دراسات نقدية

 

لغة الشعر وتشظياتها في وصف البصرة

 

الدكتور صدام فهد الاسدي / البصرة

saddam_alasadi@yahoo.com

تعرف لغة الشعر بأنها "لغة فنية ينبغي لها أن تصل الى معان خاصة بشيء من الرمز أما الإيماءة أو الإشارة أو اللمحة"(1). وهي مرحلة من مراحل الخلق

الشعري وأساسه ودعامته الكبرى التي يستخدمها الشاعر ليصل الى إبداعه المطلوب، ومن خلالها يوضح تجربته وينقل صدق مشاعره ويؤثر في قارئه، ولابد للشاعر ان يسلك طريقاً ولا يبلغ ذلك إلا "بلغة خاصة بالبحث والتأني والاختيار، وهي بالنسبة له الهدف والوسيلة"(2).

 وفي الخطاب الشعري تتبوأ اللغة مكانة مهمة ما دام الشعر " تنظيماً جمالياً واعياً للغة"(3)، ولا نريد ان ننظر تنظيراً نقدياً للغة، وقد سبقنا الكثير من الدراسات التي افاضت فيها، وخاصة ان الدراسات الأدبية لابد ان تدرس الخصائص عند تحليل النصوص الأدبية، ولذا رأينا من الأفضل ان نكتفي بهذه المقدمة، وأن نصب جهدنا بالبحث عن المعجم الشعري، وتلك الألفاظ التي استخدمت في القصيدة الخاصة بالبصرة، وهل كانت تلك الألفاظ تقليدية متوارثة قدمت معاني محددة، وما لذي قدمته تلك الألفاظ من إيحاء شعري؟ باحثين عن الملامح المميزة لذلك التعبير اللغوي، ونحن لا نتوقع ان معجماً شعرياً موحداً سنخرج به عند جميع الشعراء حتى إذا استخدموا مفردات ورموزاً خاصة بالبصرة وتكررت تلك الرموز في قصائدهم، فقد تختلف المفردة ضمن السياق الذي تكون فيه عن سياق آخر، وستكون دراستنا للمعجم الفني بأنه "ذلك التميز لنص إبداعي عن غيره من النصوص بمجموعة خصائص فنية ينفرد بها، أو يجب ان ينفرد بها كل مبدع"(4).

والمعجم الذي نود الكشف عنه نجده في قصائد مجموعة من الشعراء جمعهم عصر واحد، وموضوع واحد، وهو الكتابة عن البصرة، حتى أصبحت عندهم نغمة شعرية، ونستطيع ان نقسم هذا المعجم الى ما يأتي:

1- معجم الطبيعة، 2- معجم الفخر والاعتزاز بالبصرة، 3- معجم الديانات ورجال الدين، 4-معجم الحب والجمال، ويعد معجم الطبيعة من اكبر المعاجم التي جاءت فيها القصائد الخاصة بالبصرة، وقد احتفى الشعراء بمظاهر الطبيعة كالنخلة التي احتلت مساحة واسعة في لغة الشاعر، وقد جاءت اسماً مفرداً في قول الشاعر هادي عودة شاوردي "قلت سآوي الى نخلة"(5) وكذلك في قصيدة محمد راضي جعفر "ربما يا نخلة المرسى"(6) وجاءت جمعاً في قول إبراهيم الوائلي " كانت بحيث النخل يمسح ظله"(1) وفي قول عاتكة الخزرجي "يا بهجة النخلات الحسان"(2) وفي قول نازك الملائكة "ثم استطعت بين نخل البصرة"(3) وقد جاءت النخلة مضافة وخاصة في حالة الجمع كقول مصطفى جمال الدين "وظلال النخيل"(4)، وقول انور خليل "وعزت اسأل غابات النخيل"(5)، وقد أضيفت الى اسم العراق وفي قول سعدي يوسف "يا نخل العراق"(6) وفي وقل خالد علي مصطفى عرفت البصرة بالنخل "انها البصرة النخل"(7)، وفي الغالب وجدنا النخلة قد تكررت في القصائد لتعبر عن معناها باعتبار ذلك الاقتران بالمدينة، وان تكرار اللفظة قد فرضته بيئة المدينة التي اشتهرت بالنخل ومن هنا فان استخدام كلمات عامية تتصل بالنخلة كالسايرات والبريمات في قول عبد العزيز عسير(8) كان استخداماً واقعياً نقله الشاعر من معجمه البيئي دون ان يجري تغييراً فيه، ومن تلك المفردات التي تمثلت بالطبيعة شط العرب، فالشاعر الجواهري خص الشط قائلاً:

