دراسات نقدية

 قراءة في ديوان " هذه خيمتي .. فأين الوطن ؟"

للشاعر العراقي يحيى السماوي (*)

 الدكتور حسن فتح الباب / القاهرة

يضيف ديوان " هذه خيمتي .. فأين الوطن " للشاعر العراقي يحيى السماوي المقيم في استراليا وترا ً جديدا ً إلى قيثارة شعر الغربة والحنين إلى الوطن .. وغربته هذه نفيٌ قسريٌ، وهو يفصح عن هذ النفي أو القهر في كل صفحة من ديوانه، ونحن نشعر بتلك المحنة التي يمر بها ونتجاوب معه فيها منذ أول سطر من نصوصه .. بل منذ العنوان، والكتاب يعرف من عنوانه كما يقول المثل السائر .. فاسم الديوان مركب من جملتين : أولاهما تقريرية معبرة عن الواقع وهو المقام في بلد بعيد عن الوطن، والثانية إنشائية اتخذت أسوب الاستفهام الدال على لوعة الفراق، والإحساس المرير بالفقد هو المهيمن على تلك النصوص بلا استثناء . فقد يكاد يورث صاحبه التمزق ولولا قوة نفسه لوصل به الى الجنون .

 

توظيف التكرار :

 وتتنوع الدوال ا لتي ترمز إلى الفقد وتصوّر مأساة التشرد في المَـهاجر، وأولى هذه الدوال هي تكرار كلمة العراق وما يتصل بهذا الحقل الدلالي وهو فراق الوطن من مفردات، مثل الرافدين ودجلة والفرات والنخل الذي يُذكر كلما ذكر العراق لأنه أكثر الأقطار العربية نخيلا، حتى أنه كلما أريد التعبير عن ظاهرة كثرة الشعراء في العراق قيل : تحت كل نخلة في العراق شاعر . ومن المفردات المتصلة بالنخل الجذع والعذوق . ونطالع الألفاظ المذكورة الدالة على فقد الوطن والحنين الجارف إليه في قصيدة ( أذلني حبي ) التي استهلّ بها يحيى السماوي كتاب شعره :

 

أذلـّني حبي ..

 

وجرحيَ الممتدُّ من جدائل ِ النخل ِ

 

إلى أرغفة ِ الشـعـب ِ

 

طوّفتُ في حرائق الشرق ِ

 

وفي حدائق الغرب ِ

 

وليس من صبح ٍ ولا صحب ِ

 

إلآ بقايا من رماد الدار

 

من طين الفراتين على ثوبي

............

 

فتـّشـتُ عن أرومتي

 

وعن فراتٍٍ ساحر ٍ عذب ِ

 

وفجأة ً

 

رأيت نخلةً على قارعة ِ الدرب ِ

 

هززتها

 

فانهمر الدمعُ على هدبي

 

وعندما هززتُ جذع َ الأرض ِ يا ربي

 

تسـاقط العـراق ُفي قلبي

 

 وقد تكررت أيضا كلمات الفرات والفراتين والرافدين والنخل في القصيدة الثانية وعنوانها ( شـدي شـراعك ) إذ يقول فيها :

 

أنا ما نـَحَلتُ لأنّ صحني مُعْـسِــرٌ

 

لكـنّ صحــنَ الـرافــدين نـحـيـل ُ

 

لطمتْ شبابـيـكُ الضِفاف ِخدودَها

 

حُـزنا ً ومَـزّقَــت ِ الثيابَ حـقـولُ

 

فإذا حـفيفُ الـنخـل لـوعَـة ُ نادب ٍ

 

وخريرُ دجلـة َ والفرات ِ عــويلُ

 

ماالعُجْبُ إنْ سُـلَّ النخيلُ؟فأرضنا

 

مـسلـولـة ٌ .. وفـراتـنـا مَـســلـولُ

 

 

