دراسات نقدية

قوة الحب في القصة المغربية الجديدة

قراءة عاشقة لنصوص "أنطولوجيا الحب"

 

محمد سعيد الريحاني / المغرب

1- تمهيد:

"الحاءات الثلاث" مشروع إبداعي وتنظيري يهدف إلى التعريف بالقصة المغربية القصيرة عبر ترجمتها للغة الإنجليزية ثم نشرها ورقيا باللغتين العربية والإنجليزية، كما يتقصد التأسيس لمدرسة مغربية قادمة للقصة القصيرة من خلال المشترك المضاميني والجمالي المُجَمَّعِ بين النصوص الخميسين للكاتبات والكتاب الخمسين المشاركين في المشروع الأنطولوجي والموزعين على ثلاثة أجزاء:"أنطولوجيا الحلم المغربي" و"أنطولوجيا الحب" و"أنطولوجيا الحرية ".

 ومواكبةً لنصوص الكتاب المحتفل بهم، أسَّسْنَا وواظبنا على تقليد أدبي انطلق مع الجزء الأول "أنطولوجيا الحلم المغربي" وذلك بإعداد قراءة " عاشقة" للنصوص المشاركة توضح المنظور الذي على ضوئه ستترجم النصوص كما تعمل على تقريب النص للقارئ من خلال تسليط الضوء على المشترك الجمالي والمضامين الذي يبحث بين شتات النصوص الخمسين عن الخيط الرفيع القادر على المساهمة في تصميم النموذج القصصي للكتابة الغدوية ولكتاب الغد.

ولأن هدف المشروع الأنطولوجي الحالي هو التأسيس لقصة قصيرة مغايرة، فقد كان من باب الانسجام مع الخطاب أن تكون القراءة الموازية له قراءة "عاشقة" وليس قراءة "نقدية" نظرا لارتباط الأولى، القراءة "العاشقة"، بالانتماء للنص بينما تلتزم الثانية، القراءة " النقدية"، المسافة اتجاه النص. ولذلك تبقى القراءة "العاشقة" رفيقة مراحل التأسيس عبر كل عصور التاريخ التنظيري والإبداعي بينما تأتي القراءة "النقدية" بعد توفر التراكم وتنامي الإرث وذلك لتشذيب الخطاب وتقوية خط الإنتاج الإبداعي وعقلنته.

 

2- الحب في أنطولوجيا العاشقين المغاربة:

 تتوزع نصوص "أنطولوجيا الحب" بين ستة محاور يتدرج فيها مفهوم الحب "تنازليا" من:

أ * الحُبُّ أسطورة جميلة.

ب* الحُبُّ رؤية للوجود.

ج* الحُبُّ ذاكرةً سعيدة.

د* الحُبُّ مُخَلّصاً من ورطة الحاضر.

ه* الحُبُّ مُتَخَلّى عنه.

و* الحُبُّ مَيّتاً.

وتبعا لذلك تتدرج نصوص الأنطولوجيا من نصوص الحب الأسطوري المنتصر لقيم الحب النبيل في نص "كيوبيد والشيطان" لمحمد فري و نص "تانيت" لفتيحة أعرور و نص "عاشق أخرس" للحبيب الدايم ربي؛ إلى نصوص الحب الصوفي القائم على التوحد بالإرادة والحبيبة والكون كما في نص "حب" لأحمد الفطناسي و نص "عاشق" لمحمد سعيد الريحاني و نص "لازمة المحنة" لمحمد اشويكة ونص "من السماء إلى الأرض" للتيجاني بولعوالي؛ إلى نصوص النوستالجيا والحنين لماضي الحب السعيد كما في نص "أحلام طاميزودا" لإدريس الصغير ونص "إيقاع الدائرة" إسماعيل غزالي ونص "قبلات" لمحمد نبيل؛ إلى نصوص السعي للخلاص بالحب من ورطات الحاضر كما في نص "حبيبة الشات" لعبد الحميد الغرباوي و نص "قصة حب" لسعاد الناصر(أم سلمى) ونص "هاجس الحب" لمحمد التطواني؛ إلى نصوص لا جدوى الحب في المحيطات غير السليمة كما في نص "عاشق من زمن الحب" لهشام بن الشاوي ونص "حب على الشاطئ " لهشام حراك ونص "ومضة" لزهور كرام؛ وتختم الأنطولوجيا العاشقة جولتها بنصوص التيه العاطفي والمأزق الوجودي وموت الحب كما في نص "حالة شرود" لرشيدة عدناوي، نص "الوشم" لنهاد بنعكيدة، ونص "هي والسكين" لسعيدة فرحات، و نص "بلا عنوان" لأسماء حرمة الله ثم نص "ولادة" لوفاء الحمري.

 

3- قراءة لنصوص "أنطولوجيا الحب":

1. محمد فري،"كيوبيد والشيطان":

هذا النص هو أحد أقصر النصوص المشاركة في " أنطولوجيا الحب"، الجزء الثاني من "الحاءات الثلاث" مختارات من القصة المغربية الجديدة، لكنه استطاع بمهارة التركيز والتكثيف الإمساك بأهم قوى الحياة والفعل في الوجود برمته: الخير والشر. ولأن هاتين القوتين متضاربتان ومتصادمتان فقد صار النص ذاته ساحة معركة بالسهام بين كيوبيد، ملاك الحب، والشيطان، سَيِّد الفتن:

» - " أنت أيها الطفل الغرير..خسئت إن ظننت أن سهامك تفتح القلوب إلى المحبة..."

لم يعره "كيوبيد" اهتماما..اغتاظ الشيطان من لامبالاة الملاك... وسدد رمحه نحوه يريد به " شرا".

ارتفع الملاك قليلا إلى الأعلى فمر الرمح من أسفل دون أن يمسه... وبهدوء أمسك بقوسه وزرع فيها سهما سدده نحو صدر الشيطان...«

ولأن الإبداع لا يكون إبداعا إلا بانتصاره للقيم الإنسانية العليا، ينتصر النص للخير وللحب ولكيوبيد على حساب الشر والفتن:

 » ارتفع الملاك قليلا إلى الأعلى فمر الرمح من أسفل دون أن يمسه... وبهدوء أمسك بقوسه وزرع فيها سهما سدده نحو صدر الشيطان... قهقه هذا الأخير وهو يبصر السهم متوجها إليه... تلقاه بصدره هازئا واثقا من خلوده... مثل اللمحة اخترق السهم صدره وأصاب قلبه... فجأة شعر الشيطان بخفقان لم يعهده من قبل..وأحس أن ذخيرة الشر تتناقص بداخله..وبحركة لاواعية تحسس قرنيه فلم يجد لهما أثرا... ثم التقت خلفه فشعر بجناحين أبيضين ينبتان بظهره.«

 

2. فتيحة أعرور،"تانيت":

نص "تانيت" يدور حول عجوز،"توذا"، أكلتها العزلة والغربة بعد رحيل الحبيب لتواظب على زيارة قبره طلبا للمؤانسة فيتَحَقَّقُ لها حلم الأحلام: العودة للصبا وانبعاث الحبيب وتحقق المنى...

يبدأ النص بتصوير معاناة "توذا" من الغربة "بين البشر":

"جالت بعينيها في أرجاء القرية، بصرها ما عاد يسعفها في تبين ملامح العابرين، حتى أحفادها لم تعد تميز بينهم، نهضت بخطى متثاقلة نحو الربوة، يد خلف ظهرها والأخرى تمسك بعكازها أو "رجلها الثالثة"، تسميه كذلك نكاية بنفسها تارة وسخرية من القدر أخرى!.