 يــا شـط أنـت اعـزّ منقلبـاً *** فــي الناطقيــن بمـا تخلـده(9)

والسياب خاطب الشط في قصيدته التقليدية قائلاً:

 الشط رواحه الأصيل *** فمضى على رود يسيل(10)

وقد جاءت تلك المفردة في قصائد الشعراء بأسلوب خطابي تقريري مباشر، كقول الشاعر ابراهيم الوائلي:

 يا شـط ما نسي الملاعب شاعر غنـىّ علـى افيائـك الخضلات(11)

وفي قول لميعة عباس عمارة..

 سليِـه الشــط كـم ذكـر *** سكبــت عليــه كـم حسـرة(12)

وقول انور خليل مخاطباً البصرة..

(يا جارة الشط)(1) ويتجسد الشط عند الشاعر عبد المنعم الجادر رمزاً للسعة والامتداد والرزق.

حدثتني موجة بيضاء ترنو

فوق صدر الشط قصة(2)

وقد جاءت مفردة الشط جمعاً في قول راضي السيفي..

وشواطيك اغنياتي، وشواطيك يا حبيبة(3)

ويرتبط بالمعجم الشعري هذا الزورق وقد تختلف تسمياته عند الشعراء، فمرة البلم وأخرى المشحوف والسفينة، وقد جاء مفرداً في قول السياب ،زورق الحب، زورق زفة(4)، وفي قول زكي الجابر أستخدم استخداماً مجازياً "في زورق من نعاس"(5).

وقد جاء الزورق جمعاً في قول مسلم الجابري.. "يازوارقي الوسنى"(6) وارتبطت بالزورق توابع لا تغيب عن معجم الشعراء كالمجذاف والشراع كما نرى ذلك في قول محمد علي الخفاجي

بان منك الشراع منهدل الجنح

سفيناً مروعاً في اضطرابه"(7)

 وفي قول رشدي العامل.. "ان شراعاً مرّ بالبصرة"(8)، واستخدم ابراهيم الوائلي لفظة المجذاف "والليل والمجذاف ينقر خلسة"(9).

أما المراكب فهي بصيغة الجمع جاءت في قول مسلم الجابري "في المساء تجئ المراكب مغسولة بمياه الخليج"(10).

والنورس من بين مفردات المعجم الشعري وقد أستخدمها السياب (غاقة) مأخوذة من الصوت (غاق) في قوله: "غريق في عباب الموج تنحب عنده الغاقة"(11).

وفي قول سعدي يوسف جاءت النورس.. "ويأكل النورس والبط الشريدان اغانيها"(12).

وتبدو لفظة النورس من الالفاظ التي أغرم بها الشعراء لوقعها الموسيقى الحاد في جاذبيته اللفظية الخاصة، أضف الى ما يضيفه من دلالات ومعان، فقد جمعها مسلم الجابري "أيها النوارس والوحشة القاتمة"(1) وفي قول عبد الحسن الشذر.."رأيت طيور النورس"(2)، وقد وصف الشاعر خالد علي مصطفى حركتها قائلاً: "وتطير النوارس نورسة أثر نورسة"(3)

ومن مفردات المعجم الشناشيل تلك العلامة المميزة للبصرة فهي دالة على المدينة، ولعل أثرها كان واضحاً في السياب عندما سمى أحد دواوينه بها، وقد أشار الشاعر مجيد الموسوي الى لونها وشبابيكها المميزة..

الشناشيل وهي تنتصب وتكسي بلونها الابنوسي

وزجـاج شبابيكهـا ذي الالـوان السبعـة(4)

وجاءت في قول غزاي درع الطائي

 ستبقـى الشبابيـك محروقـة مثلنـا *** وتبقـى الشناشيـل مسكونـة بالضنـون(5)

وفي قول حسين جليل وهو يرثي السياب..

وعلى شناشيل ابنة الجلبي قد القت رداها(6)

ويراها الشاعر عبد المنعم الجادر موّالا خاصاً عند البصريين..

