دراسات نقدية

 

سياقات مجيء البصرة في الشعر (3)

 

الدكتور صدام فهد الاسدي / البصرة

saddam_alasadi@yahoo.com

وتخفي قصيدة الشاعر عبد الرزاق حسين المشرّد تلميحات سياسية تكشف من عنوانها وهي تحكي قصة عبد الله من مدينة ميتان في البصرة ولو تفحصنا تلك التلميحات التي جاء منها هذا المقطع لأدركنا مفاده وقصده.

ها انت وحدك فلتحس بلا رقيب

ولتبعث الشكوى ففي البيت الغريب

لا شيء غير اليأس والصمت العميق

يا ارض ميتان الحبيبة انه زمن المخاطر

وكلما صوّر المدينة على هيئة كابوس مظلم قرأنا شدة الضغط السياسي في اعلى درجاته قبل ثورة 17 تموز 1968 حين غاب الموقف الايدلوجي واصبح يرى بالعيان تحكم القوى السياسية الرجعية والتقاليد البالية، وماذا يفعل الشاعر ازاء تلك الضغوط وهو يرى قباحة وجه المدينة وشكلها المأساوي أيبقى متفرجا على هموم مدينته ؟ ام يحمل معها الهمّ ويندفع في صفوفها معبرا عن موقفه؟، وكان التأميم فرصة كبيرة عام 1972م استغلها الشعراء وحرّك وعيهم بطرح نضالات ومواقف فكرية، ولم تقف الفرحة عند عمال النفط وموظفيه بل شملت الجميع وكان صوت الشاعر حسب الشيخ جعفر كاشفا عن بعض هذا المسار.

والرميلة تحتضن النخل حين ابتدأنا

تلامس نبض البريد السياسي

يا أيها الماء خذني الى الجرف

انثر مدح القميص الذي اخترقته الرصاصة

ادرك ناقلة تعبر الشط في وجهها الطلق

وقد كشف الشاعر كاظم الحجاج احزانه التي تركها في قصيدته (شيء من احزان البصرة) وتناول فيها ساحة ام البروم ووصفها وصفاً حياديا مجسما ملامحها، وهو لا يكشف عن نزعة انتقادية غاضبة بل يلفت النظر الى الرؤيا السياسية حين قال:

تدق المسافات يا موطني دقتين اثنتين ثلاثاً

وابكيك في الدقة الرابعة

واُبعد عنك اضطرارا من الجوع

ويطالعنا الشاعر عبد الواحد بااش اعيان بإطاره التقليدي ونهجه التعليمي وهو يقدم لنا قصيدة مستقلة تحمل صرخة للبصرة التي رآها محرومة من ابسط وسائل العمران، ولم تأخذ استحقاقها من الزمن فهبّ مطالبا بحقها منطلقا بأحتجاج سياسي لان خيرات البلد تذهب سدى ومدينة مثل البصرة لم يشملها الاصلاح ..

بصرتي الغنّاء مهلا اننا قد سعينا في نضال وعنا

كنت نور العلم بالحق كما جعل التاريخ منك علما

ان هذه القصائد كلها مقصورة على البصرة موضوعاً ومضموناً وهي مستقلة بها وقد اختلفت ازمانها ومناسباتها واحداثها ويجمعها خيط واحد صوّر المدينة على (هيئة كابوس يرمز الى الضغوط السياسية والاجتماعية، هي محصلة مرحلة الستينات وتفاعل واقع الانتكاسات والتراجعات السائدة في هذه المرحلة مع المؤثرات الثقافية الوجودية والعبثية) فالشاعر الذي غاب عنه الموقف الايدلوجي اصبح يرى بالعيان تحكم القوى السياسية فرسم كوابيس مدينته بالشكل المأساوي، وهذا ما لمسناه في طيات قصائد الشعراء، وربما يعترض معترض قائلاً ان مهمة الشاعر والفنان ان يخلق توجها فكريا وسايكولوجيا وليس من مهمته ان يكون منظّرا سياسيا ونقول له هذا لا يعني ان نفصل الشاعر عن هموم بلده السياسية وان يجعل من نفسه متفرجا على الاحداث، بل عليه ان ينطلق كفرد يعاني ما يعاني وطنه ويتحمل عبء المعاناة ويحولها الى فكر موضوعي ينبه ويثير به، وبهذا الاتجاه يكون الشاعر قد وضع نفسه في الصفوف الاولى للمواجهة السياسية او يبتعد عن الميدان.

