دراسات نقدية

دموع المتنبي .. دراسة في غزله

 

الدكتور عدنان الظاهر

مقدمة

لم أجد المتنبي الشاعر – الإنسان كما هو على حقيقته إلاّ في حالين: الغزل ثم في قلقه وحيرته مكاناً وزماناً. وعليه فإني أقترح على نُقّاد ودارسي هذا العملاق النادر أن يكفّوا عن التركيز على مدائحه المعروفة، ذاك لأنها لا تمثل الرجل أبداً ولا تعبّر إلاّ عن القليل من مشاعره وأحاسيسه الداخلية وعن همومه الخاصة وحيرته في معنى الخلق والوجود والزمن ومعنى أو كنه النفس البشرية. المديح كما يعلم الجميع كلام مجاملة مدفوع الأجر. ومديح المتنبي يكاد يكون متشابهاً غاية التشابه بصرف النظر عمن قاله فيه من الممدوحين. فهو ينحصر في أمور يكررها الشاعر دوماً من قبيل الكرم والشجاعة ونبل الأصل والعشيرة والقبيل. وقد يضيف إلى بعض ممدوحيه صفات الأدب والتعمق في فهم الشعر أو حتى فصاحة اللغة واللسان. الطريف أنَّ المتنبي لا ينسى نفسه في معرض كيل المديح لممدوحيه. إنه يكيل المديح لنفسه عامداً وفي أصرار منقطع النظير إلى إقامة نوع من التوازن النفسي والإجتماعي والإعتباري بينه وبين من يمدح (توازن ستراتيجي … بلغة العسكر). الممدوح ليس بأفضل من الشاعر. أليس هو من قال في مجلس سيده سيف الدولة الحمداني في حلب:

 

سيعلمُ الجمعُ ممن ضمَّ مجلِسُنا

بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ

 

ثم قد قال قبل ذلك وهو يمدح أبا الحسين علي بن أحمد المُرّي الخراساني:

 واقفاً تحت أخمَصيْ قَدْرِ نفسي

واقفاً تحت أَخمَصيَّ الأنامُ

 أو:

أنا الذي بيّنَ الإلهُ به ال

أقدارَ والمرءُ حيثما جعلهْ

 

جوهرةٌ تفخرُ الشِرافُ بها

وغُصّةٌ لا تُسيغها السَفِلةْ

 

أنا ابنُ من بعضُهُ يفوق أبا ال

باحثِ والنجلُ بعضُ مَن نَجَلَهْ

 

فلا مُبالٍ ولا مُداجٍ ولا

وانٍ ولا عاجزٌ ولا تُكَلهْ

((البيت الأخير يُذكّرني بالبيت الذي قاله في مقصورته الشهيرة: وإني وفيتُ وإني أبيتُ // وإني عتوتُ على مَنْ عتا)).

 

وقال حول شاعريته:

 لا تجسرُ الفصحاءُ تُنشِدُ ههنا

بيتاً ولكني الهِزبرُ الباسلُ

 

ما نالَ أهلُ الجاهليةِ كلُّهمْ

شعري ولا سَمعتْ بشعريَ بابلُ

 

وغير ذلك كثير.

نعم، نجد المتنبي الإنسان والشاعر في غزله وقد قاله في مطالع أكثر من إحدى وستين قصيدة من قصائد ديوانه المتوفر بين يدي ((ديوان المتنبي / دار بيروت للطباعة والنشر / بيروت 1980)). تغزل في أغلب المناسبات التي قال فيها قصائده، بل وتغزّل حتى في مستهل العديد من قصائد الحرب.لم يتغزل في قصائد الرثاء وكان مُحقّاً وطبيعياً أنْ لا يقول غزلاً في مواضع الرثاء. لقد أكدَّ هو نفسه منهجه في الشعر وديدنه في إفتتاح قصائده إذ قال:

 إذا كان مدحُ فالنسيبُ المُقدّمُ

أكلُّ فصيحٍ قال شعراً مُتيّمُ ؟

 أراد أن يقول أنْ ليس كل شاعرٍ فصيح اللسان قادراً على قول شعر الغزل (النسيب)، فللغزل رجاله وأحكامه وقواعده. وللغزل شروطه ومقاييسه التي لا يستطيع التحكم بها إلا فحول الشعراء ممن أُوتوا الحس العالي سواء بالجمال أو القدرة على التعبير عن لوعة المحب وعمق معاناته ثم الصدق في هذا التعبير. الغزل الحقيقي صعب ونادر خاصة إذا ما عبّر عن حالة توله حقيقية وصبابة غير مصطنعة. فإنَّ أغلب ما نعرف من غزل قديم وحديث إنما هو صناعة لفظية ورصف كلام منمّق وصياغة هوائية فارغة من حرارة التعبير الصادق الذي يعكس حرارة صدق التجربة وأصالة معاناة المحب. يحضرني في هذه المناسبة غزل عمر إبن أبي ربيعة قديماً ثم غزل نزار قباني في عصرنا. غزلهما مجرد صناعة لفظية ورسوم لصور كاريكاتيرية خالية من شعور الإنسان المُعاني وتفتقر إلى أبسط شروط التعبير الأصيل عما يجول في دواخل الإنسان المحب. الأمثلة كثيرة يعرفها القاريء الكريم كما أعرفها أنا.

ملاحظة هامة: سوف لن أقوم بشرح المفردات الصعبة التي وردت في شعر المتنبي. أترك ذلك للقاريء الكريم أن يفسرها كما يشاء هو. كما يستطيع القرّاء الكرام الرجوع إلى ديوان الشاعر للإطلاع على تفسير الكلمات الغريبة والصعبة.