 ينتابها إحساس بالانتماء إلى عالم لا تربطها به أي صلة.

- تباً.. كل شيء تغير!.

تجد متعة لا توصف لما تقصد "قِبلة الحب"، هكذا يحلو لحفيداتها وصف المقبرة مازحات..

 - جدتي ذاهبة إلى "قبلة الحب"!.

 - تعتقدين أنها ماتزال تحب جدي فعلاً؟.

وكيف تفسرين ارتباطها بذلك العالم أكثر من اهتمامها بأمرنا؟!"

 

ولأن الغربة بين البشر تقتضي البحث عن موطئ قدم في عوالم أخرى، فقد اختارت الشخوص الالتحاق بالآلهة. وقد بدأت أول خطوة في هذا الاتجاه مع مغازلة"إيدَّر" الفتى العاشق ل"توذا" بحكاية القصة التي كانت وراء زواج كبير الآلهة (=الذي يتماهى"إيدَّر" معه) و"تانيت" ربة الخصب (=التي يريد "توذا" أن تكونها)، مستثمرا لحظة سقوط الدلو من يدها، يد "توذا"، ليقارن الحادث ذاته بالفأل الحسن الذي جمع بين "تانيت" وكبير الآلهة:

"ارتبكت فسقط الدلو من يديها.

- فأل حسن!.

- لِــمَ؟!.

 - لقد اندلق الماء من يديك في حضرة رجل..

ابتسمت ثم سألته:

- ماذا يعني ذلك؟

- اسألي نساء القرية عن حكاية المطر والإلهة "تـَانيتْ"!.

لا أعرف عنها شيئاً..

- "تـانيت" هي إلهة الخصب في معتقدات أجدادنا، تحكي الأسطورة أنها كانت تعشق ابن كبير إحدى القبائل حد الجنون، غير أن كبير الآلهة مذ رآها في أصيل ذات يوم تسبح عارية في البحيرة، هام حباً بها فطلب يدها للزواج، ولما أعرضت عنه، منع نزول المطر انتقاماً.

 قصد سكان القرية "تـانيت" يتوسلونها لتقبل به زوجاً حتى يزول غضبه، وكان أن ضحت بحبها ووافقت على الزواج، سقطت الأمطار في تلك السنة غزيرة على نحو غير مسبوق، ومنذ ذاك الحين أصبح اندلاق آنية الماء من أيدي العذارى رمزاً للحب ووعداً بالزواج."

 قصة حب "توذا" و"إيدَّر"، إذن، تروى على خلفية قصة الحب لدى الآلهة، ما بين "تانيت" وكبير الآلهة. وعلى هذا الأساس قدم الفتى العاشق "إيدَّر" لأصدقائه على أنها ربة الخصب، "تانيت":

"قال محدثاً أحد رفاقه:

- "تُـودا" * تشبه عروس المطر، ليتك تراها يا رفيقي! "

 وعلى هذا الأساس أيضا، كانت "توذا" ترى في"إيدَّر" صورة كبير الآلهة المعصوم من الموت ما دامت الآلهة لا تموت كما ألمحت إلى ذلك في ختام النص:

"فجأة أحست "تودا" وكأن صباها عاد إليها، أزاحت عكازها جانباً، رأت نفسها تمشي قبلة الجبل حيث ترجل فارس عن صهوة جواده، لما اقترب منها أشاح بطرف برنسه الأبيض على كتفه اليمنى، أمسك بيديها.. اختلط حزنها بالفرح.. رمت بنفسها في حضنه وانفجرت باكية:

- قلت للجميع أن "إيدر" لم يمت ولا أحد منهم صدقني!"

 الحكاية "ذات مسحة إلهية" ولا تحكى للبشر الذين تشعر بالغربة معهم "توذا"، الساردة التي تتصرف كصورة مكسورة ل"تانيت". فالقصة تحكى بطريقتين في منأى عن البشر: الطريقة الأولى، بالتذكر واسترجاع الإحداث والذكريات مع "إيدَّر"؛ و الطريقة الثانية، بالشكوى ل "إيدَّر" وتذكيره بالماضي السعيدة والبدايات الجميلة.

إن ما تنشده "توذا" في أعماقها هو الالتحاق بالآلهة والتعالي عن البشر والزمان والمكان وعن الموت والشوق والغياب. وقد تحقق لها طلبها في نهاية النص، فقد صارت "ربة للخصب". ولأنها ارتقت إلى مكانة الآلهة، فقد عاد لها حبيبها، "كبير الآلهة".

التشبيه بين قصة حب البشر على الأرض وبين قصة الحب لدى الآلهة في الأساطير الأمازيغية أعطى للنص بعدا رمزيا عميقا بحيث صارت الشخوص والأحداث تطالها مسحة إلهية وأسطورية فصارت الشخصيتان المركزيتان في النص تتصفان بصفات إلهية وأهمها: الحياة الأبدية (المناعة ضد الموت) والشباب الدائم (الحصانة ضد الشيخوخة). ف"إيدَّر"، الشاب المقاوم البطل الذي قتله المعمر، ينبعث من جديد عند ختام النص وهو في عز شبابه؛ و "توذا"، العجوز المهمومة، تُرْجِعُ حلقة الزمن سنين إلى الوراء وتعود إلى صباها وقوة عشقها وأزهى لحظات عمرها.

 

 3. محمد اشويكة، " لازمة المحنة":

نص "لازمة المحنة"، في "محنته" سعيا للإمساك بحقيقة الحب، يجد نفسه في انزياحات مستمرة: ثارة عن التجنيس الأدبي وثارة أخرى عن مفاهيم الحب لدى العامة وذلك بتجريب محاولات إقلاع نحو الحقيقة أسماها "أبجديات" ما دامت غير مكتملة المفهوم:

"هل توصلتِ معي إلى تعريف الحب؟ أم أن المُعَرَّف لا يُعَرَّف؟

الحب لذة...

الحب مثالية...

الحب عواطف روحية...

الحب حكمة...

الحب امتداد نحو التجسيد... نحو الجسد...

الحب تحيين لماضي الذوات البشرية...

الحب ارتقاء نحو عوالم خالدة أزلية... نحو جمال الأفعال الجميلة... صعود نحو الأرواح الجميلة... تذوق لكل الأجساد الجميلة... انزياح نحو المطلق الخالد... نحو الامتلاء والتمام والكمال... تصوف دون تقشف... شبع دون جوع... ارتواء دون عطش..."

إذا كان النص الإبداعي هو محاولة لإيقاف الزمن والإمساك باللحظات الهاربة، فإن نص "لازمة المحنة" لمحمد اشويكة لا يكترث لإيقاف الزمن بقدر ما يهتم بالحفاظ على إيقاعه وتخليد لحظات الحب الحاضر السعيد والإبحار بالحب في الزمن نحو اللانهاية.