 

ثانيا: مجيء البصرة ضمن جزء من القصيدة

تناول الشعراء بصريين وغير بصريين هذا النوع من القصائد التي تكتب عن البصرة ضمن سياقات متنوعة تجتمع فيه السياسة والوصف والذكريات واحيانا الهجاء، وقد نعني بالجزء اتخاذ البصرة مكانا او يتم اختيار موقع من مواقعها او شاعر من شعرائها، ولغرض تنظيم مبحثتا هذا نقسمه الى تلك السياقات :-

1 – السياق التاريخي للشخصيات .

2 – السياق الحضاري .

3 – السياق السياسي والثوري .

4 – السياق الذاتي .

5 – سياق الرثاء لشخصية السياب .

6 – سياق الشكوى والعتب والذم .

 

1- السياق التاريخي للشخصيات

يشمل هذا السياق مجموعة حقائق وشخصيات تأريخية لها دورها وفعلها في حركة التاريخ، والشاعر العراقي (لا يتعامل مع التاريخ من منطلق كونه حقائق مجرّدة، اي انه لا يورد اشارة او حدثا او اسما من هذا التاريخ كما يورده المؤرخ الذي تهمه الحقائق لذاتها فالشاعر يضفي عليها من ذاته وواقعه) والبصرة فيها شخصيات كثيرة اشاد بها التاريخ والادب والفكر والعلوم، ولا يعني ذكر الاسماء لدينا احصاءا وحسب بل انها ترتبط ضمن هذا السياق بحدث ومناسبة ورمز واشارة دالة، وقد تكون الشخصية المشار اليها دينية كشخصية الحسن البصري التي يستعرض فحواها الشاعر غزاي درع الطائي في قصيدة (عصافير راعية السعدون) اذ قال فيها ..

يا سيدة النخل العالي

مرّ ببابي في منتصف الليلي الماطر

شيخ الاسلام الحسن البصري

ان الشاعر الطائي اراد ان يقيم جسرا بين الحسن البصري كشخصية دينية بصرية معروفة وبين السياب ليهدم حاجز الاحباط في داخله ويحقق التواصل من خلال انفعاله الذي اضفى على مداخل تجربته انتقادا من السامعين واراد ان يخرج الحسن البصري من المقبرة لكي يجمعه بالسياب المدفون في هذا العصر وبالمقبرة نفسها ..

لماذا كان حزيناً شيخ الاسلام الحسن البصري

حين اتاني في منتصف الليل

واستذكر الشاعر مصطفى جمال الدين شخصية الخليل بن احمد الفراهيدي وفي قصيدة عبدالامير الحصيري تحضر عدة شخصيات بصرية مثل ابي عمرو بن العلاء، وواصل بن عطاء والفرزدق وتستحضر الشاعرة عاتكة الخزرجي بعض الشخصيات البصرية، ويستحضر الشاعر عبد الحسن الشذر شخصية قائد الزنج.

 

 2- السياق الحضاري

من بين المواقع الحضارية في البصرة الميناء الذي يحمل دلالات اقتصادية واجتماعية سنأتي عليها في الفصل الثالث، فهو من معطيات الحضارة التي عاشت مع البصرة وقد شمل الميناء التوسع في المعقل وام قصر والفاو والميناء العميق، ومعه يتوقف الشعراء البصريون وهم يشيدون باهميته وقيمته كوجه حضاري للبصرة ومرفأ للسفن والناس وذكرياتهم ... وقد تكرر ذكر الميناء في قصائد سعدي يوسف كثيرا بل نجده مباهيا به، مفتخرا بعطائه، مقارنا ميناء البصرة مع الموانئ التي يجدها في المغرب العربي نظير قوله ..

