفه الشاعر بل يحرض عليه,واذا دخلنا في عالمه المتضاد ملائكة وشياطين ضمن ثنائية متناقضة كلها تحمل هاجسا غريبا من خلال بنى متنوعة في الغاز يكتنفها الغموض ويصعب على غير المثقف ان يفهم تداعيات النص مثلا هذا القول((كطلاسم الكهان الواني,وعرائس الغابات الحاني))ماذا يفسر غير المختص كي يحل الطلسم –الكاهن رجل يستحضر الغيب الغمض وخلف الستار نقاء وطهر عند الراهبوهذه تلتقي من وراء الخفاء بالعروس البكر رمز الطهارة والغابة المليئة بالاشجاردون دناسة وتلوث وقد ترتفع الدلالة المكانية لتحيط اسوار هذا المشهد ودليلنا لم يقل مدينة وقرية فلماذا الالتجاء الى الغابة زد الى هذا رومانسيته التي تقتضي الانسراح تحت اجواء الطبيعة الجامدة بصمتها وصدقها غير مشاعر الانسان المظطرب وحتى تتسرب مفاتيح تلك الاقنعة فيقول((البستها من زهر اوديتي –ثوبا ومن اوراق بستاني,وغسلتها في النبع عارية ,وغسلتها في دمعي القاني)هكذا تتسرب الاقنعة وتشعل الحرائق امام القارى فنا شعريا فقد اجتمع الزهر والوادي والاوراق والبستان والنبع والعري حتى ياخذك بقناعه الى اوراق حواء يوم اكل التفاحة والنزول من الجنة الى الارض وهنا تتمثل الحرائق بصورة البكاءالتي هي ضريبة المعصيةوتشتد الصراحة كلما مشى خيطه الشعري على مسافة شعرية اطول((فاننا احرار,كالنار كالعصفور كالنهار,,فلم يعد يفصل فيما بيننا جدار))وما اقوى الايمائة التي يرسمها التناص في قوله((اجنحة الشاعر في بلادنا جليد,,,تذوب ان طارت الى البعيد)هذا صورة من التراث من الامس البعيد عن عباس بن فرناس بجناحه ومحاولة طيرانه فالايماءة تاخذ صورة الجناح عند فرناس والشاعر المعاصر المقيد الممنوع من الطيران حتى في فضاء الروح ولهما يذوب الشمع والنهاية السقوط ومثلما ذابت الاجنحة بالشمس ستذوب اجنحة الشاعرمن الجليد بالشمس نفسها,حتى تاخذنا الاقنعة الى شيء غير مالوفقوله((غرقت فالنبيذ في الاكواب يشربني,فالاهداب تاكل لحمي تاكل الاعصاب)9هذا المقلوب يوصلك الى تناقض بياتي مقصود حتى اصحابه واحبته في دوامة الغياب((بلا وجوه يحلمون,يتاجرون بما تبقى من سموم,كل الدروب هنا الى روما تؤدي,لايسلم الشرف الرفيع من الاذى ,حتى تراق على جوانبه الدماء)هنا صورتان تتحركان من الامس<<< القول الماثور(روما)وقول ابي تمام (لايسلم)وهنا انقل القارىء الى رؤى بياتيةواؤكد ذلك بقول توفاليس(الشاعر يرى ما لايرى)وهنا ننصف البياتي شاعرا مقتدرا حقا وهو رسام كبير((فالمح من خلفه الذكريات,,,تهيألي زهرات وكوب,والهة يرقصون,على رنة العود فوق اللهيب,وارواحهم من خلال اللظى,تقهقه نشوى بوجهي الكئيب))فهل نقرأشعرا ساكتا لا والف لا فالكلمات تتحرك والصور تلعب في اخفاءات الروح حتى وان زرعها ايماءات خائبةفي خيال ولكنه شعر اصيل ينطلق من موهبة ونبوءة ((وخواطري بله مغمضة,تطفو وترسب حولها الذكر

نكأتجراح الكأس فارتعشت ,اه يقض جناحا الضجر)ما قصة الاجنحة عند البياتي انها ايماءة متكررة لذلك الطير المسجون في قفص الحياة وهو مقصوص الجناح فلايطير داخل القفص بجناحه فما بلواه وماجرمه,انه يبحث عن الحلمفي زورق يمشي على الصخر((وزوارق بيض يحطمها ,في صخرة الاموات طوفان)وامامنا صورتان يلعب اللون دالته ثم الطوفان ودالة النبش ((تذكرني بسيول الجياع,وهم ينبشون التراب))

ومع هذه الايماءات هل وجدنا الشاعر سطحيا ابدا بل يقدم لوحات منظورة تتحول الى شعر فكروعمق شاعرية خصبة لايتعامل معها المرء الا بخيال ولايدخل عوامها الا باختراق عالم الروح.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com