مستعينا بالاستعارات، يقلع نص "لازمة المحنة" نحو آفاق أخرى لأشكال أخرى أرقى من الرعشة الجسدية والحب الجسدي فتتحرر مفاهيم الحب تحت فعل الأسئلة الحرة لتنتج مفاهيم صوفية للحب :

"ماذا عسانا فاعلون أمام قسوة العشق هاته؟ نتآلف ونتخالف، نتحالف ضد الذوات الشريرة، نتآسر ونتجاسر، نكسر الطعنة الطائشة... عظمي عظمك، قلبي قلبك... لنضخ دما واحدا... ونفكر بطرق متعددة عنيدة... هذا الثالث منا: ما أروعه! "

إذا كان النص القصصي في التصور الأدبي الشائع يرتكز على تطور الأحداث، فإن نص "لازمة المحنة" يرتكز أساسا على ارتجال خواطر في الحب والهيام وتطويرها لتصبح تصورات ومفاهيم متقدمة في العشق والغرام. هذه الخواطر والتصورات النامية عبر متواليات النص تصبح في النهاية هي شخوص النص المحورية وأحداثه في آن مستفيدة من التبويب والتصنيف العالي الدُّقة الذي ضَمَنَ رُقِيَّ المفاهيم المُقَدَّمَة عن الحب نحو الخلاص، نحو المطلق:

 "الحب ارتقاء نحو عوالم خالدة أزلية... نحو جمال الأفعال الجميلة... صعود نحو الأرواح الجميلة... تذوق لكل الأجساد الجميلة... انزياح نحو المطلق الخالد... نحو الامتلاء والتمام والكمال... تصوف دون تقشف... شبع دون جوع... ارتواء دون عطش..."

 

 4. محمد سعيد الريحاني،"عاشق":

النص لوحة سردية بتقنية "المشهد". إنه لحظة استمتاع حالمة وخواطر جميلة ورؤى بديعة. ولأن السارد "عاشق" من البداية حتى النهاية، فلم يكن في وسع النص أن يعرف هزات سردية كتلك التي تكون وراءها "العقدة" في السرد التقليدي كما لا يمكنه أن يقول سوى الحكمة ولا يرى إلا الحقيقة ولا يعيش إلا العشق. ولذلك كان المعجم المُشَغَّلُ فنيا في هذا النص هو معجم حسي:

 » يدك باردة ! «

» نبض جذع الشجرة في ضلوعي يذكرني بالحكمة«

» نبض الشجرة يسري في جذعي يدفق قوي جديدة في شراييني، يقويني، يكبرني.«...

العشق هو بداية الشعور بتجربة الحب ولكنه أيضا بداية الشعور بحقيقة جديدة. وهده الحقيقة الجديدة التي أمسك بها النص قبل نهايته هي أن "الحب هو لغة الكون وأعظم قوانينه، إنه ضامن التناسق والحياة والإشعاع والطاقة":

» الليل يلعق اختلاط الألوان في الأفق حيث بدأت النجوم سباقها بحتا عن موقع على رقعة السماء. النجوم تتغامر من على بعد سحيق. النجوم ليست كما كانت تبدو لي دائما: مجرد جمرات كبيرة تحوم في سواد الكون. للنجوم هذه الليلة، حياة أخرى خفية تنبض عشقا وغراما، فالنجوم الأكثر لمعانا كتلك النجمة الوحيدة هناك هي في الغالب نجمتان كما يقول علم الفلك الحديث: نجم برتقالي ونجمة زرقاء. نجمان يرتبطان بجاذبية خفية تشد هذا لتلك فيدوران حول بعضهما البعض في غزل صامت، مضيء... ربما النجوم لا تضيء إلا لكونها تعيش حبا. وربما لولا الحب لانطفأت جذوتها وتناثرت في الفراغ كباقي النجوم المحرومة، نيازكا وشهبا...

 أنا الآن أستمتع بوميض النجوم وعشقها، عشق عمره الآن آلاف السنين بين نجوم على بعد آلاف السنين الضوئية... تلألؤ النجوم يزين السماء ويضفي على ميكانيكية حركة الأجرام السماوية بعدا غراميا. « 

 

5. التيجاني بولعوالي،" من السماء إلى الأرض"

يتكون عنوان نص "من السماء إلى الارض" من كلمتين: "السماء" (=المثال) و"الأرض" (=الواقع) لكن العنوان يركز تركيزا خاصا على الاتجاه "مِنَ" الأعلى "إلى" الأسفل. إنها رحلة من الأعالي، من الذاكرة السعيدة، إلى واقع الانضباط اليومي المكرور. الذكرى الهاربة التي تؤججها "لُونْجَا" الحبيبة التي تجعل من السفر في الحافلة سفرا في الأعالي، في "السماء"؛ ومن حب الأنثى حبا للكون وللطبيعة؛ ومن تأمل الحب والطبيعة والكون تأملا للذات وتحريرا لها:

" تهاتفني من خلف القناع ولا أراها. تتجول رفقة الدجى. تسامر جنوني حين أتطرف. أتقلد خطى أفلاطون في سموه وتقول فيحسبها الجالس جنبي موجا ليليا...

 بين تضاريس الوجود أدرك هويتها وفي تجاويف السماء ألمح قدها الفاتن فتسحرني وتخلبني نكهته فأترنح وأذوب على زجاج النافذة الذي هو متكأ رأسي منذ حين لأراها تتراقص في بؤبؤي عيني وفوق أنوار "تفرسيت" المتموجة...

 - فيم تتأمل؟

- في ذاتي. في هذا الخلق المنظوم."

 

6. أحمد الفطناسي، "حب"

نص "حب" يتمحور حول البحث عن "ثمار الحب"، عن الذرية والأولاد قصد الاستمرارية. ولذلك، تلجا المرأة المحرومة من الخصوبة، على طريقة الدودة التي تعتكف في محرابها ليال لتحقيق حلمها في أن تصبح "فراشة"، إلى خلوة الولي الصالح والتوحد بالشجرة المباركة وهي كلها إصرار على التخلص من "التابعة" و"سوء الحظ" الذي لازمها دون سائر النساء:

" خطت المرأة بخطوات متثاقلة اتجاه شجرة التين المباركة، والمحاذية لخلوة الولي الصالح المقيم بقبة رأس الجبل، وقبل أن يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض قامت بتطهير جسدها بالماء"

" الشجرة السامقة بفروعها قرب البيت مزينة ب.." التابعة " حيث الأحزمة والملابس الداخلية لنسوة رقص الحظ و"الزهر" بعيدا عنهن، ولم يسعدن بذرية تنسيهن ملاذ الوحدة، وتبقي على فرع سامق كفرع الشجرة المباركة..."

" أعادت قراءة التعاويذ ذاتها في حين أمسكت بيدها فرعا من فروع الشجرة المباركة..كانت تسر لها بمآل الروح المتمردة داخلها في حين تطلي الوريقات الجافة حوضها تعبيرا على اكتمال لا ينتهي،.. لكنها أصرت على إتمام لحظة السكينة للنهاية، خصوصا أن دفء المكان حول جسدها لكوة نار متقدة..

أعادت تلمس خديها مرددة نفس التعاويذ والتي تحفظها عن ظهر قلب..مدت يدها لأقرب غصن ممتد، شدت بقوة متحملة آلام شوك وريقات الشجرة المباركة، تملكتها رعشات اللذة حتى أمست تقلب حاجبيها، وعندما حلت سكرات الحب الجارف، حلت قشعريرة الجسد مكان الألم، حينها أحست بسائل ساخن يسيل بين فخديها..كانت لحظتها تسمع نفس النداء للمرة الأخيرة : «متعة السريرة في توحد الروح بالشجرة المباركة»".

 

7. الحبيب الدايم ربي،"عاشق أخرس":

يفتتح النص بطلب شرح لغوي لمفردة " خرساء ". لكن السائل العادي الساعي للمعرفة سيصبح "رجلا ثقيل الظل " نظرا لثقل الذكريات التي أيقظتها الكلمة في وجدانه وأعادته لتجربة عشق أخرس كان هو بطلها ولقصيدة كان، هو أيضا، شاعرها:

» رجل ثقيل يسأله من غير مناسبة عن معنى كلمة "خرساء" التي ابتدأ بها شاعر مجهول قصيدته(...) فرد في حرج: خرساء من لا ترد، أو بالأحرى من تتعمد عدم الكلام«.

