دراسات نقدية

 

سياقات مجيء البصرة في الشعر (1)

 

الدكتور صدام فهد الاسدي / البصرة

saddam_alasadi@yahoo.com

مدار هذا الفصل يجيب على السؤال الآتي:

كيف جاءت البصرة في الشعر؟ وقد ظهرت الإجابة واضحة من خلال السياق، فمرة جاءت مستقلة في قصيدة شاملة بوحدتها الموضوعية التي تختص بالبصرة فقط ومرة تأتي في ثنايا قصيدة تذكر تجربة حب أو ذكريات أو صداقة او زيارة مؤقتة للبصرة، لذا تنوعت الموضوعات وكانت بسياق وصفي أفاض به الشعراء في مدحها والاشادة بصورتها الجميلة التي بهرت خيالهم، وكانت مفاتنها وجنانها وقصورها وانهارها وميناؤها دوافع لهذا الانبهار فكم أطالوا الوقوف امام تلك الاماكن فأستلهموها وحولّوها إلى كلمات تنبض بالوجدان، فرأوا البصرة جنة الارض ودار النعيم، و قد تأتي بسياق صوّر فيه الشعراء السياسة والاحداث المهمة خلال ثلاثة عقود مرت،  ومن هذه الاحداث اضراب عمال البصرة والمظاهرات قبل ثورة 1968م وتأميم النفط عام 1972م وقد تأتي بسياق اجتماعي يعبر فيه الشعراء عن مدى ارتباطهم الحقيقي بالبصرة فقد ملكت قلوبهم بأنسها وطيبة اهلها، فلم يكد يمر بها أحد فيتركها لان الشوق قد غزا قلبه وما لديه من وسيلة الا الشعر ليعبر عن ذلك الوفاء والحب للبصرة، وقد تأتي ضمن سياق حضاري وثقافي فاذا تحدث الشعراء عن اصالة ادبية وتاريخ شعري عريق، فلا بد ان تحتل البصرة موقعا فيه، فكل اشارة للمربد تعني البصرة وكل اشارة للزنج تعني البصرة ايضا، فهي مدينة الشعر ودار العلماء والادباء ومنجم النفط الغزير وميناء العراق الاول ومدينة السندباد البحري " ومادامت البصرة تشكل مكانا وموطنا للحياة فهي مكان موضوعي وليست مكانا مفترضا". وهذا المكان الموضوعي يستوعب تجربة الشاعر ومستوى ادائه الفني وصيغ تعبيره فعندما يدلل على مكانتها يريد مكانة أرضه بما فيه من تاريخ وتراث وحياة، وان "هذا المكان هو جزء من غريزة الحياة وان فقدانه جزء من غزيرة الموت"(2) فالشاعر يرسم معالمها ويفخر بها ويدعونا الى تلك الامجاد ومحاولة استشراف معالمها وابعادها فيرصد طرفي الموقف منها عن الماضي العريق الذي تمثله البصرة رمزا، والحاضر الذي اضافت فيه تلك الريادة التي تمثلت بالسياب والبريكان، لذا ارتأينا تصنيف تلك السياقات حسب كثرة تناولها كالآتي:-

 

 أولاً: مجيء البصرة في قصيدة مقصورة عليها

أ – السياق الوصفي

بينّا في الفصل الاول دواعي القول في البصرة وقارنا بنقاط بين أسباب شعراء البصرة وبين الشعراء غير البصريين، واكدنا انتماء الشاعر البصري وارتباطه بالبصرة ولادة ونشأة وسكنا، وبين الشاعر الذي يرتبط بها وجدانا، لذا حرص الشاعر على التقاط فكرة او حادثة يتخذها مدخلا للبصرة فيحاكيها بقصيدة شاملة قد تعبّر عن لحظات فرح بلقاء او لحظات امل تمتزج بالرد على ذكرى مع صديق او حضور مهرجان شعري تكون البصرة محطة فيه، لذا يرسم الشاعر تجربته الخاصة متخذا من العناصر الطبيعية كالشط والنخل والنوارس والميناء رموزا تشاركه لحظة فرحته ولقائه بالبصرة، والبصرة مدينة واسعة فيها حقائق منظورة ومعروفة لدى الجميع وتبدو أمام الشاعر بتلك المنظورات جميلة تستحق الوصف والإعجاب، فيرغب الشاعر بان يستوضح تلك المسألة التي تتحدد (بمدى ادراك الشعراء للحقائق الشعرية التي تنطوي عليها هذه الموضوعات، والعلاقات الإنسانية التي تربطها بحياة الانسان).