 

غزل المتنبي

 قال المتنبي في صباه:

 تذللْ لها واخضعْ على القُربِ والنوى

فما عاشقٌ من لا يذلُّ ويخضعُ

 يمثل كما أحسب هذا البيت مفتاح نفسية المتنبي وموقفه من الحب الذي لم يتغير طوال سني حياته إلا قليلاً جداً. لم يتكبر على من يحب ولم يكابر ولم ينكر أو يصد سيل دموعه أو شحوب وجهه أو نحوله ومعاناته من ضنى الحب ومن صد الحبيب. لقد برع المتنبي كما لم يبرع سواه من الشعراء لا قديماً ولا حديثاً … برع في رصد ساعة الفراق وتصوير حاله وحال أحبابه المفارقين كما سنرى.

 

بمن تغزل المتنبي وكيف تغزّل ؟

 سؤال يتبادر إلى ذهن قاريء شعر هذا الإنسان المتفرّد. نجد جوابه واضحاً كل الوضوح في متن الديوان. فلقد تغزل الشاعر بنوع خاص من الفتيات وخصَّ أجزاء معينة من الجسد وركّز بشكل أخص على حالات الوداع والمفارقة فأبدع:

1- تغزّل بالصبايا والفتيات صغيرات السن (الخود والكعاب)

2- تغزل بالفتيات كبيرات الأوراك (رداح) والممتلئات الأجساد (العَبِلة والرُعبوبة والخُرعوبة والرِبَحلةْ. قال في قصيدة يمدح بها محمد بن عبيد الله العلوي: بانوا بخُرعوبةٍ لها كَفَلٌ // يكادُ عند القيامِ يُقعِدها)

3- تغزل بالشعور السود والخصور والشفاه (اللِمى) والخدود والنحور والرقاب (الطلى)

4- ذكر العيون كثيراً لكنه لم يتطرق إلى لون العيون إلاّ في قصيدة واحدة وربما في قصيدتين فقط (العيون الدُعْج أي السود). كما إنه أكثر من ذكر ملحقات العيون كالجفون والأهداب والمحاجر والأحداق والآماق والألحاظ والمُقَل.

5- شبّهَ فتياته بالغزلان والظباء والجآذر والآرام والمها والرشأ والشادن.

6- أبدع في وصف الدموع ساعة الرحيل والفراق، سواء دموعه هو أو دموع مفارقيه

7- تغزل أساساً بالبدويات أو الأعرابيات (فإنهن الآرام) وأعرض عن الغزل بفتيات المدن والحواضر (فإنهن الماعيز). فحسن نساء الحواضر مصنوع (مجلوب) أما حسن البدويات فحسن غير مصنوع (غير مجلوب)

8- خلافاً لبعض من نعرف من شعراء الحب والغزل، ما كان المتنبي ساديّاً ولا كان نرجسياً مع من أحبَّ من صبايا وفتيات. كان هو الضحية: ضحية الهوى الجارف الممض وضحية الفرقة وساعات الوداع. كان جريئاً وشجاعاً لم يُخفِ دموعه ولا ضعفه البشري.

9- كان أبداً عفيفاً مع محبوباته وكان حريصاً غاية الحرص على توكيد هذا الأمر.

 

دموع الشاعر

قلت إنَّ الشاعر لا يحرص على حبس أو إخفاء دموعه ساعة توديع من يحب. لا يخجل من ضعفه البشري بل ويعلنه نهاراً جهاراً لكأنه يستشعر الكثير من الراحة إذ يُفصح عمّا فيه من لواعج الشوق وتباريح الهوى ولوعات الفراق. يُعرب هذا العملاق صاحب (الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني …) عن كل ذلك وبكل ما أوتي من بلاغة معنى وفصاحة لسان. فلقد قال في قصيدة (أنا الغريق فما خوفي من البللِ):

أجاب دمعي وما الداعي سوى طللٍ

دعا فلبّاهُ قبلَ الركبِ والإبلِ

ظَلِلتُ بين أُصيحابي أُكفكفهُ

وظلَّ يسفحُ بين العُذرِ والعَذّلِ

 

أشكو النوى ولهمْ من عبرَتي عَجَبٌ

كذاكَ كنتُ وما أشكو سوى الكِللِ

 

وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ

من اللقاءِ كمشتاقٍ بلا أملِ

مُطاعةُ اللحَظِ في الألحاظِ مالكةٌ

لمقلتيها عظيمُ المُلكِ في المُقَلِ

 

تشبّهُ الخَفِراتُ الآنساتُ بها

في مشيها فينلنَ الحسنَ بالحيلِ

 

جمع الشاعر في هذه المقدمة الغزلية بين آلام الفراق التي بعثتها في نفسه طلول فتاته، والدموع التي شرعت تنسفح عَلَناً على مرأى نفر قليل من أصحابه (أُصيحابي)، وأخيراً ذكر ألحاظ الحبيب ومقلتيها اللتين تستعبدان فتملكان بقية المُقل. لقد إنهملت دموع الشاعر المحب إستجابة لدعوة أو ذكرى طلول أحبابه. إنهملت ما أنْ خطرت هذه الذكرى حتى قبل تهيئة لوازم السفر وأسبابه ووسائط النقل وملتزمات قصد هذه الطلول. دموع الشاعر جاهزة دوماً وعند الطلب. لا تخونه حين يجد الجد وتتهيأ ظروف وشروط البكاء.لم يبكِ المتنبي في رثائه قط.لم يبكِ وهو يرثي جدته التي تعهدته طفلا وصبياً وقامت له مقام الوالدة (قصيدة: ولا قابلاً إلاّ لخالقه حُكما). بلى، ذكر البكاء في هذه القصيدة، ولكنه بكاء سبق موتها. بكاها المتنبي في حياتها فقال:

 

بكيتُ عليها خِيفةً في حياتها

وذاقَ كلانا ثُكلَ صاحبهِ قِدْما

 

قال الشاعر في هذه القصيدة ما هو أمرّ من البكاء والدموع. قال مثلاً:

 

أحنُّ إلى الكأسِ التي شَرِبتْ بها

وأهوى لمثواها الترابَ وما ضمّا

 

رقا دمعها الجاري وجفّت جفونها

وفارق حبي قلبها بعدما أدمى

 

هبيني أخذتُ الثأرَ فيكِ من العدى

فكيف بأخذِ الثأرِ فيكِ من الحمّى ؟

 

فوا أسفا ألاّ أُكبَّ مُقبّلاً

لرأسكِ والصدرِ اللذَيْ مُلئا حزما

 

لم يبكِ الشاعر إذن في أكبر فجيعة وقعت على رأسه في حياته. لم يعرف الشاعر أماً سوى جدته هذه لأمه. لم يضعف وهو الكثير الضعف أمام من يحب ولا سيما في ساعات الفراق أو الصد والجفاء.