 وردد الشاعر اسم وطنه " العراق " عدة مرات في تلك القصيدة بوصفه دار شقوة ومهانة بعد عزة، وفردوسا ً تحوّل إلى جحيم وموطئ سنابك للطغاة من مغول العصر وزنادقته، هذا العصر الذي وصفه أكثر من مرة بالزمن الرديء . ولا شك أن تكرار كلمة العراق في القصيدة يدلّ على شدة حنين الشاعر إلى بلده وحزنه على ما آل إليه أمر شعبه بعد أن سفك الديكتاتور والسفاحون دماءه :

 

هـذا عـراقـك ِ يا عصـورُ. . رغيفه ُ

 

حَـسَـكٌ ... وكــوثــرهُ دم ٌ ووحُولُ

 

تحتَ الكراسي في الـعـراق ِجَماجِم ٌ

 

وعلى الكراسي في العـراق ِمَغـولُ

 

 وما يلبث الشاعر أن يردد مرة أخرى كلمة النخل التي رمز بها لموطنه الغائب في عينيه والحاضر في فؤاده .. ويستطرد في هجو ظالميه :

 

لـلجاهـلـيـة ِ في الــعـراق عـقـيـدة ٌ

 

و"بني قريضة َ " محفـلٌ وقـبـيـل ُ

 

زمَــرٌ إذا مـرَتْ عـلى بـسـتـانـنــا

 

شاصَتْ عذوق ُ النخل ِوهْيَ حَمولُ

 

 

فـَـزَّ الفـراتُ بمقـلتيَّ ... وأيقـظتْ

 

أشـواكـهـا تحـت الجفـون فـصـولُ

 

 

 ويبلغ يحيى السماوي ذروة ً فنية ً في التعبير عن فداحة القهر الذي سلـّطته على العراق الفئة الحاكمة الباغية :

 

فـَرَضوا على المقتول ِ فِـدْيَة َ قاتل ٍ

 

لـيَحوز َ قـبـرا ً في العـراق ِقـتيــلُِ

 

 

 وتتمثل تقنية تكرار الإسم أو الفعل لتعميق الدلالة في ترديد فعل " فتشت " للإشارة إلى رحلة المعاناة التي قطعها الشاعر بحثا ً عن وطنه المفقود، وذلك في قوله :

 

فـتـّشـتُ في ذاكرة الأيام عن طفولتي

 

فـتـَّشـتُ في كلّ نفايات حروب القهر عن مدينتي

 

وعن جواد ٍ خارجَ الرّكب ِ

 

فـتـّشـتُ عن حبيبتي بين سبايا العصر ِ

 

عن مدينتي

 

 وقد ذكر الشاعر في تلك الأبيات كلمتي القهر والمدينة، وتكررت اللفظتان في قصائد أخرى، ودلالة الأولى واضحة، أما الثانية فإن ترديدها يدلّ على التشرد في أرجاء الأرض بحثا ً عن ملجأ آمن ٍ يأوي إليه ليتقي بطش القتلة . ومن أمثلة تكرار كلمة القهر البيت الآتي من قصيدة ( شدي شراعك ) :

 

جادت ْ عـليَّ النائباتُ فأمـطرتْ

 

قـَهـرا ً.. وينبوع ُ الحبـور ِ بخيل ُ

 

 والبيت الآتي من قصيدة ( كن صخرة تـُدمي ) :

 

قـَضـَت ِ العروبة ُفي شريعتهم

 

قـهـراًً لـنـا ولـغـيـرنــا الغـَلـَبـا

 

 

 وترد هذه اللفظة أيضا في قصيدة ( كان لي ) ذت النغمة الهادئة الوادعة الشجية في معظم أبياتها كأنها مرثية :

 

فمتى يـنـتـفض النخلُ الفراتيُّ

 

متى تكنسُ ريحُ القـَهـرِِ عارَ الأزمنة ْ ؟

 

ومتى ينتقمُ العطرُ لذبح ِ السّـوسَـنة ْ ؟

 

 أما تكرار كلمة مدينة أو مدائن فنجده في البيت الآتي من قصيدة ( للجرح نافذتان ) وهي من أصفى قصائد الديوان لحنا ً وأعمقها رؤية ً وأجملها صياغة ً :