فالشاعرة عاتكة الخزرجي من بغداد وهي تعرف وتدرك مدى شهرة البصرة وجمال طبيعتها فتصورها جنة عدن وكأنها تريد ان تترك بصماتها على افق هذه المدينة وهي تصوّر ذلك الاعجاب تنتزع صورة وصفية مستقلة بالبصرة تدل على قدرتها وعمق شاعريتها وهي تلبس الابيات لوعتها، وكأنها تبحث عن امل صعب المنال وتتخذ من البصرة حجة لتفصح من خلالها عن فقدان ذلك الامل وهي تبحث في سياق اعجابها هذا شريطا من ذكرياتها وكأنها ترسم ما اراده كولرج في اضفاء الشاعرية على الطبيعة عندما قال "ان حلّة العرس التي يضفيها الشعراء على الطبيعة هي من صنعهم، ومن صنعهم كذلك كفنها) أي ان الشعراء هم الذين يضفون على الطبيعة مشاعر البهجة والفرح، ومن هنا نجحت الشاعرة في رسم هذا السياق المصحوب بالذاتية مع الخلق المرتب على بعد مرئي:

وجنة عدنٍ تبدت لنا
ورضوان نشوان من سحرها
ويا بهجة النخلات الحسان

وقد باغم الحور ولدانها
وتفتن في الدل افنانها
وقد فوف الطلع اردانها

ان هذه الابيات جاءت بسياق وصفي قوامه نظرة جمالية افصحت عن رؤيا الشاعرة الى البصرة حيث وصفتها بالجنة ثم اختارت شخصية رضوان، ووصفت بهجة النخلات الحسان ولم تقل النسوة وهي تستعير الضفائر لتلك النخلات من النسوة، وبهذا المدخل نصل معها الى غرضها الذي ارادت توصيله لنا:

تذكرت ايامك الخاليات
أفيحاء لو تمسحين الدموع

وذكراي توجب شكرانها
وسرّى عن النفس أشجانها

وهنا استدركنا ابعاد هذه التجربة الوصفية التي نسجتها الشاعرة بخيال خصب، محاولة التخفيف عن احزانها، فهي تلجأ الى المربد والى البصرة، وكيف تبدأ بالدخول الى قلب البصرة دون ان تشخص دلائل تلك المدينة ثم اضفاء الحزن الذاتي اساساً لوحدة الصراع التي تعانيها النفس في مواجهة المصاعب وكأنه صراع غير متكافئ، ويختار الشاعر ابراهيم الوائلي علامة من طبيعة البصرة مع مستلزماتها، ويؤكد على الشط الذي ارتبطت روحه بما فيه من تأمل وسعة وهدوء.

يا شط اني في رحابك فاغتفر
 بين النخيل لنا مرابع سمحة
 نتفيأ الاغصان وهي سخية
 نصطاد عصفورا يعسّ فراخه

وعلى لساني  تمتمات صلاة
وعلى الضفاف الغر والقنوات
ونقول للنخل المكلل هات
ونطارد  الغربان بالرميات

فهذه اللوحة الوصفية تفصح عن عواطف متأججة عند الشاعر تكاد كل لفظة تبوح بسبيل منها، وهو يحدد الجمالية المنظورة نخيلا – اغصانا – عصافير ثم يعترف انها نزوة كانت لايعرف سرها عندما كان يصعد النخيل للبحث عن الاعشاش ولماذا يركض وراء الغربان، فاللوحة متحركة توحي بحقيقة لا يحتاج الفكر الى جهد لتفهمها ولكنها تبحر بالمتذوق الى استرجاعات طفولية مثلّت لحظات عمره في البصرة ثم  انتقاله الى النجف وقد افصحت ابياته عن ذلك الاثر والارتباط بالبصرة.

وفي السياق نفسه نجد الشاعر حافظ جميل الذي نزل ضيفا على البصرة وهو من بغداد، فاستذكر الماضي الذي عاش فيه مع احبته وكم نجد فرقا في ابياته ومباشرتها وعمّا قرأناه للوائلي مثلا، فحافظ جميل لو تأمل تجربته واعادها  فلربما ستكون قصيدة اكثر تأثيرا وانسيابية جمالية خاصة ونحن نحلل باحثين عن السياق الجمالي، فكل ما اراده ان يحيي اهل البصرة ويعلن مباشرة عن مشاعر الحب لهم.