والشناشيل تغني معه(7)

 ومن مفردات الاماكن جيكور التي افتتن بها الشعراء كما افتتن بها السياب، وقد رآها الشعراء ذات دلالة تعني الخصب والعطاء، وهي الارض التي ربت ورعت شاعراً عملاقاً هو السياب، ومن هنا جاءت اشاراتهم واحدة لا تعني غير جيكور فالشاعر محمد علي الخفاجي قال..

نخل جيكور غاب بدرك بدرا(8)

وفي قول زهور دكسن وهي تشير الى ذكرياتها وحنينها الى جيكور

يا رقية كف جيكور كف طفولية سندسية(9)

وفي قول عبد الامير الموسوي وهو يرثي السياب..

مشت جيكور في الصحراء بالنخل الذي فيها(1)

وفي اغلب القصائد التي جمعناها عن البصرة بما يقارب مئة وثلاثين قصيدة كان لجيكور حضور فيها كلما ذكر السياب(2).

ومن المفردات التي تلازمت مع ذكر البصرة المربد، التي نجدها مسمى لكثير من القصائد التي قيلت في البصرة(3)، كما انها احتلت القافية في قصائد الجواهري وصالح مهدي عماش وكان الشاعر قصد ان يأتي باللفظة (المربد) نظير قول الجواهري:

بالكرخ بغداد تتيه وكوفة *** بالمسجدين وبصرة بالمربد(4)

وقول صالح مهدي عماش..

تعاليت من شامخ في السماء *** ايا سالف المجد في المربد(5)

لذا جاء المربد خصباً مباركاً مهجوراً نابعا في قصائد الكثير من الشعراء الذين اعتزوا بالبصرة ومدى هذا الاعتزاز قدم في مناسبة هي المربد(6).

ومن معجم الفخر والاعتزاز والمجد وردت مفردات كثيرة أكدت على المعاني ونحن ندرس اللغة، وكانت تلك المفردات طافحة بمعاني الاعتزاز بالبصرة والإشادة بما فيها من خلال المواقف الكثيرة التي عرفت بها، مع الافتخار بالشخصيات البصرية(7) ومعاركها(8)، حتى اطلق عليها الشعراء تسميات كثيرة(9). ومن معجم الديانات ورجال الدين استلهم الشعراء مفردات ترتبط بذلك الرفد الديني الاسلامي الذي قدمته البصرة طوال تلك الحقب فترد مفردات مساجد، شيخ الإسلام، وغيرها(10). ومن معجم الحب والجمال جاءت الكثير من المفردات ومنها الحب، الهوى، الصبا، الشوق، اللاعج، المحبوبة، وترد تلك المفردات إعجاباً بالبيئة البصرية واهلها(11).

مصادر المعجم الشعري

وبعد هذه الخلاصة التي تعرفنا بها على أهم مفردات معجمهم الشعري، لابد ان نتعرف على مصادر ذلك المعجم، ومن بين تلك المصادر ما يمكن ان نسميه المادة الادبية التاريخية التي "تمثلت في الشعر اساساً ثم في سائر صنوف فن القول العربي الاسلامي من قرآن وحديث وخطب واقوال مأثورة واشارات تاريخية"(1)، لذا وجدنا عدداً غير قليل من الالفاظ والاشارات القرآنية قد ترددت في أثناء هذا الشعر الخاص بالبصرة مثل القارعة التي وردت في قول الشاعر علي الياسري.

فد أتاك حديث اشتعال الذرى القارعةْ

 فاشهـدن واشهدن انها القارعة (2)

والمفردة هذه تحيلنا الى قوله تعالى "القارعة، ما القارعة"(3) ومثلها لفظة سدرة المنتهى في قول مصطفى جمال الدين وهو يصف المربد في البصرة شجرة كسدرة المنتهى..

سدرة المنتهى بغير جذور حطبٌ ما لفيحه أفياء(4)

ونجد هذه اللفظة في قوله تعالى "عند سدرة المنتهى"(5)ومثلها لفظة (ماء فرات) التي أستخدمها الشاعر عبد الكريم راضي جعفر وهو فرح بقرار تأميم النفط عام 1972..