ارصفة الميناء يا ارصفة الميناء

يا اول الارض التي عانقت لقياها

يا آخر الارض التي ضيعت رؤياها

ويؤكد الشاعر محمد راضي فرج على ذكر ميناء ام قصر ويعتبره انطلاقة للخير حيث تبدأ منه البضائع وهي تنفض عن الناس غبار الحاجة والعوز، اذ قال:

وتعبر ام قصر كل الحدود عصورا

وتنفض بغداد عنها غبار السنين

وترد مساجد البصرة ضمن السياق الحضاري ولها خصوصية دينية يتداولها الشعراء مؤكدين على دور البصرة الديني ونقلها الفعل المؤثر في الفكر الاسلامي، فالشاعر علي الياسري يؤكد تلك الافكار قائلا:

 

مر زمان الحبر في مساجد البصرة والنخيل ..

ارتحلت مواكب الشيوخ

ونفهم من النص هذا كيف كان الشاهد الحضاري متمثلا بالكتابة في مساجد البصرة ودور التعليم للقرّاء. وضمن هذا السياق والاشارة الى التحضر يشير الشاعر مجيد الموسوي الى تفاصيل دقيقة عن البصرة باعتبارها ذات معالم حضارية كثيرة ...

ايتها المدينة الرائعة

الشناشيل وهي تنتصب وتكتسي بلونها الابنوسي

وزجاج شبابيكها ذي الالوان السبعة

الجسور والاسواق والقباب والمنائر

والساحات المبللة بظلال الصيف المبكر

الانهار الصغيرة المتفرعة في جسدك كالشرايين

والملتفة تحت قناطرك كالحبل السري

البيوت الواطئة النهرية والابواب المرصّعة

بالآيات وقرون الغزلان

ومن يتمعن في هذا النص يستطيع ان يستوعب وجه البصرة وتشكيلها المتنوع، فهنا ينقل الموسوي الاشكال والمواقع، بشكلها الحقيقي دون ان يبالغ في اضافات جانبية، فدلالات استقرار المدينة بجسورها واسواقها وقبابها ومنائرها الشاخصة وساحاتها الواسعة وانهارها المتفرعة، قد افاض الشاعر حقاً في تشخيص وترتيب اماكنها بقصيدة دللت على بيان حاضرة مهمة من حواضر التاريخ وهي البصرة.

 

3- السياق السياسي والثوري والفكري

في القصائد المستقلة والخاصة بالبصرة استعرضنا شواهد وحللنا بعض الرؤى التي قصدها الشعراء، وفي هذا السياق الجزئي كجانب سياسي يخصّ تأميم النفط ما لمحناه في قصيدة للشاعر كاظم نعمة التميمي الذي حكى لنا عن تساؤلات صغاره الذين تفاجأوا بالرميلة عندما رأوا لهيب نارها من بعيد فكانت فرحتهم كبيرة ...

 

ثلاث من الجزر المستباحة فوق الخليج

عبرت على سفوان خيام بني دارم

عبرت فوق عيني

مشت في دمي سألتني

وقال صغاري اهذي الرميلة؟

 

وهنا يشير الشاعر إلى الجزر الثلاث التي مازالت قضيتها عصّية بين الامارات وايران، ويرتبط النصر المادي بنصر سياسي في قصيدة الشاعر محمد راضي جعفر التي جسد فيها فكرة انتصار التأميم حيث وادي العقيق الذي اشرنا اليه في الفصل الاول. وحين نذكر السجون والمنافي فالفاو من مناطق البصرة التي كانت منفى يحجز فيها السياسيون والمناضلون ابان الاربعينات وقد اشار الشاعر محمد صالح بحر العلوم إلى ذلك مبينا موقع الفاو كمنفى سياسي في قوله:

