دراسات نقدية

 

علي الشرقي الذي حرق بعواصفه تمثال مود

1890م-1964م

الدكتور صدام فهد الاسدي / البصرة

saddam_alasadi@yahoo.com

واحد من شعراء الناصرية، ولد عام 1890م في مدينة الشطرة، تلك المدينة التي أثرت العراق بالكثيرين من الأفذاذ والعلماء وفتح عينيه فلم يجد أباه وعاش في رعاية خاله عبدالحسين الجواهري، فكانت النجف محطته الثانية بعد الناصرية وفيها تلقّى علومه الدينية والأدبية . لقد شغل الشاعر وظائف منها عضو في محكمة التمييز ثم رئيسا لها، وعضو في مجلس الأعيان وكل هذا لم يؤخر في موهبته وقدرته وشاعريته التي كانت كلاسيكية طافحة بالغنائية المحببة، والباحثة عن الحرية، وهكذا كبر الشاعر صاحب الكتابات النثرية والمعارض المباشر لأشكال الحكم الفردي، والداعي لنهضة رائدة، الشاعر الذي بدأ حياته باحثاً عن الرموز وكان البلبل ذاته المطلقة التي تكررت ضمن رموزه ومواقفه، فقد جاء في (عواطفه وعواصفه) قوله:-

وما بلد ضمّني سجنه                         ولكنه قفص البلبل

وكانت دجلة رمزاً عند الشاعر :-

تجاذبت دجلة من حضن الشجر                 رواضع تروع عينا وأثر

وكانت بابل السحر أيضاً :-

بابل يا بلد السحر سلام                        يا سرير المجد والمجد غلام

وكانت النجف أيضاً (وادي السلام) :

عبرت على الوادي وسفت عجاجة             

                                                            فكم من بلاد في الغبار وكم ناد

لعلنا نجد وجدانه وتأملاته النفسية طافحة باللوعة ومن حق الشاعر أن يحمل ذاته وهمومه، وما يخلع على البلبل معادلة الموضوعي كي يخفف من تلك الصورة العاطفية المفطومة في داخله، خاصة وهو الشاب الذي فتح عينيه على الحياة ولم يجد أباه، ومن هنا بدأت الفجيعة تحرق أوصاله بالحرمان، وما كان خاله الشيخ عبدالحسين الجواهري إلا بديلا عن الأب الراحل، وداخل تلك البيئة النجفية وجد المنافسة الحادة مع عملاق الشعر العمود محمد مهدي الجواهري . عاش الشاعر الشرقي، فكانت صدمة ضارة نافعة في آن واحد، وقد مشى كل من الشاعرين على طريقه، وعندما تعلن الحرب الأولى 1914م كان الشرقي في مقدمة الرجال مع الشاعر الحبوبي في كتائب الجهاد الشعبي، وهكذا تأخذ الأحداث شاعرنا إلى فضاء أوسع، وكانت الدعوة السرية في مناطق الفرات الأوسط بوابة جعلت الشاعر يكتب حماسة وفخراً ودعوة للجهاد، ولكنها قد انتكست بظروفها، وهكذا وظّف الشرقي شعره يعبّر عن حالة القلق والفزع التي عاشها الوطن، ولم ييأس لخسارتها بل قال (إن الثورة مقدسة وأهدافها سامية وأنا من خدّامها والعاملين لها من يومي حتى الساعة) قائلا:

يا ثورة أعقبتها                   ندامة الثوار

كنا نحاول أمرا               يفوق كل اعتبار

أهدافه تتغنى                         بوحدة الأقطار

وكره الشرقي الحرب وما تخلّفه من آلام قائلا:

ويل العواصم أن بثت قنابله                    وكل قنبلة في كفِّ منتحرِ

سيرجع القوم بدواً في مفاوزهم             ويصبح العلم للتاريخ والسيرِ

وكان يسخر من ذلك الطيار الذي يبرز عضلاته وقوته مع المرضعة التي حضنت طفلها قائلاً :-

أشجاع قاصف مرضعة                   حضنت طفلاً عليه الثدي درّ

ويقف الشاعر حائراً في أمر العراق فالدستور لم يغيّر شيئاً من حالته :-

نطقت بحاجتها الشعوب وأفصحت          وأرى عراقي واجماً لا ينطق

وما كان بكاء الشعراء على الناصرية مجاملة وتملقاً، لأنها الأرض السخيّة المعطاء فكراً وشهداء، تلك المدينة السخية بكل شيء، تحمل مروءتها ونخوتها أوسمة على الصدور، والشعراء حينما يتذكرون الأمجاد فالناصرية في مقدمة الصفوف، أنظر قول الشاعر البصري الكبير سعدي يوسف :-

لن يذكروا يا طفل عبدالله أغنية سخية / كنا نغنيها معاً للناصرية / تعطش واشربك ماي ... للناصرية

ألا تستحق الناصرية أن يشار إليها بالبنان، أنها الأرض التي أعطت الشعراء أصحاب الموقف، ومنهم الشاعر علي الشرقي الذي حرّك في عواطفه الوجدان وحرق في عواطفه تمثال مود .