نص "عاشق أخرس" هو نص حول الحب من جانب واحد. فحين يكون أحد الطرفين أخرسا أو أصما، لا يتبقى للحبيب سوى ثقافة العين والتلصص على الحبيبة بين أعواد حقول القصب:

» في صمت كان يتلظى بحبها. يترصدها من بعيد كي يتأمل الجرة تلامس شعرها الجموح كلما قصدت عين الماء للسقيا. العشق مذلة. وهو حين يأتي من أخرس يغدو فعلا أقرب إلى الشناعة. كان قد أوغل في التيه. عيناه بوابتان لقصيدة مخلعة الأوزان صماء، والجمال المترجل أمامه، متثنيا، سبحان الخالق الناطق. كأنما كانت صاحبته على غيمة تخطو، خفيفة، رشيقة، صموتة. تعبر التلة في ذهاب وإياب. لم يعد قلبه يطاوعه ليبقى نائيا، يتأمل “خرساءه ” من خلل سد القصب. ما صار السر واحدا وإنما غدا اثنين وثالثهما عاذل قد يقتحم المشهد مدعيا الاستفسار عما قاله شاعر مزعوم في الحبيبة. والحبيبة، مهما صدّت، هاهي تقترب، لم تعد بدورها قادرة على الصمود أكثر.

ولأنها كانت مثله خرساء فقد ناولته جعبة قصب كي يسكب فيها هواه. ففعل. انذرفت دموعه فوق القصبة فخرمتها سبع خرمات. وعلى مدى أيام الأسبوع، ومنذ كان الماء والقصب، راحت النايات، كلما هبت الريح، تشدو بأنغام شجية يزعم العواذل أنها لعاشق أخرس يلوذ بحقول القصب! « 

 شعرية هذا النص تكمن في انسجامه الداخلي وتوحد شكله بمضمونه. هذا "التوحد" الذي يبدأ مع بداية النص المثقل بعبارات "الثقل": "رجل ثقيل الظل"، "آخر ثقيل السمع"، "رجل ثقيل"...

هذا "الثقل التقديمي" أثر ماديا وفنيا على النص الذي بدأ "موضوعيا" بضمير الغائب ثم غاص تحت "تأثير الثقل" في الذاتية وضمير المتكلم والفلاش باك ثم غرق في الختام في الأسطورة حيث صارت قصة العاشق الأخرس جزء لا يتجزأ من أساطير العشق ووجدان العشاق.

 

8. سعاد الناصر، "قصة حب":

نص "قصة حب" لسعاد الناصر يبدأ بمقابلة صحفية مع مساجين الرأي وينتهي بقصة حب وزواج:

"التقيته في السجن حين كنت أجري مقابلة صحفية مع مساجين الرأي، لفت نظري بهدوئه وابتسامته التي تضيء وجهه كله, وحين أبديت استعدادي لتوفير بعض الطلبات لهم في زيارة قادمة، لم يطلب سوى مجموعة من الكتب, اكتشفت بعد ذلك أنه مثلي يقرأ بنهم كبير, يحاول بفعل "اقرأ" إعادة تشكيل واقع انحرف عن مساره. وسقط في مستنقعات التخلف والتهميش, ومنذ ذلك اللقاء عرفت أن القدر مهد لاجتماعنا بعناية فائقة".

 النص يُحْكَى على لسان ساردة أنثى أريد لها أن تكون "رسول المحبة" لكنها، عكس كل نظرائها من الرسل والمرسلين، تحولت من "رسول محبة" إلى "موضوع حب وزواج"، زواج حبيبين كل منهما خارج من سجنه: هي خارجة من تجربة زواج فاشلة ("عبودية الأنثى") وهو خارج لتوه من السجن (استعباد ذوي الرأي الحر). الصورة إذن هي صورة "زواج الأحرار"، زواج الأنثى المُحَرَّرَةِ من صاحب الرأي الحر.

وقد "سبق" قرارُ إعلان الحب قرارَ العفو الرسمي عن المساجين. وهذه هي رسالة النص: "لو تسلح الناس بالحب، ما كان هناك أَسْرُ أو سجون أو سجانين".

تقنيات الحكي تستمد ديناميتها من مهارة استعمال "ثنائية" عنف الماضي ونعيم الحاضر:

- متوالية تذكر البدايات.

- الفرح بنعيم الحاضر.

- متوالية اللقاء والتعارف.

- الفرح بنعيم الحاضر.

- متوالية الذاكرة وعنف الماضي.

- الفرح بنعيم الحاضر.

- متوالية الإفراج عن السجناء وإعلان الحب والزواج.

- الفرح بنعيم الحاضر: " ومثل زهرة في مهب الريح ارتعشت أغصاني وغاصت في كونه الناري. وغدوت سوسنة تسكن ومضات طيف مشرق، ترشف بين الومضة والومضة زلال فيض ملائكي الإيقاع..."

ثنائية عنف الماضي ونعيم الحاضر هذه "جسدت شكليا مضمون النص العاشق" كما جعلت من شكل العرض القصصي شكلا لعرض "طانغوTango/" راقص حيث إذا غاب أَحَدُ الثنائي الراقص أو انسحب، بَطُلَ الرَّقْصُ وجُمِعَتِ الآلاتُ وانْسَحَبَ العازفون.

 

9. إدريس الصغير، " أحلام طاميزودا":

أجمل ما في البداية، أي بداية، هو ذاك الحلم الجميل بالغد الجميل الذي تبشر به وتصنع مساره. وفي المقابل، أهم ما في النهاية، أي نهاية، هو تلك اليقظة المفاجئة من غفوة طويلة أو نسيان ثقيل، يقظة تحرك مجاري الذاكرة وتصالح الفرد مع ذاته وذاكرته وحقيقته. ولعل موت الأحبة هو أقصى أشكال "اليقظة المفاجئة" ونص "أحلام طاميزودا" يرسم بفنية عالية هذه اليقظة.

 يبدأ النص كأغلب النصوص القصصية بالسرد بضمير الغائب المتجرد الموضوعي العارف بدواخل وأسرار الشخوص الأصم اتجاه المعاناة الفردية... لكن ما أن تحمل الحبيبة على المحمل وتأخذ وجهتها نحو المقبرة حتى يلقي السارد على الأرض بكل الأقنعة والأدوار السردية ويتحرر من كل تجرده وموضوعيته ليعلن "بضمير المتكلم" أنه هو الحبيب وأن الراحلة هي الحبيبة وأن النص ما هو إلا ذكرى قصة حب كانت لاهبة:

» كانت اللقاءات هنالك، في خلوة عن العالم، عن كل العالم. بعيدا عن الحروب، وعن الدمار وعن الدسائس وعن كل المخلوقات. ترى لماذا اخترنا بالضبط ذلك المكان؟ الم يكن الرومان يشقون عباب نهر سبو بسفنهم المحملة بالمؤونة ليرسوا بها في طاميزودا؟ الم يحبوا هنا؟ ألم يحترقوا بلظى الأشواق، و طول النأي، و المعاناة المؤلمة لهذا الحب الأزلي؟