 

في قصيدة (غريبة الزمان) غزل فريد يجعل القاريء يشعر بمعاناة حقيقية مفعمة بدفء صدق التجربة وحرارة هذه المعاناة. فيها مزيج من الذكريات والتحذير من الإستهانة بعواقب الفراق. فيها دموع مزدوجة: دموع الشاعر ودموع المفارقين:

 

ذكرُ الصبى ومراتعِ الآرامِ

جلبتْ حِمامي قبلَ وقتِ حِمامي

 

دِمَنٌ تكاثرت الهمومُ عليَّ في

عَرَصاتها كتكاثرِ اللوّامِ

 

ولطالما أفنيتُ ريقَ كَعابها

فيها وأفنتْ بالعتابِ كلامي

 

قد كنتَ تهزأُ بالفراقِ مَجانةً

وتجرُّ ذيلي شِرّةٍ وعَرامِ

 

ليس القبابُ على الركابِ وإنما

هنَّ الحياةُ ترحّلَت بسلامِ

 

ليتَ الذي خلقَ النوى جعلَ الحصى

لخِفافهنَّ مفاصلي وعظامي

 

متلاحظينَ نسحُّ ماءَ شؤوننا

حَذّراً من الرُقَباءِ في الأكمامِ

 

أرواحنُا انهملتْ وعشنا بعدها

من بعد ما قَطَرتْ على الأقدامِ

 

لو كُنَّ يومَ جرينَ كنَّ كصبرنا

عند الرحيلِ لكنَّ غيرَ سِجامِ.

 

قال متغزلاً في مطلع قصيدة (وُدهم خداع ودينهم نفاق):

 

أيدري الربعُ أيَّ دمِ أراقا

وأيَّ قلوبِ هذا الركبِ شاقا

 

لنا ولأهله أبداً قلوبٌ

تلاقى في جسومٍ ما تلاقى

 

فليتَ هوى الأحبّةِ كان عدلاً

فحمّلَ كلَّ قلبٍ ما أطاقا

 

نظرتُ إليهمُ والعينُ شكرى

فصارتْ كلها للدمع ماقا

 

وقد أخذَ التمامَ البدرُ فيهمْ

وأعطاني من السُقمِ المُحاقا

 

وبين الفرعِ والقدمين نورٌ

يقودُ بلا أزمّتها النياقا

 

وطرفٌ إنْ سقى العُشاقَ كأساً

بها نقصٌ سقانيها دِهاقا

 

وخَصرٌ تثبتُ الأبصارُ فيهِ

كأنَّ عليهِ من حَدَقٍ نِطاقا.

 

في تسعة أبياتٍ وصف الشاعر ما تركه فيه فراق الأحبة فذكركلاًّ من: دم القلوب المُراقة، والجسوم التي لا تتلاقى، ودموع العين والمآقي، والسقم، والشعر والقدمين، والطرف، والخِصر، والأبصار، ثم الحَدَق. لم ينسَ الشاعر الملتاع والمُعاني أن يطرّز مشهد الوداع بحضور الإبل، كعادته في أغلب قصائد الغزل. الفراق والرحيل لا يكونان بدون وسائط نقل. ولأنَّ حبيبات الشاعر بدويات أبداً، فلا مكان لخيل أوحمير كوسائط للنقل في البيد والقفار. لا يكتمل مشهد الوداع في طبع المتنبي وتكوينه وشاعريته إلاّ بحضور النياق والجِمال.

قصيدة أخرى إستهلها المتنبي بالغزل الجميل المسربل باللوعة والدموع هي قصيدة (وليس بأول ذي همّةٍ 

إلامَ طماعيةُ العاذلِ

ولا رأيَ في الحبِ للعاقل

 

يُرادُ من القلبِ نسيانُكم

وتأبى الطباعُ على الناقلِ

 

وإني لأعَشقُ من أجلكمْ

نحولي وكلَّ إمريءٍ ناحلِ

 

ولو زلتمُ ثمَّ لم أبككمْ

بكيتُ على حبيَ الزائلِ

 

أيُنكِرُ خدي دموعي وقد

جرت منه في مسلكٍ سابلِ

 

أأولُ دمعٍ جرى فوقه

وأولُ حزنٍ على راحلِ

 

وَهبتُ السلوَّ لمن لامني

وبتُّ من الشوقِ في شاغلِ

 

كأنَّ الجفونَ على مقلتي

ثيابٌ شُققنَ على ثاكلِ

 

يكادُ البكاء وتكاد الدموع أن تتوارى في هذه القصيدة وتنسحب أمام روعة وإبداع الشاعر في إختياره صيغة المبني للمجهول في قوله (يُرادُ من القلبِ نسيانكم)… لا ندري مَن الذي يريد ذلك. لكن الشاعر المطبوع على الوفاء يأبى نسيان من يحب، (تأبى الطباع) وتُنكر طلب ناقل الخبر.