ولعلنا نجد وجدانه وتأملاته النفسية واضحة من حق الفتى بهذا العمر أن يحمل ذاته وهمومه وطموحاته، ولكن كيف أصبحت رمزيته بؤرة وقدحة شملت قصائده اللاحقة قائلا :-

ختمت صحائفه وجئنا بعدها            حتى كأنّا فيه فصل ملحق

ماذا تغيّر والبلاد بأهلها                بغداد بغداد وجلق جلق

وكم منى ستانلي مود بمنشوره الأسود – العراقيين بالآمال وإقامة حكم وطني، وقد كانت الهيضة الخلاص من ظلمه والمنقذ للعراقيين من شرّه فدفن في بغداد، وأقاموا له تمثالا أمام السفارة البريطانية في الكرخ، وهنا كان الشرقي ساخرا من التمثال وبريطانيا قائلا :-

قد خذلت بغداد منصورها              وأنهضوا فيها لمود تمثال

في كل يوم بهرجت دورها         لأمة من أمم الاحــــــــــــــتلال

وهجم الشرقي على هتلر في قصيدته (مداعبة هر) التي سخر فيها من هتلر الفاشية الراغبة في غزو العالم وقهر الإنسان قائلا :-

"هتلر والآن يطيب المزاح                  أشاكر رأسك هذا النطاح"

كل هذه الأحداث تركت أثرها في نفس الشاعر، فكانت قصيدة (شمعة العرس) أغنيته القدرية التي حولها إلى رموز ودلالات :-

شمعة العرس ما أجدتِ التأسّي

                                             أنتِ مشبوبة ويطفأ عرسي

كان حدسي نذكو الأماني شموعاً

                                         والليالي خيّبنَ ظنّي وحدسي

بتلك النبرة المأساوية نظر الشاعر إلى عرسه المطفئ، وشمعته الموقدة لا تضيء، فرجع إلى قفصه وبلبله السجين مكررا تلك المسرات ...

أيها البلبل المعلق في السجن

                                      سلام معاك الحديث وهات

وكثرت تساؤلات الأمة موجهاً إياها إلى البلبل :

أيها البلبل المعلق في السجن

                                                  هل في الحياة سلام

حتى كان السجن أن يكون للآخرين مقله في روض واسع

قفص في جريدة النخل خير   

                                       من رياض عن طيرها لن تذودا

وبهذه المقارنة يتضح همّ الشاعر جليّاً، وظل باحثا عن المثل في عالم ضبابي معتم :

غموض سرّه استعصى                      ولا شبهه إيضاح

وتاهت الرباعيات وتوترت ولم تضع شيئاً للشاعر، سوى ذلك الرمز الذي حباه لنفسه به مكرراً ملحاً على بلبله (ذاته) هكذا انتهت رموزه الرومانسية التي تأثر بها من قراءاته الأدب الفارسي، ولكن أين الطبيعة التي فتح عليها عينه طفلا في الغراف وهو يرى الفلاح الذي يعاني مرارة العيش ...

ما حياة الفلاح في كنف               الغراف إلا موت طويل النزاع

ويرى أن أسباب راحة المنعمين قد أتت من عناء هذا الفلاح البائس وتضحيته الدائمة في العطاء قائلاً :-

من كسرة الفلاح أقداح الطلا

                                 ومن عصا الراعي الثمار والبطر

لقد احتلت الغراف في الناصرية مساحة كبيرة في قصائد الشرقي وهو يستذكر طفولته فيها :-

أنفت على الغراف فهي مدلة

                                           لكنها ببساطة الأحقاف

الفارهات بساطة وجلالة

                                       هذي القصور وغيرهن أثاف

لقد صدق الشرقي عندما وصف تربة الناصرية التي تنبت النبوغ ونهر الغراف الذي دفع من سواقيه المجد ...

تربة تنبت النبوغ ونهر    

                                       رفع المجد في سواقيه تجري

وبعد ألا تستحق الناصرية أن يشار إليها في البنان، إنها الأرض صاحبة الموقف التي يستذكرها الشعراء عندما تضغط عليهم الأحزان، فما كان بكاء الشعراء عليها مجاملة وتملّقاً، إنها الأرض السخية المعطاء التي كانت قيثارة الماضي والحاضر تلك المدينة التي تحمل مروءتها ونخوتها أوسمة على الصدر.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com