أين أنت اﻵن ؟ اﻵن أرى جسدك مسجى على المحمل، مغسولا، بعطر الجنان. أراك محمولة فوق الأكتاف، ليشق مسمعي، العويل، و الصرخات الرعناء. اليوم لا أملك سوى الذكرى، اليوم أعود عند الغروب منكسرا، أيمم نحو مدينة كئيبة تغفو مجهدة، لتنكمش على أحزانها الدائمة. «

 

10. إسماعيل غزالي،"إيقاع الدائرة":

على طريقة "الثقوب السوداء" في الكون الخارجي، يشتغل نص "إيقاع الدائرة" لإسماعيل غزالي. في هذا النص، تتخذ الدائرة "قوة جاذبة عظيمة" لكنها جاذبية سردية فنية تسمح بالغوص في الماضي ومعانقة الذكريات والمصالحة مع الأعماق. وتبقى "الدائرة" تقنية فعالة في حصر الانتباه وتقوية التركيز على دائريتها قبل استدراج القارئ إلى مجاهل بئرها الداخلي، بئر الدائرة العميق، والغوص في أعماقه:

" إنهم ينقرون على البنادير.إنهم يوقظون الرعشة في صقيع الجبل. هاهو صدى الهجرات يزلزل صدر الليل. من قال أن الأطلس مبغى. تسلل إلي صدح الأحيدوس فطوحت بي رياح الشجن. ليتني أبكي أو أصرخ حتى الجنون. ذلك هو نداء التين الأسود في عرائش الكروم المنسية. يسبقني دمي إلى البيادر. يضيء زهر الدفلى ذلك الغضب الملتبس. المح الأثداء المهجورة تتنافر في سماء الإنشاد. خيط الأجساد المتراقصة يتحول إلى دائرة."

يدور النص حول تجربة حب طفولية موؤودة مستفيدا من تشغيل رمز "أنثوي" ناجع: "الدائرة" وهي "تمتص" العاشق السارد في بداية النص للعودة به زمنيا إلى الوراء ثم"تطرحه" عند نهاية النص إلى الحاضر مثخما بجراح الذاكرة الدامية:

" ها أنذا أطرز نسغ الذكرى في وشم تلك المرآة الراقصة. اصطدم بما كشفته ردهات العشق المأساوي عن الذي تحقق والذي ضاع وانفلت. عن الذي أبهج المخيلة وأيقظ الماء العميق في بئر الكلمة. وعن الذي هدم الحلم والمعنى والإنسان."

 

11. محمد نبيل، "قبلات":

"قُبُلات"، بصيغة الجمع، هو عنوان نص محمد نبيل. ولعل اختيار "قُبُلات" عنوانا للنص عوض "قُبُلة" أو"تقُبُيل" يستمد مقوماته من مراحل التقبيل التي شكلت في النهاية مراحل النمو العاطفي للطفل السارد. فمن صدمة البداية والإحساس بالاختناق تحت عنف التقبيل:

"كانت عائشة لا تتركني أتنفس, تخنقني, ترافقني كل يوم إلى المدرسة, وعند عودتي، تنتظر الوقت الذي أتخلص فيه من يدي أبي الغليظتين لتنقض علي كما يفعل الكلاب. تقبلني بحرارة, تمتص شفتيّ وتشد فمي كما تشد كيسا من الحليب".

 

 إلى التواطؤ ومبادلة القبلة بالسكوت والرضا:

"تعرف جيدا أنني لا أستطيع أن أرفض عروضها الشاذة لأنها تغريني بالكتب الصفراء والأوراق البالية التي تسرقها من حانوت أبيها".

 

 إلى القبول ب"العبودية الجميلة":

"كانت ملحة على أن أعوضها عن قبلات اليوم الضائعة وكأنها تطلب أجرا عن عمل قامت به من أجلي. وضعت يدي على ظهرها الأملس وقلت لها في هدوء طفولي : غدا سيطلع نهارك وسأتركك تفترسين فمي كما تشائين. غمرني إحساس غريب وكأنني أصبحت عبدا لا حق لي في شيء, أقدم فمي لعائشة تفعل به ما تشاء, بدون أي شرط, قد تعضني أو تمتص ما بقي لي من رحيق دون أن أرفض. سرعان ما أقول: إنها عبودية جميلة ورائعة ما دامت تجلب لي كتبا وأوراقا نفيسة."

 

إلى النضج العاطفي المبكر:

"في الغد،لم تأت عائشة إلى المدرسة. أحسست بحزن وشوق كبير وكأنني أدخل عالم الهوى لأول مرة, لم أكن حاضرا سوى بجسدي داخل القسم, كنت سارحا ولا أسمع ما يقوله المعلم وهو يفسر بعض الكلمات المتلاصقة على السبورة. طلب مني أن أصف ما يوجد داخل الصورة التي تتوسط السبورة, قلت مسترسلا و بسرعة: إنها صورة امرأة جميلة، شفتاها تشبهان الهلال...لم أكمل الجملة حتى نزلت على رأسي عصا المعلم كالصاعقة. بعدها هوت علي يداه بالضرب, سقطت على الأرض, لم أكن أعرف أنني كنت أصف عائشة بدلا من الصور المعلقة وهي لحيوان صغير مكتوب عليها بالأحمر قرد. لم أكن أفرق بين القرد الصغير و عائشة التي منعها أبوها من القدوم إلى المدرسة. أحد زملائي كان حسودا ولا يريد أن تمارس عائشة معي هذه الحماقات. قرر أن ينتقم منا وكشف المستور لأبيها الذي أقسم أن لا تطرق عائشة باب التعلم.

منذ ذلك اليوم الملعون رفضت أن أقبل كل الفتيات والنساء لأن القبلة التي وراءها ضياع امرأة، تعد قبلة خاسرة."

"قُبُلات" هي ذكرى تجربة حب طفولية اغتصبها الكبار.

 

12. محمد التطواني " هاجس الحب":

يختتم نص "هاجس حب" بالسؤال-المفتاح الذي إذا ما نُقِلَ إلى بداية النص، تغير النص بالكامل:

" ترى لو كنت زرت الطبيب النفساني، بماذا كان سينصحني؟"

 ربما كان الطبيب النفساني، جوابا على السؤال، سيضع السارد أمام المرآة ليصارحه بأنه، على طول النص، لم يكن يحب أحدا لما هو عليه وإنما كان يحب القيم والصور التي من خلالها يرى الآخر؛ ولذلك حين هَجَرَتِ "الحبيبة" أسلوب حياتها القديم، هجرها "الحبيب" مباشرة ودون سابق إشعار.

ولأن النص يكتب للقارئ وليس للأطباء النفسانيين، فربما أمكن طرح ذات السؤال بشكل مختلف:

" ترى لو أشركت القارئ في ما جرى، ماذا عساه يقول؟"

 لو أُشْرِكَ القارئ في مجريات النص، لربما تعرف هذا القارئ على أحداث النص كشهادة عن الحب العذري في الستينيات من القرن العشرين؛ ولربما رأى في النص سيرة ذاتية في شكل قصصي قصير نظرا لوضوح خاصيات السيرة الذاتية في بنية النص:

-التواريخ:1967، تاريخ النكبة العربية وتاريخ النكبة العاطفية للسارد في آن،

-الأسماء الحقيقية (الموسيقار الخالد عبد السلام عامر)،

-السرد الكرونولوجي للأحداث وفاء للذاكرة...

يبدأ النص بوصف عاشق أنهكته مطاردة الحبيبة:

"مدة طويلة وأنا أمشي خلف قوامها الممشوق بعين لا تغفل، وبدون قنوط. لا أحادثها ولا أستطيع حتى أن أواجهها كما أواجه المرأة كل صباح.