الشاعر في حزن دائم متصل على مفارقيه من الأحباب. إنه يسأل خده سؤالاً إستنكارياً:

أأولُ دمعٍ جرى فوقه // وأولُ حزنٍ على راحلِ ؟؟ الجواب كلاّ، بالطبع. سفره متصل ومن يفارقهم كُثرٌ. أليس هو القائل:

 

على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي

أُوجهها جنوباً أو شمالا

 

فما حاولتُ في أرضٍ مُقاماً

ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا

صوّر الشاعر في البيت الأخير محنة الإنسان وتقلبه ما بين نارين أو أمرين أحلاهما مرُّ. صور فأبدع تردد هذا الإنسان وعجزه عن إتخاذ القرار المناسب والسليم. فإذا أقام في مكان ما فإنه لا يقيم فيه إقامة دائمة، لا يستيطع أو إنه لا يرغب في ذلك (فما حاولتُ في أرضٍ مُقاما). وإذا ما أقام في مدينة أو بلد أو مكان فإنه سوف يقيم فيه أو فيها لكأنه يقيم فيه أو فيها مرةً وإلى الأبد (ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا). القلق وعجز المرء أمام ذاته وقصوره عن إدراك كنهها ومراميها. نفهم من كل هذا أو يريد الشاعر منا أنْ نفهم أنَّ مصير الإنسان الفرد ليس بيده، قدره مفروض عليه. المتنبي بارع في رصد الثنائيات المتضادة حتى كأنه قد إستوعب مقولات أرسطو الشهيرة. لقد جمع في هذا البيت ثنائية وتعارض الثبات والتحول، الإستقرار والحركة.

كذلك أبدع الشاعر في قوله (وإني لأعشقُ من أجلكم // نحولي وكلَّ إمريءٍ ناحلِ)… أعلى درجات السمو في العشق والإستعداد للتضحية وتحمل تبعات هذا العشق الذي يذوي جرّاءه الجسد وتعاني الروح منه. ثم لنلاحظ الدعابة المرحة والخفيفة في قوله (وكلَّ إمريءٍ ناحلِ)… لا يكتفي الشاعر المحب في قبوله وحبه لنحوله وضنى جسده جرّاء حب من أحب، لكنه يعلن إستعداده لبذل مثل هذا الحب لكل الناحلين سواءً أكانوا عشّاقاً أو لم يكونوا. أدمن فأحب النحول في جسده العاشق حتى إنه ليعشقه في كل من أصابه في الدنيا نحول.

جمع المتنبي في قصيدة (والدنيا لمن غلبا) مفرداته الرئيسة والمفضلّة وهو يتغزل بفتاة

أعرابية. لعلها واحدة من المرات النادرة التي لا يصف فيها الشاعر حالة وداع ومفارقة. لذا لم يذكر الإبل هنا ولا المطي ولا الركاب. طيف الحبيب يزوره ليلاً. وكما هو الحال مع أغلب أحلامنا، تمتزج أمور كثيرة لا تحدث على أرض الواقع: يدنو الحبيب حين يبعده المحب ويبتعد حين يُدنيه. يداعبه فيرفض المداعبة ويحاول تقبيله فيتأبى. أي مرار وأي حلم مرير يقضيه الحالم متجرعاً أكثر من غصّة. نرى في هذه القصيدة مفردات الدموع والعبرات والجفون والقد والريق وبياض البشرة ثم وصف المرأة بالغزال

(الشادن). نقرأ بعض أبيات هذه القصيدة:

دمعٌ جرى فقضى في الربعِ ما وجبا

لأهله وشفى أنّى ولا كَرَبا

 

عُجنا فأذهبَ ما أبقى الفراقُ لنا

من العقول وما ردَّ الذي ذَهَبا

 

سقيته عَبَراتٍ ظنها مطراً

سوائلاً من جفونٍ ظنها سُحُبا

 

دارُ الملمِّ لها طيفٌ تهددني

ليلاً فما صدقتْ عيني ولا كَذبا

 

أنأيته فدنا أدنيته فنأى

جشّمته فنبا قبّلته فأبى

 

هام الفؤادُ بأعرابيةٍ سكنتْ

بيتاً من القلبِ لم تَمددْ له طُنُبا

 

مظلومةُ القدِ في تشبيهه غُصُناً

مظلومةُ الريقِ في تشبيهه ضَرَبا

 

بيضاءُ تُطمِعُ في ما تحت حُلّتها

وعزَّ ذلك مطلوباً إذا طُلبا

 

كأنها الشمسُ يُعيي كفَّ قابضهِ

شُعاعها ويراهُ الطَرفُ مُقتَرِبا

 

مرّتْ بنا بين تِرْبَيها فقلتُ لها

من أين جانسَ هذا الشادنُ العَرَبا ؟

 

نرصد في هذه القصيدة أمرين آخرين مثيرين للدهشة: أولاهما تحرش جنسي من نوع الآيروس المكشوف (بيضاءُ تُطمع في ما تحت حُلتها)، وثانيهما إدخال الفيزياء في عالم الشعر، وتلكم ظاهرة وجدتها كذلك في أشعار أخرى قليلة للمتنبي، أعني قوله (كأنها الشمسُ يُعيي كفَ قابضه // شعاعُها ويراهُ الطرفُ مقتربا). الأمر الآخر ما ورد في البيت الأخير من مفارقة حلوة ساقها الشاعر بأسلوب رشيق حين تساءل كيف يختلط غزال (شادن) بفتيات أعرابيات ؟ أو إنه يستنكر أن يختلط غزال بأعرابيات بدويات أو كيف إستطاع هذا الغزال أن يجد له مجانسة ومؤانسة وشراكة مع من لا يشبهه في طبيعته وتكوينه وفي جنسه فإنه ينتمي أصلاً إلى عالم الحيوان لا إلى عالم الإنس. الغزال هو موضوع غزله بالطبع.