تفتح الشوق في أول الخطو

يحيى انتظارا جريحاً وحُباً يضوع انتصاراً

وماءً فراتا(6)

ونجد هذه اللفظة في قوله تعالى"وسقيناكم ماءً فراتا" وقد أجرى الشعراء على الصيغ القرآنية تغييراً داخل قصائدهم(7) وبشيء من التحوير بيد أن صلتها بأصلها القرآني ظلت باقية(8) كقول حميد سعيد في وصف البصرة

أقف الساعة بين الشام وبين البصرة

رشت مدن الثورة ماء الحب على عربات الاطفال

سيأمن من خاف ويشبع من جاع(1)

ونجد هذه الصيغة في قوله تعالى "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"(2). وأقتبس الشعراء من القرآن اقتباسات حرفية أو شبه حرفية تقوم جملاً أو أنصاف جمل ترد عن قصة تطرق لها القرآن ومن نظير هذا قول عامر السعد في البصرة..

شفتاه تسمعني الحقيقة والصواب

يعقوب يوسف لن يموت ولن تمزقه الذئاب(3)

وكما نرى أن الشاعر يأخذ من سورة يوسف براءة الذئب وأتهام الاخوة برميه في الجب(4) وفي قصيدة هادي عودة شاوردي أشارة الى قصة نوح وأبنه حين حصل الطوفان فآوى الابن الى الجبل كي يعصمه ولكنه غرق..

قلت سآوي الى نخلة من نخيل الفرات(5)

ونجد الفكرة نفسها في قول عبد الحسن الشذر..

يا محبوبي لا عاصم في هذا الليل

للصاحب من لوح الجلد

لا عاصم في هذا الوبل

للعاشق من طوفان الوجد(6)

وإذ نرى هاتين الفكرتين في سورة هود في قوله تعالى"قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله"(7).

ومن قصة مريم العذراء وأبنها المسيح ترد عند الشعراء أقتباسات تزيد قصائدهم قوة ورصانة، فالشاعر هادي عودة قال:

هل تريدين شيئاً

تعالي نهزّ وكنت اهزّ بجذع فيتساقط الرطب الغضّ(8)

ونجد هذا الاقتباس في قوله تعالى"وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا"(1)، وأقتبس الشاعر علي الياسري صيغة قرآنية حين قال..

هل يستوي الذي يريد والذي يرفض ان يريد

هل يستوي مقاتل الهجير والقعيد(2)

واذ نعود للبحث عن الصيغة نجدها في قوله تعالى "فضل الله المجاهدين باموالهم وانفسهم على القاعدين درجة"(3)، وعدا ذلك ترد اشارات متفرقة الى كلمات في القرآن تلون ابيات قصائدهم هنا وهناك، ومن هذه المفردات (حور، فاكهة، سندس، دخان، خزي، عار، طغى)(4).

والى جانب القرآن تقف الالفاظ القديمة من الموروث العربي فالشاعر محمد راضي جعفر يستخدم كلمة النديم في قوله: صمتٌ وتندلق الكؤوس تراق في نخب النديم وصحة الاحباب(5)، ويستخدم الشاعر حافظ جميل كلمة وريف، أوبة وهما من الموروث القديم عند وصفه للبصرة..

أن كان ماء العين سحَ لبعضهم *** فلطول عمر الآخرين دعائي

ولا هبطن بأيكـها متـضلـلاً *** بو ريف ما فيه مـن الافياء

فخر البـلاد أرومة وحـضارة *** أم النـوابع دارة الـعلماء

فارقت أحبـابي بها وتـعللت *** نفس بـعاجل أوبة ولقاء(6)

وأستخدم الشاعر محمد راضي جعفر كلمة قوافل وهي من استخدامات الماضي ونحن اليوم في تطور صناعي وتقدم علمي لا تستخدم مثل هذه المفردة.

للبصرة انعتقت قوافلنا ضحىً *** أفلا آلمّ ركابكم بركابي (7)

وبالرغم من بعدنا عن قدود الغيد غيران الشاعر أنور خليل يلجأ الى هذا في وصف البصرة..

فكم هصرنا قدود الغيد مائسة *** وكم قطفنا بها ورداً ورمانا(8)

وعندما أراد سعدي يوسف أن يستعيد الذكرى الشعورية بالماضي والتراث الاصيل ذكر الرمح وهو من وسائل القتال القديمة.

أقيموا وكونوا الماء يمنع نفسه *** وكونوا رماح الماء أن أورق الرمح(1)

وكذلك استخدم الشاعر عبد الكريم راضي جعفر السيوف في قوله:

كنت تقولين سيفاً انت(2)

واستخدم ذو النون الاطرقجي السياط وهي من وسائل الماضي..