فئة تابعت هواها وراحت

تخـدم الانكليـز في مسعاها

وتزّج الاحرار في الفـاو

والسلمان منعاً لثورة تخشاها

وتناست ان اشتداد المآسي

يهـب الشعـب يقظة وانتباها

بشروها ان الصباح قريب

وعلى فجـره زوال دجاها

ونرى بوضوح ما اراده الشاعر من تلك الاشارات وهو يكتب تلك القصيدة في الخمسينات، فان الفاو ونقرة السلمان سجنان للمناضلين الذين يقفون بصدورهم متحدّين الغزاة الانكليز. وقد افصح الشاعر زهير غازي زاهد في قصيدته الفقر وبيّن فيها اهم قوى الاصلاح ووقود الثورة، فالشاعر يؤمن بقدارت الانسان في متابعة مصيره وتحقيق رغباته ...

فيـا قدّس الله تـلك الزنـود

ويا خلـّد الحـق ذاك الندا

وبصرة عبر العصور تلظت

من نـار رومـة فيها جذى

فصبّوا على ارؤوس الظالمين

شواظا وموتا على من عتا

 

وقد يأتي مضمون الجانب السياسي غير ظاهر ولم يذكر فيه اسم البصرة وانما يُلمح الى بعض المواقف التي تتعرض لها المدينة وهذا ما لمسناه في قصيدة للشاعر هادي عودة شاوردي تحت عنوان تحريض ..

انت ايها الطفل ماذا ستفعل لو صرت طيرا

... قلت سآوي الى نخلة من نخيل الفرات

وللشاعر هادي ياسين علي قصيدة بعنوان (الرفض) يشير فيها من طرف خفي الى البصرة ويخاطبها – ياسيدتي-

هل تسمح سيدتي ان امسح جبهتها الحرّى

وان اقرأ في حضرتها

الشعر المكتوب على افخاذ الخيل

هل تسمح ان ادخل حجرتها الليلة محتميا

من عين العار واقضي الليل

هل انت المحكوم عليك بان ترعى الابل

ونلمح جليا ذلك الموقف الذي تكشفه تساؤلاته في قوله – المحكوم عليك - .

 

4- السياق الذاتي ضمن عاطفة وذكرى

ليس من غايات البحث الحديث عن المرأة ولكن لابد من ذكر بعض المواقف الذاتية التي تحدثت عن تجربة حب او علاقة بين شخص بصري مع امرأة ما، شرطاً ان تكون البصرة حاضرة لفظا ومضمونا ضمن هذا السياق، والحقيقة التي يجب ان نقولها ان الشواهد في هذا الخصوص قليلة، ولم نجد اسم البصرة الا رمزاً سنأتي على تحليله في الفصل الثالث، وقد لا يسمى الشاعر البصرة بل يكتفي بتحديد سكن أحبته في البصرة، فالشاعر مسلم الجابري يشير إلى ديار احبته ويريد البصرة.

ومن بين السياقات الذاتية قصيدة للشاعر عبد الجبار البصري يحكي بها علاقته الدافئة ومواقفه مع امرأة بأسلوب قصصي مشوق:

الى العشـار نـادت كالطيور

بصــوت ناعمٍ عذبٍ نميرٍ

فتحت الباب فأندفعت ضحوكا

وافعم مهجتي خيط الحرير

وقد اشار الشاعر محمد راضي جعفر الى الموال البصري وهو يتحدث عن لقاء عابر مع إمرأة جرى بينها وبينه حوار وهي تسأله عن مدينته حين كان مسافرا:

صوتك الساحر موال من الشرق

احقا انّما الموّال بصري

وما ثمة موّال من البصرة

قل انك من بغداد، آه يا إمرأة لم تجذبي

غير مهزوم امام اللغة الاخرى

وقد لا يعرف السياح ان الشاعر البصري مهزوم

 

ولهذا اللقاء تكملة لا ينسى فيها الشاعر اسم البصرة والنخلة، مثيل قوله:

ربما يا نخلة المرسى التقينا صدفة

لكنك النخلة في قلبي

وما البصرة الا فيك وهج امرأة عاشقة

ومن القصائد الذاتية التي ارتبطت بالبصرة واهلها قصيدة للشاعر رشيد مجيد والتي اهداها للشاعرة نهال حسن العبيدي، مبينا لها ذلك الاعتزاز بالمرأة البصرية ومركزا على صوتها البصري المميز ...