كان هذا قدري عندما بدأت أعلم كيف اتبع خطوات البنات.. ألاطفها كما كما ألاطف الدمى.

لو كان والدها عرض علي هذا العمل بالمقابل لرفضته،أتبعها حين تخرج من منزلها صباحا إلى أن تختفي وسط ازدحام الطالبات بداخل بهو المعهد.وهكذا بعد الزوال.

لا أعرف كم مر من الوقت وأنا أهوى هذا النوع من الحماقة.

لم تكن جميلة الخلقة لتستحق هذه التضحية.تشغلني حتى في أوقاتي الخاصة.كانت عادية.ربما كانت تحتفظ بحسنها من تحت جلبابها.وجهها يحمل ألف سحابة.تجري بداخلها سواق من الغضب والحيرة،وأحيانا تشرق الشمس على وجنتيها وتنتعش الابتسامة،وتصدح الآهات.وغالبا ما تنبثق شرارات من مقلتيها لو رأيتها لوليت هاربا.

تحملت هذا كله وهي لا تبالي.

حسبتها أنانية، تفضل أن تمشي وسط زميلاتها وتحتمي بهن مخافة أن أحملها من عتبة إلى عتبة."

 خلال فترة المطاردة والملاحقة، يتعلم العاشق فرائض الحب "لم يكن من السهل أن تتصاحب أو تتكلم مع فتاة إلا بعد أداء فريضة كاملة." فللحب فريضة تبدأ بالركض وراء الحبيبة، يتبعها تحرير الخطابات المكتوبة ثم إثبات التفوق في الحياة (الحياة الدراسية، في النص)... حتى إدا ما دنا اللقاء:

" تخيلتها قادمة.. نائمة تخيلتها تتفجر كساقية تحت قدمي ولذلك كان من المستحيل أن افقد صوابي قبل أن تحضر. سأواجهها بنفس النظرات والهيجان والزفرات.

حضرت وحدها بوجهها المستطيل الأسمر.تسللت من درب مظلم ببطء. ثم وقفت كغيمة حائرة ترقب الرياح.

لم يتغير شكلها الذي تعلمت فيه اختيار الألوان. جلباب رمادي فضفاض.. جسمها النحيل يختبئ باطمئنان... أحرف ملامحها الرشيقة لا زالت كما هي.

دنوت منها وكلماتي متعثرة قليلة.ربما أحسسنا، أنا وهي، بنشوة دافئة تدب في أحشائنا وبقي علينا أن نتعلم كيف (نخشخش) فيما بيننا ونرفرف مثل العصافير وننسج طريقنا بأيدينا ونستغني عن الأزرار التي تحركنا كالدمى.

اقتربنا..يؤنسنا مواء حناجر القطط اليتيمة.كبرت حيرتي.

خفت أن لا يوجد بين أصابعها ما لا يشفي غليلي.

طفقت انظر إلى ملامحها ولم نترك وسيلة لنتقرب إلى بعضنا إلا وطرقناها.

مددت لها أصابعي المرتعشة.دفنتها بين أصابعها نقرت بهمساتي نوافذ أحاسيسها فانتقيت من الكلمات ما يناسب همومنا،والتقيت الشفة بأختها إلى حد الجنون.

قبل غياب الشمس وبعد أن شربنا من كل أبجديات الحب أخبرتني بأنها مضطرة للعودة إلى البيت.. ذهبت مخلفة على جسدي دبابيس جارحة، وإيقاعات دافنة. وفي عيونها امتداد لشيء تهواه."

 اللقاء الأول أنهى جولة المطاردة بالنسبة للعاشق، كما حرر الفتاة من أسلوب في الحياة كان يعشقه فيها الفتى:

"يسألونني ماذا أعشق فيها؟هل هو صمتها...شكلها...حشمتها...قوة صبرها على طأطأة رأسها؟ "

 هكذا، عكس سير النص، تأخذ القصة مسارا مغايرا:

" وفي ظهر احد أيام الأسبوع،حانت مني التفاتة ناحية ملعب كرة السلة بعد خروجي من الدرس.كانت نظرة لم اقدر على (قضم) ما التقطته عيناي.أعدت النظر.. تلمست طريقي لأقترب أكثر من المشهد.. لم اصدق.وقفت تحت نخلة بدا سعفها يميل إلى الاصفرار.انتقلت إلى حائط من الطوب الأحمر عتيق من مخلفات المعسكر الاسباني.جبت جميع جوانب المكان ومازلت لم أصدق. إنها هي.كأني بين النوم واليقظة, بدت الدنيا أمامي معتمة.لأول مرة رايتها تلقي بجلبابها على الأرض وتكشف عن ذراعيها,ترتدي جاكيت أحمر وبنطلونا شفافا ابيض يلامس ركبتيها، وتجر صندلا لتقفز به وسط الذكور والإناث متحررة مما تعودت عليه.وترمي الكرة بشطارة فائقة، وكلما احتكت جسدها بزميل اقشعر بدني،وانقض وجهي. وشعرت بتخاذل يهز مفاصلي،ولم تلبث الدموع أن تهاطلت في تموجاتها الكثيفة."

 وبهذا المسار المغاير، تتحقق النهاية الصادمة التي صدمت السارد ذاته وهو يتساءل في الختام:

" ترى لو كنت زرت الطبيب النفساني، بماذا كان سينصحني؟"

 

13. عبد الحميد الغرباوي، "حبيبة الشات":

النص يفجر هشاشة الثنائيات الميتافيزيقية في حياة الفرد وأسلوب تفكيره ليخلص إلى "الوحدة" في الكون لينجلي القناع عن الزوجين الفاشلين فيظهرا كما لم يكتشفا ذلك بنفسيهما في أي وقت مضى: عاشقين كبيرين.

» تلك هي حبيبته...

اقترب منها، و بصوت مرتعش:

" سلوى"...

و ما كانت لتستجيب للنداء، لو لم تتذكر أن سلوى اسمها الجديد..

استدارت...

و لما...

لم يكن سوى...

ذاك الذي هجرها و تنتظر منه، في أية لحظة، إعلان الطلاق...«

اختار السارد كفضاء للسرد "العالم الافتراضي"، الإنترنيت، أو عالم الحرية والتواصل والممكن وهو الثالوث الغائب في حياتهما. فعلى طرفي هذا العالم يقفان أحرارا يمكنهما اختيار ما شاءا لتقديم نفسيهما بدء من الإسم والصفة والهواية إلى الأحلام والمكاشفة والاعتراف بالحب.

يميز النص بين مفهومين يفترض فيهما التكامل وهما مفهوم "الحبيبة" كما في عنوان النص ومفهوم "الزوجة" في آخر جملة من النص. إنه تمييز بين الممكن (=الحب) والكائن (= الزواج).

فالحب الذي تبحث عنه النساء هو في أعماق قلوب أزواجهم، والمرأة التي يتمناها كل زوج هي في أعماق قلب زوجته. والمطلوب هو الغوص العميق في أعماق قلب شريك الحياة للظفر به وبقلبه. فالربيع قد يكون هنا أكثر اخضرارا من العُدْوَةِ الأخرى.

 

14. هشام بن الشاوي، "عاشق من زمن الحب":

البحث عن حبيبة القلب هو غاية نص "عاشق من زمن الحب". وفي رحلة البحث والتلاقي والتواصل، تتضارب دوافع العشاق والمحسوبين عُشَّاقا وتتعدد طبائعهم وأهدافهم:

*العشيق: وهو فنان يبحث عن حبيبة مُلْهِمَةٍ تضيء ظلماته.