وطـرت فـوق غيمتي البلهاء

وعـدت للبصرة احصد السباخ

وتحرث السياط ظهري وسقطت(3)

وترد مثل هذه الألفاظ كثيراً كالسرادق والصارم والرمضاء، في قول الحصيري وهو يوحي بقدرتها المتميزة في إثارة القارئ وتذكيره بأهميتها وان الفراغ منها قد سبب تلك المعاناة

والضياع(4)، ونحن نعلم ان بعض المفردات لم تعد في متناول الانسان العربي المعاصر فقد فارقها الشاعر وفارق غيرها من الالفاظ مثل القفار في قول راضي السيفي..

غارقاً في بحار عبقر ما شاء *** يروي بالسحر عطشى القفار(5)

وترد الاثافي في قول ابراهيم الوائلي..

والموقد الخاوي وقدر تمتمت *** فوق الاثافي السود والجمرات(6)

ومثلها الحداة، الفلاة، المشكاة، وترد الهجيرة في قول كاظم نعمة التميمي

صافحت في الهجيرة صرحاً من العصر(7)

ولفظة البيد تترك ذكرى شعورية عند مصطفى جمال الدين وهو يخاطب ضيوف البصرة..

وسنبقى سمار نجمك يا بيد *** وتبـقى لغولهـا الظلماء(8)

وعندما نقرأ تلك الالفاظ نتلمس ذلك التفكير الذي يتأثر به الشاعر حتى تبدو علاقته بالصحراء اوثق من علاقته بالمدن(9)، لذا اكثر الشعراء من استخدم مفردات الصحراء وجاءت المدينة ومفرداتها اقل مما نتوقعه علماً بأنه يعيش المعاصرة والتمدن ومن آثاره الذكريات الشعورية تضمين الشاعر قصيدته ابياتا ومقاطع من شعر القدماء راغباً في القاء صفة الشمول والعموم على تجاربه(1)، ففي قصيدة الشاعر محمد راضي جعفر التي القاها في مهرجان المربد قائلاً..

او لم يغض الطرف لم يبلغ ذرى *** كعب ولم يمس سنام كلاب(2)

ونجد في قول مصطفى جمال الدين هذا التضمين من الموروث العربي..

لسن مما غضت نمير ولكن *** غضّ من طرفها الصبا والحياء(3)

وفي قول جرير نجد هذين المضمونين للشاعرين المذكورين...

فغض الطرف انك من نمير *** فلا كعباً بلغت ولا كلابا(4)

ومن اللغة الموروثة يفيد الشاعر من الحكم المأثورة ويضمن بعض أبيات الشعراء القدامى في قصائده كقول محمد علي الخفاجي الذي ضمن قول المعري المشهور(5) حين قال..

خفف الوطء ما اظن أديم *** الأرض الا لن أقول بما به(6)

 ويضمن الشاعر محمد علي اليعقوبي نصف بيت من الموروث المسموع في القول المشهور(7) حين قال..

كرموا وما شحوا علي يوصلهم *** وهم وان شحوا علي كرام(8)

ومن المؤثرات التي ساهمت في صنع لغة الشاعر اللغة المحكية التي نهل الشاعر منها باعتبارها مفردات تنبثق عن شؤون الحياة العادية، وتسربت تلك الأبنية الى القصيدة اللغوية، وربما انحدرت هذه المفردات من اصل لغوي فصيح ولكن بتطور الحياة وتعاقب الأجيال أصبحت جزءً من اللغة العامية، وقد لا تأتي تلك المفردات جهلاً من الشاعر في فصاحتها او شعبيتها ولكنه يراها قريبة التوصيل لمعانيه وأفكاره التي يريد توصيلها، ولن تشكل المفردة الشعبية خللاً كبيراً في لغة القصيدة(9). "ومن النادر ان تخلو لغة شاعر من شعراء العراق المعاصرين من بعض الألفاظ العامية او العبارات النثرية، او التراكيب اليومية"(1). والسياب حين ينتظر حبيبته في العشار وقرب المقهى قال:

طال انتظاري وهي لا تأتي

وتحترق الزوارق والتخوت(2)

وكما اشرنا في مفردات المعجم الى استخدام الغاقة وأراد بها طير النورس، وقد وردت في القصائد التي قيلت في البصرة مفردات تنطوي على الألفة وتتقبلها الأسماع مثل.. (خراب، دوماً) عند الشاعر عبد الواحد باش اعيان(3)، وجاء في قصيدة رشدي العامل (شباك، سمرة)(4)، وفي قصيدة رشيد مجيد (بكرة، العشرة)(5).

