دراسات نقدية

إطلالة على ديوان " الأفق نافذتي " للشاعر العراقي يحيى السماوي*

 

 سعد سليمان محمد / الخرطوم

  قبل قراءتي الديوان، استوقفني عنوانه الذي يستفزّ القارئ.. فالمألوف أن كل البشر تكون نوافذهم مطلة ً على الأفق، لأفاجأ بالشاعر قد جعل الأفق ذاته نافذةً، فعلى ماذا تطلّ هذه النافذة العجيبة؟ لابدّ انها تطل على ما هو أوسع من الأفق.

  ندلف معه الى افقه الشاسع لنتأمل صوره وجماليات أدائه الرائع وبيانه البليغ.. وفي جولة سريعة نرى أن الشاعر قد اعتراه الحنين الجارف الى أرض الوطن، فأمسك بجمر الغربة يقلبه بين كفيه ليرسم عليهما قُبَلا ً من شواظ يلوّح بها لوطن استجار من ديكتاتور سفاح، بجلاد ٍ وسبي.

  للسماوي قاموسه الخاص، وحنجرته المميزة التي يعرف بها شعره ونثره، وله صوره التي يرسمها بريشة فنان ماهر، حيث تأخذنا تشبيهاته الى مرافئ الدهشة، وتحلق بنا كلماته الى آفاق قوس قزح.. متأرجحين بين زمنَي فيض الحب وقحط المشاعر.. فمن تشبيهاته السهلة الممتنعة قوله :

 فُطِرْنا قانعين بفقر ِ حال ٍ

  قناعة َ زِقّ ٍ ثغر ٍ بالحباب ِ

  " ولفائدة بعض شبابنا الذين تفتحت أعينهم على " الثلاجات " ِ أقول : إن الزق هو " القِربة " أي وعاء من جلد الغنم يُدبغ ويخاط من جميع جوانبه وتترك فتحة العنق لصبّ السوائل حتى تبرد ثم تؤخذ منه من نفس الفتحة ـ وجاء في المنجد : جلد يُجز ولا ينتف ويستعمل لحمل الماء ـ..

أما الحباب فهي الفقاقيع التي تترك على جوانب تلك الفتحة بعد صب السائل.. فالسائل المرغوب يدخل ويخرج عن طريق ثغر الزق الذي يكتفي بالفقاقيع متبقية على جوانبه، وما تلبث ان تذهب مع الريح !!

  ومن تشبيهاته المترفة والموجعة في آن ٍ قوله :

 وأنّ الجـارَ يخـشى جاره

 وتخاف من أهدابها الأجـفانْ

  ومن جماليات تحكمه بأدوات شعره قوله :

 أنا الـراعي.. وعاطفـتي عصايَ.. وأضلـعي غـَنـَمي

 دمي مـرعايَ..والينبوعُ دمـعـي.. والـوجـاقُ فــمــي

  ومن تشبيهاته البليغة :

 خـمـري إذا جُـنَّ المسـاءُ الحـُلـمُ.. والأجـفـانُ كـوبُ

 ثمَّ جسَّـد من تعاظمت صفات النقص فيه ( قاصدا الديكتاتور ) قائلا ً :

 تـَكامَـلـَت النقائصُ فيه حتى غدا لكمال نقصان ٍ مـثـالا

  وتراه أحيانا يصوغ الكلمات كجواهريِّ ماهر يصضع نفس الحجر في أكثر من موقع فيتضح في أكثر من مرة ما لروعته من بريق أخاذ يختلف عنه في موقعه السابق.. فانظر إلى مادة جسر ( الجيم والسين والراء ) وجمالية استخدامه ما يسميه البلاغيون " القلب في اللغة " في البيت التالي :

 ويُرسـي للمـَها " جسرا ً " و " سرجا ً "

 بـــه يــجـتـاحُ " رجـــســا ً " واحـتــلالا

  وليس بالغريب أن يأتينا بين الفينة والأخرى بصورة شديدة التوهج مثل قوله :