 

نقرأ في قصيدة (نفديك من سيلٍ ندي) نوعاً آخر من غزل الوداع المترع باللوعة والأسى. وكما هو متوقع، لا وداع إلاّ بحضور الإبل، لكأنما يبغي الشاعر الفنان أن يضيف جواً من الأبهة والفخامة لمشهد التوديع. فمنظر الناقة أو الجمل منظر لا شكَّ مهيب، فهما أضخم جُرماً وأعلى سمتاً من أي مخلوق صحراوي آخر عرفته العرب في صحاراهم و فيافيهم. وراكبها يضيف مهابة أخرى إلى مهابتها خاصةً إذا ضمَّ الهودجُ الركبَ. المتنبي فنان من الطراز الأول. إذ لديه حس فائق الجودة بمعنى ومغزى الفراغ الفيزيائي سواء في شعره أو في عالمه الخارجي. إنه يفهم فلسفة الفراغ من ثم لا يطيقه على الأطلاق… يخشاه… يخاف منه إستجابة لنوازع داخلية تتبطن أعمق أعماقه. جسد

الجمل الضخم يملأ هذا الفراغ الروحي الداخلي والفيزيائي الخارجي. يعادل هذا الإمتلاء المصطنع خوف الرجل الحقيقي مما يصف أمامه من مشهد فراق من يحب. إنه التوازن بين الذات والموضوع، بين عالمي الداخل والخارج يسعى إليه الشاعر بوعيه وبكل حواسه ووسائله الشعرية.

في هذه القصيدة، كما في قليل غيرها، يوظف المتنبي الخمرة وتأثيرها على البشر ولكن في معرض الغزل ووصف المتغزل بها كما سنرى. نقرأ غزل هذه القصيدة معاً:

 

جَللا كما بي فليكُ التبريحُ

أغذاءُ ذا الرشأِ الأغنِّ الشيحُ

 

لًعِبتْ بمشيته الشَمولُ وغادرتْ

صَنماً من الأصنامِ لولا الروحُ

 

ما بالهُ لاحظته فتضرّجتْ

وجَناتهُ وفؤاديَ المجروحُ

 

ورمى وما رمتا يداهُ فصابني

سهمٌ يُعذّبُ والسهامُ تُريحُ

 

قَرُبَ المزارُ ولا مزارَ وإنما

يغدو الجَنانُ فنلتقي ويروحُ

 

وفَشتْ سرائرُنا إليكِ وشفّنا

تعريضُنا فبدا لكِ التصريحُ

 

لمّا تقطّعت الحُمولُ تقطّعتْ

نفسي أسىً وكأنهنَ طُلوحُ

 

وجلا الوداعُ من الحبيبِ محاسناً

حُسنُ العزاءِ وقد جُلينَ قبيحُ

 

فيدٌ مُسلّمةٌ وطرفٌ شاخصٌ

وحَشاً يذوبُ ومدمعٌ مسفوحُ

 

يجدُ الحمامُ ولو كوجدي لأنبرى

شجرُ الأراكِ مع الحمامِ ينوح.

 

يضعنا الشاعر كعادته في أجواء الصحراء الخالصة فيذكر الرشأ (ولد الظبية في البوادي) ويذكر شجر الشيح الصحراوي وذكرَ الهوادج أو الإبل (الحُمُول) ثم قد ذكر شجر الآراك الصحراوي. فلِمَ كل هذا الهوى والتوله بالصحراء ؟ هل هو من تأثير نشأته الأولى في بادية السماوة ؟ كان الشاعر دوماً مع عالم ومناخ وأجواء البوادي. البادية للشاعر تمثل النقاء والطهارة والشجاعة، الرمال والهواء النقي، الحرية المطلقة والإمتداد الجغرافي غير المحدود، حرية الحركة وحرية الفكير والتعبير ثم الإندماج الكلي مع الطبيعة كما هي. وأخيراً الزهد في الطعام والشراب. بالمناسبة… لم يتطرق المتنبي في شعره إلى الطعام لا وصفاً ولا حاجةً ولا رغبةً إلاّ في بيت واحد من قصيدة قالها مادحاً عَضُد الدولة البويهي حين كان ضيفه في شيراز من بلاد فارس. قال المتنبي في هذا البيت ((ولو كانت دمشقُ ثِنى عِناني // لبيقُ الثردِ صينيُّ الجِفانِ)). ذكر المتنبي في هذا البيت ثريد الخبز وهو يُقدّم في قصاع من الخزف الصيني. أواني الخزف الجيد (نسميه في العراق فرفوري) ما زال الإنجليز يسمونه اليوم

 " صيني " China.لم يصف مائدة طعام ولم يتشهَّ أيَ صنف من أصنافه المعروفة يومذاك، لا في العراق ولا في بلاد الشام ولا في مصر ولا في بلاد فارس. بلى، كان قد ذكر تفاح لبنان مُشبّهاً به خدود فتاته، وذكر العنب في بيته (فإنَّ في الخمرِ معنىً ليس في العنبِ). وذكر العناقيد في بيته

(نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها // فقد بَشِمنَ وما تفنى العناقيدُ). كما ذكر نوعين من التمور المعروفة في العراق في البيت (فكأنه حَسِبَ الأسنّةَ حلوةً // أو ظنّها البرنيَّ و الآزاذا). قلت إنَّ الشاعر لم يشتهِ هذه الفاكهة ولم يطرِها كأحد ألوان الطعام مما يتناوله البشر، إنما ذكرها للمقارنة أو المبالعة أو في معرض إيراد حكمة طريفة غير مسبوقة. لقد أفرط قبله الشاعر إبن الرومي في تعداد الأكلات وأنواعها ومذاقها.كما حاول أبو نؤاس مثل ذلك ولكن بدرجات أقل.