وفي قصيدة زكي الجابر (تعبانة)(6) وقصيدة عامر السعد (حتماً)(7)، وكلما ردد الناس مفردة شاعت على السنتهم كانت عند الشاعر سهلة وقريبة من نفسه، فالشاعر عبد الرزاق حسين يستخدم كلمة الشص..

القي الى الامواه خيط الشص(8)

 

ويبدو لنا ان الشعراء قد رضوا بان تلون ابياتهم بمثل تلك المفردات حتى لو كانت ركيكة، وقد تأخذهم المناسبة لحشد الابيات بمفردة لا ينتبه لها عند الكتابة حتى وصلت بهم الامور للوقوع في الخطأ النحوي نتيجة هذه النثرية، مما تزداد الشوائب والزوائد كقول غزاي درع الطائي وهو يخاطب البصرة..

قالت لي في الليل الماطر لا تنساني(9)

 وكما نرى الاداة ناهية سبقت الفعل المضارع المجزوم بها والصحيح ان يقول لا تنسني، ويجاري الشاعر بها اللهجة المحكية طبقاً للايقاع، واستخدم الشاعر عامر السعد ام المعادلة مع هل وهي من خصائص الهمزة قوله..

هل يرتجي المسلول نزراً من شفاء ام تشبع الآمال مفتقر الغذاء(10)

ويستخدم ايوب عباس جمع التكسير وينعته بالمذكر في قصيدته شط العرب..عجباً أبيع الشط والتسليم للفرس الجديد(1)

 وترد الكلمات العامية عند عبد العزيز عسير مثل (البال، طريد النخل، كلبة الفحل، سوباط، يطوّب)(2)، وهنا نتوقف عند قول الشاعر عبد العزيز عسير لنرى حجته باستخدام تلك المفردات

"أنا أفعل ذلك في كل النصوص التي اكتبها، مؤمناً بالابتعاد عن القاموس الشعري المتداول والألفاظ التي استهلكت لكثرة تكرارها في الشعر، بينما الألفاظ التي وردت في قصيدتي قريبة من لغة الكلام اليومية وتحمل طاقة شعرية فضلاً عن إيحاءاتها ودلالتها ودورها في ابراز وحدة النص العضوية"(3) ومن مصادر المعجم الاغاني والاهازيج الشعبية فان لغة الفولكلور "ذلك الفن القولي المؤلف باللهجة العامية الشعبية الدارجة"(4) فالاغنية التي يردها اطفال البصرة في مواسم الاعياد والسفرات المدرسية وخاصة عند سقوط المطر، كاد الشاعر ان يقترب منها ويثبتها في ثنايا قصائده، والسياب اول من وجد فيها صفاء نفسيا وعمقا في المغزى وبساطة في التعبير، اذ كانت تنبع من مشاعر صادقة، فالشاعر يلتقط الاهزوجة او الاغنية من الناس، وان القصيدة هي رسالته الى الناس، فيحاول ان يبثّ همومهم ويشعرهم بالاشارة التي يفهمونها من خلال بث هذا الفولكلور داخل جسد القصيدة، فالشاعر المعاصر قد يجري وراء كل ما من شأنه ان يثري معانيه وعن ايحاء الكلمة لتوصيلها بسرعة الى الناس(5) وما زالت الاغنية التي وظفها السياب في شناشيل ابنة الجلبي تتردد في اصداء الشعراء، بل قلدها الكثير من الشعراء وساروا على نمطها اذ قال:

يا مطر ياحلبي عبر بنات الجلبي

يا مطر يا شاشا عبر بنات الباشا(6)

وجاءت الأغنية في شعر سعدي يوسف بموضوع يختلف عن مضمون السياب الذي تفاءل بالمطر كاداة للخير والثورة، فان سعديا يفرح بالتأميم وهو يحمل اهزوجة الفرح من كركوك الى البصرة سعيدا بالخير القادم الى العراق، اذ يصف عروس التأميم التي زفتها الرجال الى البصرة...

ركضنا اليوم للحلوه *** ومن كركوك جبناها

من كركوك للبصرة *** جينا اليوم للحلوه(7)

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com