ها قد تحقق يا فؤاد رجائي
ولأتلونّ على خمائل شطها

ونزلت ضيف البصرة الفيحاء
نفثات اشواقي لها وولائي

وبقية الابيات تفصح عن مشاعر جاءت بتعبير عادي مألوف وتقليدي في آن واحد لا نتلمس في نسج الابيات خصوصية للشاعر فلو غيرنا مؤلف قصيدة (العودة الى ارض الصبا) وهو الوائلي لما صدقنا ان الشاعر ليس بصريا،  فالبصمات التي يشير اليها حقائق حياتية عاشها فلم يصطنع، اما حافظ فقد دخل للغرض مباشرة فما لديه من ركائز ومواقع مكانية يقنع بها السامع وان صاغها بخياله فلا تتعدى حدود المبالغة، وكيف يحدد الشاعر خصوصية لشيء لم يره ولم يعرف ابعاده وان كان قد راى مثله (فالجمال اذن يتحدد بخصوصية نظرتنا الى الاشياء وادراكنا لحقيقتها الجوهرية ثم هو يمتد بعد ذلك الى التعبير حين نعبر عنها).

ويتخذ الشاعر محمد علي اليعقوبي سياقاً شبيهاً لسياق الشاعر حافظ جميل، عندما اتخذ البصرة مرفأ لشكواه وبث لواعجه، وقد اخذت المناسبة موقعها وهو كصاحبه جميل يودع اصحابه في محطة قطار المعقل وماذا نتوقع من الشاعر ان يقول في مثل تلك اللحظات وخاصة لأحبته المودعين:

اشرقت يافيحاء حسناء فاستوت

 

فيك الليالي الغر والايام

ثم يختم قصيدته قائلا ..

كرموا وما شحوا عليّ بوصلهم

 

وهم وان شحوا عليّ كرام

وتبدو التجربة واضحة والمناسبة فرضت على الشاعر ان تطلق قريحته سياقاً وصفياً فيه مجاملة وتصنّع. ويقرن الشاعر عبد الجبار داود البصري اشعاره بالمكان الذي ينتمي اليه ويسكن فيه فأبو الخصيب من اجمل اماكن البصرة، وحبّا بهذا المكان سمّى الشاعر ديوانه (طريق ابي الخصيب) وهو يعترف بان اغلب ما في الديوان من وحي ابي الخصيب وتصوير لما فيه، فطالما جلس على الجسر الصغير حيث يجري الغدير وتحيطه بساتين النخيل فأنفرد بالطبيعة وناجاها وشكا اليها ما يعانيه وافرغ على مساحتها بعض همومه، انه ينقل بواقعية ذلك الاحساس الصادق الذي يعيشه كل شاعر متعلق بحب ارضه وذكريات اهله، وتشاركه مفردات الطبيعة الجداول، النخيل، الزنابق

على الجسر الصغير وملء سمعي
وتصفيق الجداول للدوالي
لأشهد باسقات النخل حولي
وهل تقسو الطبيعة وهي ام
ومن مثل الطبيعة للحزانى
ولست الوم من سجدوا اليها
يذكرني الطفولة وهي دنيا

 

غناء حمامة او عندليب
واحيانا مقاطع من نسيب
تناجيني مناجاة الحبيب
اذا انعدم الحنان من القلوب
تواسي الجرح في صدر رحيب
وهاموا بالشروق وبالغروب
مزخرفة طريق ابي الخصيب

وهنا نجد ذلك التشابه بين الوائلي والبصري في هذا السياق، وكلاهما قد قدّم جمالية المكان ثم عاد ليستذكر ايام الطفولة، ولكن الفارق بينهما ان الوائلي اشار الى الشط في جلّ ذكرياته، اما البصري ركز على طريق ابي الخصيب، والحقيقة نحن مع الشاعرين في تصويرهما، فقد كان ابو الخصيب آية للجمال والروعة حيث دوالي العنب واشجار الرمان تتوزع على جهتيه، اما الشط فلا نضيف دليلا لجماليته خاصة وان الشعراء جميعا قد تأثروا بروعته ودفنوا ذكرياتهم على ضفافه وخاصة البصريين، وقد امتزج السياق بوصف الطبيعة وبذات الشاعر ومعاناته ثم يحتج على الذي حصل في الدنيا قائلاً:

تبدّل كل شي في حياتي
ومن نفر اخاؤهم نقي
ومن افق اعيش به طروب
اومن جمع القواقع في المجاري
طريق ابي الخصيب انا مدين

 

فمن فرح الطفولة للغوب
لصحبة ثعلب طاوٍ وذيب
الى النكبات والعيش العصيب
الى جمع الشدائد والكروب
له بفضائلي او في عيوبي