 لسـتُ بالمـُغـرَم ِ

 إنْ تكن مقلتي

 لا ترى جفـنـها

 خيمة ً للوطنْ

  عودة على بدء.. نرى شاعرنا المبدع يتكئ في هذا الديوان على مفردة غير شائعة ـ وإن لم تكن من غريب اللغة ـ بكثافة تنبئ عن حالة الثورة والإحتراق التي تحفّ بأعصابه فتدفعه مرغما الى استخدام مفردة " الوجاق " في سبعة مواضع متفرقة في ديوانه ذي الواحد والثلاثين قصيدة ( لبعض من تفتحت أعينهم على المطابخ الحديثة ـ أقول : الوجاق هو موضع النار أو الموقد الذي يُشـعل بالحطب للطبخ ) وقد تأثر السماوي بهذه المفردة وما يتصل بها بدرجة كبيرة حيث استخدمها في الصفحات 37 ـ 53 ـ 100 ـ 115 ـ 142 ـ 190 ـ 204 ناهيك عن مفردات لها علاقة بالوجاق مثل الجمر، الرماد، اللهيب.. وفي كل مرة يشعر معه القارئ بالإحتراق ويكتوي بالألم الذي يشتعل بداخله، أو التحفز الذي يغري به منظر الجمر المتوهج في الموقد، مهما كانت الدعة فيه مفتعلة في لحظة ما.

  فلننتقل مع مشاعره المتضاربة، ولواعجه التي يبثها في كل بيت أدفأه أو أحرقه الوجاق ـ رغم أن سلخ البيت من سياقه لا يُعدّ استشهادا يُعتدّ به :

 ودلـَّـة ُ قهوة ٍ ووجاق جمر ٍ تحلـَّـق حوله ليلا صحابي

 *

 دمي مرعاي والـيـنـبـوعُ دمـعي.. والوجاق فمي

 * 

وإلى الوجاق الطين ِ يُرْقِصُ جمرَهُ غـَنـَجُ الدِلال ِ بقهوة الترحاب ِ

 *

شـَيَّـعتُ صحني حين شيَّـعَ صحنكم قحط ٌ فما عرف الوجاق ُ طحيني

  *

 كنْ لأحطابي لهيبا ً.. أو فكن لوجاقي ولهيبي حطـبـا

 * 

توسّـدَ الوجاقْ

 رماده ُ..

توسَّـدَ العراقْ

 مِخـَدَّة َ السبي ِ

 فشـاصَ الخبز ُ في التنور ِ

 والضياءُ في الأحداق ْ

*

 أنفخ ُ في رماد أمسي

 فلـعـلَّ جمرة ً تعيد للوجاق ْ

 مبخرة الدفء التي أطفأها الفراق ْ

  *

 صعب هذا الإبتسار لقصائد ملؤها العاطفة والشجن والحب والأنين والثورة لدى هذا الشاعر الذي يسري العراق في شرايينه وينزف مع كلماته..

  وبعد.. فهذا ( طفل النخل في غابات أديلايد ) يمدّ أمراسا ً تربطه بالوطن العربي الكبير ـ العراق ـ فشكرا أيها السماوي.. وطب نفسا ً... ولنتفاءل مع رباعيتك :

 لا تـيْـأسَــنَّ وإنْ دجَـا الأفـُـق ُ فغـدا ً سَـيلثِـمُ جـفـنـك الألـَق ُ

 فاركبْ ولو أنَّ الطريق َ لظى ً واصبرْ ولو أنَّ الـضَنى فِـرَقُ

 هـيهـاتَ يـأتي قـبل مــوعِـده ِ غـَسَـق ٌ وبعد الموعد ِالشـَفق ُ

 صبرا ً على البلوى...فأمتنا وُعِـدَتْ بما تـصبو له الحـَـدق ُ

***

* الأفق نافذتي 212 صفحة ـ قطع متوسط ـ ط1 ـ 2003 م

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com