ونهال ما برحت ترنيمة عذرية

ورنين قافية وشوق وابتهال

ورفيف اشرعة مباركة يطوف على مراسيها الخيال

ويلملم الليل الجنوبي اختلاجة صوتك البصري

 

5- سياق رثاء شخصية السياب

في هذا السياق الحزين تكاثفت قصائد الشعراء من البصرة وغيرهم وكلها طافحة بالاسى واللوعة، ترثي بدراً وتبكيه بكاءا حارا، وقد قدمنا في اسباب الكتابة عن البصرة هذا السياق واحدا من اهم الاسباب، ونؤكد عليه ضمن هذا المبحث، لان اسم البصرة اقترن مع ذكر السياب، واذا ما غاب اسم البصرة فان جيكور وبويب لا تغيبان في مراثي السياب، لان المكانين المذكورين من مواقع البصرة المهمة فلابد ان نعتبرهما ضمن هذا السياق مع تأكيدنا على ان القصائد التي رثت السياب كثيرة ولن نذكر قصائد البصريين في رثاء شاعرهم بل نكتفي بقصائد غير البصريين محللين ما يرتبط بهذا السياق من مضامين .. فالشاعر انور خليل من ميسان يسمي السياب (هزار البصرة) المغرد الذي سكت الى الابد

جيكور بعدك في عذاب

تبكيك يا زين الشباب

يابدر ان ابا الخصيب

مناحة في كل باب

وللشاعر حسين جليل تساؤلات عن بدر ومنزله جيكور وحبيبته وفيقة

 

يا نبع بدر يا هواه ويا معابده الغريقة

يا وجه غيلان ويا قمر تسامره وفيقة

ويصفه الشاعر سلمان هادي الطعمة (البدر الآفل) وفي قصيدة الشاعر محمد علي الخفاجي (الراحل الغريب) ويخاطب بها نخل جيكور الحزين الذي يشاركه وحشته قائلاً:

نخل جيكور غاب بدرك بدرا

وهو لمّا يزل بعرس شبابه

وهكذا اصبح السياب مدخلاً ومنهجاً شعرياً يبدأون به قصائدهم كما تبدأ القصيدة الجاهلية بالطلل.

 

7- سياق المدح والشكوى والعتاب

قدمنا في الفصل السابق سياق المدح والثناء للبصرة ضمن القصائد الوصفية، وفي هذا المبحث نشير الى الاشارات التي وردت ضمن الشواهد التي بين ايدينا، وهي تحكي عتبا وشكوى من البصرة، وان تركنا ذلك فرب معترض يسأل لماذا لم تحتوِ رسالتنا على نقطة ذم او اشارة عتب للبصرة، ونحن نقول بأن البصرة ليست معصومة من العيوب لكن الذي نود ذكره ونحن بصدد بحث علمي واكاديمي ان دراستنا لم تتعرض لنص ذم البصرة ذما مباشرا عدا بعض الوقفات الذاتية التي حصلت لهذا الشاعر او ذاك ولظروف معينة، وهي بحصيلتها لا تشكل نقصا او عيبا في البصرة ولا تغطي ما قاله الشعراء في مدح البصرة والاعجاب بها وبأهلها وهي تستحق ذلك.