 

قصيدة (وُلِدوا على صهواتها)

كعادته المتوقعة، وضع الشاعر أمامنا لوحةً فتّانة تتوزع على محاور ثلاثة: سرب الظباء والمها، والعيس والإبل، ثم ساعة فراق ورحيل المها والظباء على ظهور هذه الإبل ودموع الشاعر منهاراً أمام هذا الفراق. في القصيدة توكيد آخر على عفاف الرجل وطهارة ذيله وبعده عن الفحشاء. وفيها صور غير مسبوقة ولا مما قد ألفنا من شعر قديم تتوهج فيها عبقرية المتنبي وسعة وجرأة خياله الخلاّق

الذي يأسر الألباب ويأخذ بمجامع القلوب. إنه قادر على رسم صور متحركة دافئة تهز عصب القاريء هزاً وتجبره على قراءة البيت والقصيدة مراراً وبلا أدنى ملل أو تعب:

 

سِربٌ محاسنهُ حُرِمتُ ذواتها

داني الصفاتِ بعيدُ موصوفاتها

 

أوفى فكنتُ إذا رميتُ بمقلتي

بَشَراً رأيتُ أرقَّ من عَبَراتها

 

يستاقُ عيسَهمُ أنيني خلفها

تتوهمُ الزَفَراتِ زجرَ حُداتها

 

وكأنها شجرٌ بدتْ لكنها

شجرٌ جنيتُ المُوتَ من ثَمَراتها

 

لا سِرتِ من إبلٍ لو أنيَ فوقها

لَمَحتْ حرارةُ مدمعيَّ سِماتها

 

وحَملتُ ما حُمّلتِ من هذي المها

وحَملتِ ما حُمّلتُ من حَسَراتها

 

إني على شغفي بما في خُمرها

لأعفُّ عمّا في سرابيلاتها.

 

تشق إبل الأحباب رمال الصحراء ولا حاديَ يحدوها. زفرات الشاعر المحب تقوم مقام الحادي.هل تشعر الجِمالُ بعمق جرح الشاعر المودِّع ؟ هل تتضامن مع ما فيه من لوعة وحرقة كبد تتفطر ولا تطيق صبراً ولا تحملاً ؟ هكذا أشرك الشاعر عيس محبيه المفارقين بإعتبارها عناصر رئيسة من عناصر اللوحة. عناصر هي الأخرى متحركة ولكن في الإتجاه المعاكس: الإتجاه الذي يأخذ الأحباب بعيداً عن المحب. مع كل خطوة في الإتجاه المعاكس تسيل دموع. حركة دائبة ومن الحركة تأتي الحرارة وفي هذه الحرارة تكمن قوة الإقناع والإدهاش في شعر الشاعر وتصديق ما يضعه أمامنا من قول مُصوَّر. هذه القدرة على توليد الحرارة بالحركة ومن الحركة وبالصور المتحركة هي ما يرفع الشاعر إلى قمم الإبداع والعبقرية والتفرد وليس المنطق اللغوي أو الفكري وليس قوانين العقل المألوفة ولا قوانين الميكانيك الفيزيائي (قوانين نيوتن للحركة). تكمن عظمة الشاعر المبدع في قدرته على رسم صور شعرية يثبّتُ فيها الزمن المتحرك بالأفعال (تثبيت المتحرك). في حين يأخذ القاريء الإتجاه المعاكس: تحريك الزمن الثابت لحظة قراءة الشعر (تحريك الثابت). القاريء يبعث الحياة والنماء في الحبة أو البذرة القابعة تحت الأرض. إنه الحرارة والنور معاً، أي إنه الشمس. الشاعر قطب والقاريء قطب آخر تربطهما قوة تنافر وتجاذب تتجلى في محصلتها النهائية عبقرية الشاعر في خلق وفرض هذه المعادلة على قرّائه وعلى التأريخ. لكنَّ الشاعر دون القاريء القرين يكون كالزمان بدون الإنسان والإحساس الإنساني. ليس للجمادات والنباتات والحيوانات إحساسٌ بالزمن.

 

قصيدة (يا مُغنياً أملَ الفقيرِ لقاؤهُ)

في هذه القصيدة دموع أخرى يذرفها الشاعر العاشق لحظة فراق من يحب. دموع تضرب بل تلطم بشدة خدوده كما تضرب خفاف إبل المحبوب الصخر الأصم فيتهشم تحت هذا الضرب. مقابلة طريفة يجمع الشاعر فيها ما بين أمرين متناقضين: عالم البشر الناطق وعالم الحجر الجامد. كلاهما يتهافتان ضعفاً نتيجة لحركة إنتقال في المكان. نزول الدموع من مآقي إنسان عاشق والهٍ نزولاً قاسياً تتكسر جرّاءه عظام الخدود. ووطأ خفاف جمال النازحين صخورَ الطريق وجلاميده الصلدة فتتكسر هذه الصخور نتيجةً لذلك. إتجاه الحركتين كلتيهما إلى الأسفل تحت تأثير قوة الجذب الأرضي. تكسّر وإنكسار مزدوج سببه ومسببه واحد: فراق الحبيب. إرادة الحبيب بالمغادرة فرضت نوعين من الحركة هما هطول دموع الرجل المحب من جهة، وشروع إبل الحبيب بالحركة لمغادرة المكان. إنكسار معنوي وإنهيار روحي لإنسانٍ نتيجة الحركة الأولى، وتكسّر لمادة من الجماد جرّاء الحركة الثانية. لا غرابة في هذا الجمع بين ما هو حي وما هو جماد فالأصل واحد من مادة واحدة قابلة للإنكسار والتهشم. والمتنبي يعرف جيداً أنّ الإنسان قد خُلِق أصلاً من تراب كما جاء في القرآن الكريم في عدة سور ((ومن آياته أنْ خَلَقكم من تُرابٍ ثم إذا أنتم بشرٌ تَنشِرون / سورة الروم الآية 20)) ثم الآية 14 من سورة الرحمن ((خَلَق الإنسانَ من صِلصالٍ كالفَخارِ)). ومعلوم أنَّ الفَخار مادة قابلة للكسر بسهولة.

القصيدة والدموع المزدوجة: دموع الشاعر ودموع أحبابه المغادرين (الفعلان غادرَ وغدرَ) قريبان جداً من بعضهما… فالمغادرة نوع من الغدر.