*الزوجة: زوجة رجل آخر يتكلف بمصاريف الحياة وتبحث عن رجل ثان يتكلف بإطراب القلب وإحيائه.

*الزوج: زوج مخدوع "رمى قلبه في سلة القمامة" ليتفرغ للحياة بمنطق "الجَيْبِ" وقضاء الحاجات بشرائها:

-" ارم قلبك في أقـرب صندوق قمامة، حتى لا يدمر حياتك...

 - ألا تستطيع أن تفكر بقلبك ولو مرة واحدة في حياتك ؟

يترك سؤالي معلقا، ويتجه نحو امرأة تجلس وحيدة... ثم يخرجان سوية، وهي تتأبط ذراعه... "

ولأن العاشق السارد أُحْبِطَ في تجربته الغرامية، فقد "رسم" النص على "صُورَةِ" أَوْجَاعِهِ. فالنص يتقطع بنجيمات تفصل فقراته كما يتقطع أوصال السارد المهموم (***) و"تقطر" جمله الباكية في ختام النص "محاكية" قطرات الدمع في سقوطها:

 "أ لـمحها مع زوجها، في ركنها المعتاد.. تحييني بابتسامة مشرقة، أحـتـضن كــماني، و أنطق أ وتاره لحنا شجيا، تهتز له القلوب، ولو كـانـت من صخر صلد.. تتهامس البنات، وهن يبحثن عن مناديلهن، وينزف قلبي من عيني

دمعا...

دمعا...

دمعا …"

 

15. هشام حراك،" حب على الشاطئ ":

بين سلطة بحرين، "بحر الماء" الذي يغرق بين امواجه الهاربين إلى النعيم والهاربين من المسؤولية و"بحر المجتمع" الذي يشنق بحباله المخالفين للعادات والثائرين على التقاليد، ينساب نص "حب على الشاطئ" لهشام حراك.

يتفتح النص على الشاطئ بين الماء والبر لكن سرعان ما يتفرق العشيقان اللذان نشطا النص ليتجه كل منهما "وجهة العقاب" الذي يستحقه عن اقتراف "فعل الحب الجسدي" خارج أعراف المجتمع: العشيق لعقاب البحر والعشيقة لعقاب المجتمع:

"يقرر أن يقطع البحر في اتجاه الضفة الأخرى خوفا من كلام الناس ونظراتهم اللاسعة … يعزم على أن لا يعود أبدا … يقول لنفسه إنه لو كان له عمل قار، وسكن مستقل عن ذويه، لما تركها تواجه مصيرها المؤلم … يقول لنفسه هذا الكلام، وينقلب الزورق الذي يقله إلى الضفة الأخرى، فتقع له الواقعة "…

 

16. زهور كرام، "ومضة":

"ومضة" عنوان النص هو رديف "القُبْلَةُ" التي تحاول الحبيبة من خلالها "إضاءة" عوالم سعيدة تخرج الحبيب المجنون من بئر ذكرياته الشقية وإنارة عوالم معتمة من حياته لطرد أشباح الشقاء الكامنة هناك وإلهاب قوة الرغبة في الحياة داخله ليتجدد ويُقبل على اقتسام الحب والسعادة معها.

لكن هل تشفي "قُبْلَةُ الحُبِّ" من يعاني فوبيا الظلم المؤسسي والاعتداء المؤسس على أمن المواطن وامتهان كرامته؟

ربما لذلك لم تُثْبِت "القُبْلَةُ/الومضة" أو "القُبْلَات/الومضاتُ" فعاليتها، فكانت المراوحة بين "الومضة" و"الصفعة" في آخر النص كتحول يائس في سلوك الحبيبة التي أضناها الصبر على حث الحبيب على البقاء على قَيْدِ "العقل":

"ثم صفعة بقوة الغضب الذي تجمع في حنجرتها ترسمها على خذه الأيسر وتشربه كأسا من ماء شفتيها ثم تهمس في أذنه: «تذكر كأسي كلما طُرِقَ الباب لترتاح رأسك.»"

 

17. رشيدة عدناوي،"حالة شرود":

نص "حالة شرود" لرشيدة عدناوي هو عنوان النص وهو موضوع الحكي وهو أيضا تقنية السرد. فالنص بالكامل يجري تحت "الإيهام" بالشرود والسهو حتى يشرد وينام القارئ العادي لتفتح بوابة التواصل مع القارئ الفطن الذي ربما سيقرأ النص على هدا الشكل:

"أدخل شاب حبيبته للغاب وقتلها ثم خرج لوحده لكن راع كان قد شاهد وقوع الجريمة هب لأقرب مخدع هاتفي للتبليغ عنه."

"حالة شرود" هو نص عن اغتيال الحب، عن موت الحب في زمن يغيب فيه الاهتمام بأي شيء وينعدم فيه الحماس لأي مطلب بسبب الملل المطلق والعياء العام. لكن جريمة قتل الحبيبة جاءت لتحيي في شخوص النص الشاردين قيم التركيز والاهتمام والحماسة:

" كانا كلما بعدت خطواتهما عن هالة الضوء إلى عتمة الخضرة، ينتابني شعور بالخوف لم أكن استطع فـــي البداية أن أجد له تفسيرا. لكن عيني المتطفلتين ما فتئتا تتوجسان نهاية شرودهما المبثور، رغم اختفــــــــاء الشابين عن الأنظار في غياهب المجهول تحت ظلال العتمة في غابة العشب الأخضر."

 

18. نهاد بنعكيدة، "الوشم":

يقترن "النقش" بالحفر على الحجر والخشب والمعادن لتخليد معارف وإنجازات أو إبداعات »للأجيال القادمة تحديا للموت« بينما يقترن "الوشم" بالحفر ذاته لكن على جلد الإنسان الواشم لتخليد ذكرى من الذكريات الحميمية أو مرحلة من مراحل الحياة الفردية » لمقاومة النسيان.« 

 في نص " الوشم" للقاصة نهاد بن عكيدة، ليس ثمة داع للخوف من الموت وللرغبة في " نقش" المعارف لأجيال المستقبل. فالهاجس المحوري في النص هو " مقاومة النسيان" و "استنفار الذاكرة" للانتقام ممن تسول له نفسه التلاعب بالحب والاستهتار بكرامة الحبيب.

النص يرسم تقابلات بين الحب السطحي العابر(المختزل في العلامات بقلم الحبر على الكف) والحب العميق الخالد كما يعبر عنه الوشم بحرقته وألمه على الجسد.

الحبيب، في النص، يخط بقلم الحبر " علامة" على كفه ليتذكر حبيبته، بينما هي "تشم" حبها له حفرا على جسدها:

» أن أكون مجرد علامة على يده يرسمها كل صباح بقلمه الأسود قبل أن يغادر بيته، تجعلني أعيد حساباتي معه. أما أنا فجعلته وشما أحمرا بلون دمي، وبنفسجيا بلون فرحي الصغير، وأسمرا بلون قمحي وجلدي، وشما وشمتك في قلبي لو انمحى انمحيت من وجودي ولو تغير لونه أكون قد أصبت بتسمم في شراييني وصمامات قلبي وأدخل حينها في عداد المفقودين« 

ثم جازمة في ختام النص:

» حسنا، خذني علامة على يدك. فذلك أفضل بكثير من أن تنساني جسدا وروحا على رفوفك. ملفات الكبرياء والكرامة والأخذ والرد لم أعد أتدارسها معك لأن الأمر بيننا تعدى كل تلك المبادئ والمواقف المتشددة. اخترت أن أكون متسامحة متساهلة في كل حقوقي معك وأن أخذ الأمور بكل بساطة كما تفعل دائما. ليس لأجلك، بل رفقا بي... ولا تعتقد أني وإن قبلت أن أكون بكل أنوثثي وشعري الفاحم ومشاعري الحمراء البركانية علامة على يدك في صورة نجيمة دالة على هزيمتك لي، فأنا مازلت لم أعلن بعد حربي عليك. ويوم توصلني إلى ذلك القرار ستجد يدي وجسدي موشومين بعلامات كثيرة من فئة تلك النجيمات «.