وامامنا نصان احدهما للشاعر طارق الطاهري الذي شكا من خسارته امرأة احبها في بغداد وفشل بعدما وجدها قد ارتبطت بغيره فرجع الى البصرة غاضبا كارها سوء طالعه اذ قال:

سار القطار الى الفيحاء متجها

والقلب يبعد عني كلما سارا

تركت قلبي في بغداد مرتهنا

وعدت للبصرة الفيحاء مخسارا

وفي هذين البيتين لم تظهر علامات غضبه من البصرة وانما شكواه من الزمن الغادر ولوم ذاته، واشتداد حالة غضبه فسمى البصرة التعساء قائلاً ..

 

فجئت اخطبها فات الأوان فقد

تزوجت قبل عام ضاع مطّلبي

اعود للبصرة التعساء لا امل

يميل لى الفؤاد غصّ بالسحب

 

والنص الثاني فهو لشاعر قليل النشر وهو اسماعيل الخطاب الذي وصلت عنده خيبة الامل بترك البصرة والرحيل عنها في الليل الصامت لما يلقاه من احباط نفسي وقلق وخوف من تناقضات الحياة وتقلبات الوضع الاجتماعي ...

رحلت من مدينتي الصغيرة

تركت في بيتي قصائدي المريره

وخيبتي وامي الفقيرة

وضحكة الصغار

تركت في بيتي حكاية الاطواق والاغوار

وعبر تلك السياقات المتعددة التي جاءت فيها البصرة ضمن قصيدة مستقلة او جزء من قصيدة نسجل الملاحظات الاتية:

1. ان قلة قليلة من الشعراء خصوا البصرة بقصيدة كاملة ولعل طبيعة الموضوع، المدينة، المكان يؤطر تجربة الشاعر بحدود ينفر منها الشعراء والشعر الحديث بعمومه يميل الى المطلق والتعبير العام عن الانسان ومشاكله النفسية واحباطاته السياسية، فالشعراء الذين تناولوا البصرة في قصيدة كاملة حرصوا على ان يقدموا البصرة في اطار طبيعي وتاريخي ووجداني واجتماعي فقدموا صورة متكاملة عن المدينة.

2. ان ورود البصرة في سياق جزئي من القصيدة كان الاكثر وقد فرضته ظروف المناسبة والحدث وان الاشارة الى المدينة تعزز من صدق تجارب الشعراء ورسم اطارها المكاني الذي يبعدها عن الافتعال والنفاق والزيف. وكان ذكر البصرة مقترنا بذكر السياب، وقد شكّل القسم الاكبر من تلك القصائد ذات السياق الجزئي والذي تتنوع فيه الموضوعات السياسية والحضارية.

3. لم نجد قصيدة مستقلة تحكي عن غرض ذاتي الا في القصيدة الجزئية، فكل مواقف العشق ووصف النساء جاءت في القصائد الحرة وهي قليلة واغلبها مقطوعات شعرية قصيرة.

4. ان القصائد الكاملة كانت في الغالب تقليدية، ومن الشعر العمودي، عكس السياق الجزئي الذي خصّ الشعر الحر ولا نعني كل القصائد فقد كان فيها شئ من التجديد.

5. اجتمع الاسلوب القصصي والاعتماد على الحوار في السياقين وهذا ما نأتي على تحليله في الفص الرابع .

6. تكاد تكون قصيدة السياق المستقل دائرة في بحور محددة مع تشابه الموضوع وخاصة في غرض الوصف مع تغيير في القوافي، بينما تأخذ قصيدة السياق الجزئي طابعا متنوعا ولكل منها روحها الخاصة بها.

7. لم تغب الذاتية عن النوعين كليهما، فالشاعر له حضور في القصيدة المستقلة في البصرة وفي الجزئية، ومادامت كلها قصائد غنائية فهذا شئ طبيعي.

8. وردت في تلك السياقات دلالات مختلفة ورموز متنوعة سوف نأتي على توضيحها في الفصل القادم.

 وبهذا كانت السياقات خصيصة مهمة حددت لنا الشكل للقصيدة والمضمون الذي رأينا تحليل دلالاته مهما كي نتطلع على خصائص القصيدة التي قيلت في البصرة.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com