 

أركائبَ الأحبابِ إنَّ الأدمُعا

تَطِسُ الخدودَ كما تَطِسنَ اليرمَعا

 

فاعرِفنَ من حَمَلت عليكنَّ النوى

وامشينَ هَوْناً في الأزمّةِ خّضعّا

 

قد كان يمنعني الحياءُ من البكا

فاليومَ يمنعهُ البكا أنْ يمنعا

 

حتّى كأنَّ لكلِ عظمٍ رنةً

في جلده ولكلِ عِرقٍ مدمعا

 

وكفى بمن فضحَ الجَدايةَ فاضحاً

لمُحبّهِ وبمصرعي ذا مَصرَعا

 

سَفَرتْ وبرقعها الفراقُ بصُفرةٍ

سَتَرت محاجرَها ولم تكُ بُرقعا

 

فكأنها والدمعُ يقطرُ فوقها

ذّهَبٌ بسمطيْ لؤلؤٍ قد رُصِّعا

 

نَشرتْ ثلاثَ ذوائبٍ من شعرها

في ليلةٍ فأرَتْ لياليَ أربَعا

 

واستقبَلتْ قمرَ السماءِ بوجهها

فأرَتنيَ القمرينِ في وقتٍ معا.

 

هنا كذلك قد إجتمعت عناصر اللوحة المركّبة الصور بالتقابلات وبالحركات المحتلفة، أعني: الإبل

(ركائب الأحباب) والغزال (الجَداية) ودموع الفرقة وحرقة الوداع. مع فارق واحد، لا رمال في هذا المطلع الغزلي، إنما هناك صخور. طريق مغادرة الأحباب طريق صخري وعر وليس طريقاً صحراوياً رملياً أملساً.

سأختتم مبحثي عن دموع المتنبي بالقصيدة الشهيرة التي ذكر فيها ولأول مرة إسمَ أحد خلفاء بني العباس في بغداد، أقصد الخليفة المتّقي. لم يذكر الشاعر في ديوانه إسم أي خليفة عداه وعلى وجه الإطلاق. قال في قصيدة (ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ):

 

بقائي شاءَ ليسَ همُ ارتحالا

وَحُسنَ الصبرِ زمّوا لا الجِمالا

 

تولوا بغتةً فكأنَّ بيناً

تهيّبني ففاجأني اغتيالا

 

فكانَ مسيرُ عيسِهمُ ذميلاً

وسيرُ الدمعِ إثرَهمُ انهمالا

 

كأنَّ العيسَ كانت فوق جفني

مُناخاتٍ فلمّا ثُرنَ سالا

 

وحجَّبت النوى الظبياتِ عني

فساعدت البراقعَ والحِجالا.

 

ليس عسيراً أن نلاحظ عناصر الفراق التي ألِفنا في شعر المتنبي: الجِمال والعيس والدموع

والظبيات.

 

كتب المتنبي كما قلت في بداية البحث الكثير من أشعار الغزل الرائعة (مطالع أكثر من 63 قصيدةً) لكنها كانت خالية من الدموع، فيما ركّزت في مبحثي الراهن على موضوعة الدموع فقط وعلاقتها بالرحيل وبوسائط هذا الرحيل (الإبل). لم يكتب الشاعر قصيدة غزلية خالصة إختص بها حبيبة واحدة بعينها كما فعل قبله الكثير من الشعراء. كان كل غزله مطالع لقصائد زمن السلم أو أوان الحروب على حد سواء.

لقد كتب الدكتور علي شَلَق قسما خاصاً طريفاً عن غزل المتنبي في كتابه ((المتنبي … شاعر ألفاظه تتوهج فرساناً تأسر الزمان / الناشر: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1982)) لكنه لم يتطرق إلى موضوع دموع المتنبي أبداً. وهنالك فروق أُخَر بين دراستي هذه وما كتب الدكتور شلق حول غزل هذا الشاعر الجبّار.

سؤالان كبيران:

يتبادر إلى الذهن سؤالان: (1) هل كان المتنبي صادقاً في قصص الحب والفراق أم إنه كتب ما كتب لإنه شاعر والشعراء يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون ؟ (2) هل كان صادقاً في ما ذرفَ من دموع ساخنة حارقة ساعة فراق الأحبّة ؟ أستطيع أنْ أُقرر وأنا مطمئنٌ لما أقول إنه كان كاذباً في كلتا الحالتين. لم يعرف في حياته إلاّ زوجه أم محسّد، التي لا يعرف الناس عنها شيئاً: من هي وما إسمها ومن هو أبوها ومتى إقترن بها ومتى أنجبت له ولده الوحيد مُحسّداً ولِم لمْ ينجبا سواه ؟؟؟؟

أسئلة كثيرة لا نعرف لها أجوبة. لقد صوّر هو نفسه موقفه من المرأة والشراب في أربعة أبيات من الشعر بالغة الدلالة، قالها في قصيدة نظمها في مصر عام 349 للهجرة، أي قبل مقتله بأقل من خمس سنوات. وعندي أنَّ موقفه هذا من الجنس الآخركان هو هو موقفه الذي إلتزمه طوال سنيِّ حياته. لنستمع إلى ما قال بشأن النساء عموماً (قصيدة خير جليسٍ كتاب):

 

غنيٌّ عن الأوطانِ لا يستخِفُني

إلى بلدٍ سافرتُ عنه إيابُ

 

وللسرِّ مني موضعٌ لا ينالهُ

نديمٌ ولا يُفضي إليهِ شَرابُ

 

وللخوَدِ مني ساعةٌ ثم بيننا

فلاةٌ إلى غيرِ اللقاءِ تُجابُ

 

وما العِشقُ إلاّ غِرةٌ وطماعةٌ

يُعرِّضُ قلبٌ نفسَهُ فيصابُ

 

وغيرُ فؤادي للغواني رميّةٌ

وغيرُ بناني للزجاجِ رِكابُ

 

تركنا لأطرافِ القنا كلَّ شهوةٍ

فليس لنا إلاّ بهنَّ لِعابُ

 

أعلن المتنبي في بيانه هذا وفي غاية الدقة الوضوح موقفه من أمري الخمرة والمرأة، فضلاً عن أمانته في الحفاظ على أسرار الناس وربما أسراره الشخصية ذاتها. لقد ظل الرجل أميناً على مبادئه الخلقية ولم يحدْ عنها قيد أُنمَلة منذ مغادرته العراق ومسقط رأسه الكوفة شاباً يافعاً لم يبلغ العشرين من عمره حتى سقوطه قتيلاً في ضواحي مدينة النعمانية بين واسط وبغداد عام 354 للهجرة في رحلة آيابه إلى وطنه قادماً من شيراز ((وغيرُ فؤادي للغواني رميّةٌ // وغيرُ بناني للزجاجِ رِكابُ)).