ان البصريّ قدم لنا عرضاً وصفياً جمالياً لمنطقة ابي الخصيب ولربما نحن اهل البصرة قد رأينا تلك المنطقة وتجولنا فيها يوماً ولا يأتي الشاعر بجديد عندما وصف تلك المنطقة ولكنه على الاقل متعنّا بتعبير متراص الافكار ومتسلسل في المعاني مع اضفاء المشاعر الجياشة على الطبيعة، فهو يحمل قضية وان (نبل القضية ومضمونها الاجتماعي لا يكتفيان وحدهما لجعل القصيدة عظيمة اذا لم تكن عظمتها في كبرياء حروفها وجنون مسافاتها وروعة تصميمها) وهذا ما نلمسه حقاً في القصيدة بسياقها الوصفي وإذ يتفنن الشعراء في وصف البصرة فالشاعر انور خليل يصفها زمردة خضراء يحنّ الى اطيافها كما يحنّ الى الربيع الجميل، والشاعر يتطلع  الى الربيع مدفوعا بعامل البيئة الطبيعية التي عاش فيها، وحينما يحوّل النماذج البشرية الى ربيع كما اتصف الرسول (ص) عنده بصفات الربيع، وكذلك وصف الرصافي بلبلاً من بلابل الربيع، لذا حوّل البصرة الى زمردة في فصل الربيع وهنا يستقر وضع سياقه الوصفي وما اضفى عليه من مشاعره ووجدانه ..

ابصـرت بصرتكم هذي زمـردة                       خضراء تلتم كثباناً وشطآنا

وهـل نسيتـم عشيـات معطـرة                        تندى رواءً واشذاءً وافنانا

 مضت وابقت طيوفاً من خواطرنا                       وذكريات شجيات واحزانا

وحين يعود الشاعر عباس شبّر الى منابعه الاولى، تلك المنابع التي كوّنت شخصيته واصالته، ذلك المكان الذي شعر فيه بالامن والطمأنينة يفصح عن تلك العلاقة الدائمة التي تمتد الى جذور أصيلة تمده بالماضي فتورق أغصانها في الحاضر وانها محاولة العودة الى الماضي وبعث الذكريات فيقوم خياله بتشكيل الماضي في ابهى صورة يطرح من خلالها عدة تساؤلات:

ان في هذه الربوع الهمود          عبراً قد ثبتنَ من صيخودِ

اربع تملأ الصدور خشوعاً          فتسيل العيون فوق الخدود

هاهي البصرة التي لقبوها           كعبة العلم والنهى والجود

هاهنا شيّدت صروح المعالي        وديار الآداب والتوحيد

 

ب – السياق الاجتماعي

في الشعر الاجتماعي يجد الشاعر نفسه خاصة اذا واصل الكتابة عن مجتمعه وتفهم مشاكله، وفكر في همومه وقضاياه ويبقى المجتمع محتاجاً الى تجارب الشعراء لانهم من ينقلون معاناته ومشاكله ويضعونها على قارعة الطريق، وان هذا الغرض الاجتماعي في النصف الاول من هذا القرن كان معبّراً عن مشاكل الفقر والجهل والمرض والمرأة والطفل وهذا ما أطلقوا علية الواقعية اما الشعر الذي جاء بعد الحرب الثانية فقد جسد الحرمان، وابرز مظاهر الفقر والبؤس والطفولة المعذبة وتحدث عن الريف والفلاح وتسلط الاقطاع وعن العمال وسيطرة الاستعمار، وقد افاض السياب بتصوير تلك المآسي مجسداً واقع مجتمعه فحكى عن قصص البؤس الطاغي على الشعب وشقاء الريف وضياع الانسان، وكانت المومس العمياء وحفار القبور والاسلحة والاطفال شواهده على تلك الظروف، وبعمومها حكت واقع المجتمع البصري فإذا ما اردنا ان نختار قصيدة ورد فيها ذكر البصرة فلا نجد اسماً مباشراً بل تعتبر القصيدة لوحة اجتماعية خاصة بالمجتمع البصري، واذا قالوا (ان الرصافي اول شاعر عني بالمشكلات الاجتماعية في عصره) نقول ان السياب اول شاعر بصري اجاد وابدع في تصوير مشاكل الوطن عامة وقد غصّت دواوينه بتلك القصائد، خاصة وان البصرة عالم الجنوب، ذات الخصوصية على حد تعبير محمد الجزائري (عالم الثغر بكل ما فيه من ابتسامات وخجل وريفية وبساطة وبكل ما فيه من حركة دؤوب).

وهذه الخصوصية الاجتماعية ظهرت بارزة ايضا في قصائد سعدي يوسف، الذي يعني بكل  كلمة مدينة (البصرة) مركزاً على العادات والقيم، وهنا تحتل الشخوص البصرية مساحات في قصائده، مصوّرا حال البصريين محرومين من متع الدنيا.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com