 

ألآن َ أخرجُ من تواريخي

 

لقد كذِبَ الفراتُ على النخيلْ

 

قبري معي يمشي

 

ونخلُ ضامرُ الأعذاق ِ

 

يا وطني الذليلْ :

 

أيقوم من تابوته ِ الجسَـدُ القتيل ْ ؟

 

فاكتبْ وصِـيَّـتك َ .. المدائـنُ شـَـيَّـعتْ أقمارها

 

في كل يوم ٍ تـُسْتباحُ مدينة ٌأخرى

 

 

 ولما كانت مدينة بغداد هي أحبّ مكان على ظهر البسيطة للشاعر، فقد رددها ثلاث مرات في القصيدة الآنفة الذكر، وهو يرثي حالها :

 

ثمّ لمـّـا أصبحتْ بغـدادُ كرسيّـا ً لمنبوذ ٍ

 

وصَـحْـنا ً لِـنـَفـَرْ

 

صارت ِ الأوتارُُ قـَـيْـدا ً

 

والـمـواويلُ ضـَجَرْ

......

 

ثمّ لـمّـا فتحتْ بغـدادُ عينيها

 

على صِـبْـيان ِ " عـَفـلـَقْ "

 

وطني أصبحَ منفايَ

 

وجرحي صار خـَندَقْ

.........

 

منذ جيلين ِ وبغـدادُ بلا دِيْـن ٍ

 

متى يَـشـْهَـق ُ بالتكبير ِ ثـغـر ُ المِـئـذنة ْ ؟

 

أسـلوبُ المـفـارقة :

 

 ومرجع شدة وقع هذه القصيدة في نفس المتلقي إلى أسلوب التضاد بين صورتين رسمهما الشاعر لبغداد : صورتها المونقة قبل أن يحلّ بها ظلام القهر وصورتها بعده . وتقطر الأولى إبداعا ً في تصوير جمال بغداد ومباهجها التي استمتع بها الشاعر في طفولته ثم تحولت إلى حلم لا يتحقق . فهو يذكر في أسى ً ولهفة ٍ شاجية كائنات الطبيعة لتي طالما تغنى بها الرومانسيون من ماء في الأنهار والغدران، ومن قناديل وأقمار وفوانيس وبيارق .

 

 تقابل هذه المفردات المنسوج منها صور رفافة مضيئة أو تخالطها مفردات ذات مضامين معتمة، كأنها أشباح كهفية أو كوابيس تورث النفس غمـّا ً وسقما، وتكاد تقشعرّ لها الأبدان رعبا :

 

كان ليْ في سالف ِ العصر وطنْ

 

ضاحكُ الأنهار ِ

 

لا يعرف غـيـرَ الفرح ِ الأخضر ِ

 

في حقل ِ الزمنْ

 

ثمّ لمـّـا هَـرِمَ الماءُ كـَبـا النخلُ

 

فحقـلي صار قـبـرا ً

 

ومناديل ُ الهوى صِـرْنَ كـَفـَـنْ

 

 

 إنها مخيلة الشاعر التي استقت قطرات المرارة من نبع الواقع الآسن، فانعكست على مرآتها صور المأساة التي تكبل وطنه السعيد الذي يتمنى أن يراه قريبا مهما شطـّ المزار وتباعدت الديار .. مأساة القهر الذي يحيل الخضرة إلى عفن، وبهجة الحياة إلى ظلمة قبر، والنخل الباسق ذا الطلع النضيد إلى أعجاز ٍ نخرة خاوية .. وكل ما هو جميل ونبيل وجليل بات باهتا ً مفزعا ً كالأكفان وصناديق الموتى، أو أعواد المشانق التي نـُصِبتْ على أسوار مدينة الرشيد، ويستطرد الشاعر نافخا ً في مزماره يرسل موّالا ً باكيا ً بعد أن كان يغني كالعصافير، ناعما ً في دفء الأهل والدار التي يفوح منها أزكى العبير من الأزهار المعلقة على جدرانها، وتصدح أنغام الحب على شرفاتها :