 على الصفحة العاشرة من كتابه مار الذكر، كتب الدكتور علي شلق ما يلي [[ روى إبن خلّكان أنَّ رجلاً إسمه حمزة بن علي " البصري… الزيادة منّي " عايش الشاعر فقال عنه ((بلوتُ من أبي الطيّب ثلاث خِلال محمودة، وذلك إنه ما كذب ولا زنا ولا لاط. وبلوتُ منه ثلاث خِلال مذمومة، وذلك إنه ما صامَ ولا صلّى ولا قرأ القرآن)) ]].

أما الأمر الثاني، دموع الفراق… فإنه مرتبط بالأمر الأول: إذا لم يعشق المتنبي ولم يورط نفسه في أية علاقة مع النساء، فعن أي فراق يتكلم الشاعر وأية دموع يبالغ في وصفها وإنصبابها على خديه ؟

ما بكى على وفاة جدته وحاضنته ومن رعته كأم. وما ذرف دمعة واحدة على وفاة أم رفيقه وصديقه وسيده سيف الدولة الحمداني، ولا على وفاة ولد سيف الدولة ولا على وفاة شقيقتيه. فهل يريدنا أن نصدق دعاواه في العشق والفراق ودموع التوديع ؟؟ كان الرجل رائعاً في كذبه ذاك كما، كان رائعاً في تمثيل الدور الذي لعبه عاشقاً مُتيماً مكسور الفؤاد شارد اللب ضامر الحشا نحيل الجسم شاحب الوجه. إنه ممثل عالمي يكاد يعزُّ نظيره في عالمي الشعر والتصوير والتمثيل.

 

المتنبي وهوس الجَمال

كان المتنبي مهووساً بجمال وجوه البشر إناثاً وذكوراً. وكان يستهويه من الرجال من كان صبوح الوجه وسيماً مشرقاً أبيض البشرة. وتحضرني في هذا المقام خمسة نماذج من هؤلاء الرجال: سعيد بن عبد الله بن الحسين الكلابي المنبجي حيث قال فيه

 

يلوحُ بدرُ الدجى في صحن غُرّتهِ

ويحملُ الموتُ في الهيجاءِ إنْ حملا

 

والثاني الحسين بن إسحق التنوخي، وقال فيه

 

ورِقّةُ وجهٍ لو ختمتَ بنظرةٍ

على وجنتيهِ ما انمحى أثرُ الختمِ

 

أذاق الغواني حُسنُهُ ما أذَقنني

وعفَّ فجازاهُنَّ عنّي على الصِرمِ

 

والثالث هو أبو الفرَج أحمد بن الحسين القاضي المالكي، قال فيه

 

وما حارت الأيامُ في عُظمِ شأنهِ

بأكثرَ مما حارَ في حسنهِ الطرْفُ

 

والرابع هو بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، قال فيه

 

تجلّى لنا فأَضأنا بهِ

كأنّا نجومٌ لَقينَ سُعُودا

 

وقال في بدر في قصيدة أخرى:

 

أرى حُللاً مُطوّاةً حِساناً

عداني أنْ أراكَ بها اعتلالي

 

وهَبكَ طويتها وخرجتَ عنها

أتَطوي ما عليكَ من الجمالِ ؟

 

أما في سيف الدولة فقد قال شعراً فيه حب حقيقي سافر و (غَزل) فائق الجودة وأفرط الشاعر في تشبيه وجهه بالشمس تارةً وبالقمر تارةً أخرى. فمما قاله فيه:

 من قصيدة (يا مَن يُريدُ حياته لرجالهِ)

 

يا أيها القمرُ المباهي وجهَهُ

لا تُكذبَنَّ فلستَ من أشكالهِ

 

ومن قصيدة (لا رزقَ إلاّ من يمينك)

 

أطعتُ الغواني قبلَ مطمحِ ناظري

إلى منظرٍ يَصغُرنَ عنهُ ويَعظُمُ

 

ومن قصيدة (الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني) الشهيرة

 

ما لي أكُتّمُ حبّاً قد برى جسدي

وتدّعي حَبَّ سيف الدولةِ الأممُ

 

إنْ كان يجمعنا حبٌ لغُرّتهِ

فليتَ أنّا بقْدر الحُبِ نقتسمُ

وقال يمدحه في قصيدة (مَلَك القلوبَ والزمان)

 

وبمهجتي يا عاذلي الملِكُ الذي

أسخطتُ أعذلَ منكَ في إرضائهِ

 

إنْ كانَ قد مَلَكَ القلوبَ فإنّه

ملكَ الزمانَ بأرضهِ وسمائهِ

 

الشمسُ من حُسّادهِ والنصرُ من

قُرنائهِ والسيفُ من أسمائهِ

 

أما في قصيدة (الشمسُ تكسبُ منك نورها) فقد قال

 

تكسّبُ الشمسُ منكَ النورَ طالعةً

كما تكسّبَ منها نورَه القمرُ

 

هذه مجرد أمثلة وما زال في الديوان منها الكثير في التغزل بجمال وجه سيف الدولة الحمداني.

قلت إنَّ المتنبي الشاعر والإنسان كان مفتوناً بجمال الوجوه حدَّ الهوس. فلقد تتبعه حتى فى وجوه الموتى إذ قال واصفاً وجه والدة سيف الدولة المتوفاة:

 

صلاةُ اللهِ خالِقنا حَنُوطٌ

على الوجهِ المُكّفنِ بالجمالِ.

ألانرى في هذا البيت صورة قناع الموت الذهبي للملك الفرعوني توت عنخ آمون ؟؟

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com