 

19. سعيدة فرحات، "هي والسكين":

نص "هي والسكين" يدور حول حياة زوجين خمد ما كان يجمعهما، " الحب"، فصارت حياتهما حياتين وعالمهما عالمين والنتيجة المنطقية أن النص ذاته شطر إلى شطرين: الشطر الأول بطلته الزوجة قبل أن تنام والشطر الثاني بطله الزوج بعدما استيقظ من النوم بينما تبقى الخاتمة متوقعة ومكرسة للانكسار:

» وبذلك بدأ يوم جديد ليجري كل واحد منهما في طريقه الخاص وعينه صوب أفقه المغاير. «

ففي الوقت الذي تفكر هي فيه يفضل هو النوم والغياب:

»ها هي ككل ليلة تستغل فرصة نومه لتمعن النظر في وجهه، و تخاطب غيابه داخلها.«

وفي الوقت الذي تنام هي فيه، يحلو له التفكير والاعتراف:

» نامت و الأسئلة حبال مشانق تلتف على عنقها وتصرخ في نومها و الجثة الهامدة قربها لا تحس بشيء.

استيقظ من نومه ليجد نصفه قربه و يمد يده ليوقظها لكن يده لا تصل«.

ولأن "الانقسام" هو بطل النص بلا منازع، فقد كان لا بد له من اسم: "السكين".

 

20. أسماء حرمة الله، "بلا عنوان":

عنوان النص، أي نص، يبقى هو الإطار العام لمجريات النص ومنارته الهادية لأحداثه وشخوصه وجاذب القراء لقراءته. كما أن العنوان هو المحدد الرئيسي لاتجاهات الكتابة والقراءة معا. ولأن العنوان يمسك بكل هذه الخيوط داخل النص وخارجه، فإن غيابه أو تغييبه في نص "بلا عنوان" لأسماء حرمة الله كان "قصديا" و"وظيفيا". ولعل أهم وظائف هذا الغياب أو التغييب دفع القارئ للتساؤل:

هل كتب النص على عجل فسقط العنوان سهوا؟

هل النص رسالة مفتوحة للعشاق المحبطين؟

هل...؟

نص "بلا عنوان" يتمحور حول محنة الفتاة الساردة المدعوة لحفل زفاف حبيبها من عروس غريبة. ولعل أهم خاصيتين تميزان هذا النص هما "الحيرة" و"الصمت". وفي ضوء "الحيرة" و"الصمت"، يمكن تلمس مسوغات اختيار "بلا عنوان" كعنوان للنص.

ففي الخاصية الأولى، "الحيرة" و"التيه"، ينتفي أي انتماء لأي مكان أو عنوان بريدي. أما في الخاصية الثانية، خاصية "الصمت"، فينتفي كل ميل للحوار أو أي شكل من أشكال التواصل اللفظي في النص. إن نص "بلا عنوان" نص حائر بين العناوين البريدية بعد ضياع الحبيب، صامت مثل الجرح. ولذلك، فهو لا يحتاج إلى "عنوان" يقدمه للقراء ما دام الجرح بلاغة والنقش على الجراح بلاغة البلاغات.

 

21. وفاء الحمري،"ولادة":

علامة الترقيم المهيمنة على نص "وِلاَدَة" هي "نقط الحذف" (...). فَتَحْتَ ضَغْطِ "الوِلاَدَةِ" التي لا تمهل، وتحت صدمة التغير الفجائي للعالم الذي مسخت ملامحه وأشكال تواصله ووظائفه وأدواره مجتمعة مما أحدث زلزالا وجوديا وسرديا انهارت معه كل الأنساق والرؤى والقناعات، لم يعد ثمة رابط يشد وصال الجمل؛ بل لم تعد ثمة حاجة لعلامات الترقيم في لحظة أريد لها الاحتفاء بثمرة الحب، الاحتفاء بالمولود الجديد، فكان عوض دلك برودة الأعداء وافتراس الضواري. ولعل أهم الأشكال الوصفية المشغلة لهدا الغرض هو التفعيل العالي الفنية لأداة التقابل بين "حرارة" المرأة الولود (الصراخ والعويل والعرق والدمع) و"برودة" المجتمع الذي يختفي وراء الوظيفة الاجتماعية (بقفازاته ومعاطفه) ليبرر لا مبالاته بالإنسان حيا وعاشقا:

" ما زالت لا تحس بأسفلها... أصابع قدميها ما زالت تطل عليها من حافة الإزار الأخضر... وحركة النساء الجامدات جمدت هي الأخرى.... لا حس... لا حركة... لا خبر... تزغلل نظرها... بدا لها من بين ظلال رموشها المبللة بالدمع خيال نوراني قي شكل امتداد ضوئي طويل... طويل... كأنه كهف لا قرار له... انتقلت هي سابحة وسط ذاك النور المشع فاختلطت به وراحت في غيبوبة عميقة...

فتحت عينيها على وجوه كثيرة.... رجال.... نساء..... لباس ابيض.... أضواء كاشفة.... رائحة كحول مزكمة.... بدت لها الوجوه تتمايل حدقت أكثر فبدأت الصور تستقر... تتموضع....هاهي المرأة ذات القسمات الجامدة ومعها الأخرى ذات القفازتين اللتين تقطران دما... دمها هي…

نطقت أخيرا... سالت عن الذي فعلوه وما الذي هم فاعلوه بها...تكلمت الجامدة بعدما غادر الفيلق الأبيض الغرفة...

قالت بوجه جامد : قد تمزق رحمك...ومات جنينك... فاضطر الأطباء لبتره بالكامل... لك حق إجراء مكالمة مع ذويك... ذاك الزر الأخضر تضغطين عليه ان احتجت لمساعدة هذه الليلة وعرجت صوب الباب بكل برودة والمرأة الممددة فوق السرير تنظر إليها مذهولة... مأخوذة..."

 

تركيب:

تجتمع نصوص "أنطولوجيا الحب"، الجزء الثاني من "الحاءات الثلاث" (مختارات من القصة المغربية الجديدة)، حول خاصية أدبية أساسية وهي خاصية "توحد المضمون القصصي بشكله الفني" بحيث يعبر الشكل الفني عن مضمونه القصصي "بعيدا عن كل أشكال السرد النمطي" التي تطبع معظم الأعمال الأدبية الرائجة ويصبح معه "المضمون القصصي تجليا من تجليات الشكل القصصي". ف"التعبير عن المضمون القصصي بالشكل القصصي" و"التعبير عن الشكل القصصي بالمضمون القصصي" كان السمة الأساسية لنصوص العشق التي لا يمكنها أن تكون عاشقة تحت سيادةِ نمطيةِ الكتابةِ القصصيةِ و"سكيزوفرينية" الخطاب السردي.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com