 

كان لي نهرٌ وزورقْ

 

وشـراع ٌ باتساع الشـوق ِ

 

كان العشـقُ بيرقْ

 

ثمّ لمـّـا شـنقوا حنجرتي

 

صار البكاءْ

 

كـَفـَنَ الصبح ِ وتابوتَ المسـاءْ

 

 

كان لي في سالف العصر ِ رغيـفٌ

 

ناعمُ الدفء ِ

 

ولي بيتٌ على جدرانه يثملُ زيتون ٌ وزنبقْ

 

ثمّ لمـّـا فتحت بغداد عينيها

 

على صبيان " عفلقْ "

 

وطني أصبح منفايَ

 

وجرحي صار خندق ْ

 

 

توظيف الرموز والأمكنة والأزمنة:

 

 تتخلل قصائد يحيى السماوي أسماء كثير من الشعراء الأقدمين والمعاصرين وبعض الأماكن الأثيرة لديه كي يدفئ بهم وبها حلمه . فهو يلحّ على إعادتها كي يراها ماثلة بين عينيه نضاحة بمكتنزاته الوجدانية، وكأنّ حضورها هو الذي يقيه من الموت في المنفى، ويؤكد وجوده ويصل ذاكرته بذاكرة الوطن .. إنه يستعيد بهذه الوجوه والأمكنة والأسماء عالمه الحبيب الذي كـَتب عليه الأشقياء أن يُحرم منه، أما أسماء الشعراء القدامى فقد نظمها على هذا النسق :

 

نـُعـاقِـرُ قـهـوة ً بالـهـيـل آنـا ً

 

ونسـمُـرُ تحـت دالـيــة ٍ بـآن ِ

 

وحيناً نسـتـريحُ إلى قـصـيـد ٍ

 

لـقيس بن الملوّح ِوابن هاني

 

وللضـلـيـِّل ِ قام إلى عـبـيط ٍ

 

ليرشف َمن قوارير ِالغواني

 

 وذكر من المحدثين شعراء العراق وفنان الشعب العراقي " فؤاد سالم " وذلك في

 قصيدة ( من يملك الوطن ) فيقرن أسماء الشعراء بأسماء الأبطال المناضلين الذين ثاروا على النظام، واستشهدوا في سبيل تحرير الوطن رجالا ً ونساءً :

 

يملكه ُ الشاهدُ والشهيدْ

 

وموقظ ُ الثورة من سُـباتها

 

يملكه الطريدْ

 

وشاهر السيف على " أبرهة الجديدْ "

 

و " مريم الناعمُ " ... " أم مصطفى "

 

و " حيدر الجضعانْ "

 

" نازك والسياب والجواهري ..

 

سعدي .. بلندٌ .. وفؤاد ٌ ..

 

 كاظم الريسانْ "

 

يملكه كلَ الذين أعلنوا العصيان ْ

 

على عـدوّ الله والإنسانْ

 

فليُسْـقِطوا هويّـة الأوطانْ

 

عنـّـا ..

 

غدا ً نـُسْـقِط عن رقابهم رؤوسَـهم

 

فـيسْـتـَعـيد مقـلـتيه " شاكر الجوعانْ "

 

 

 وهؤلاء جميعا من شهداء الإنتفاضة الشعبية في مدينة السماوة التي ينتمي إليها الشاعر ويترنم بها في قصائده، فـنسمع إذ نصغي إليه صدى مالك بن الريب التميمي وهو يذكر موطنه " الغـَضى "في حسرة واشتياق لاعج، حتى كرر اسمه ست مرات في الأبيات الثلاثة الأولى من قصيدته اليائية المشهورة التي كتبها وهو في سكرات الموت يرثي نفسه :

 

ألا لـيـت شــعــري هـل أبيتنّ لــيـلــة ً

 

بوادي الغضى أزجي القلاص النواجيا

 

لقد كان في وادي الغضى لو دنا الغضى

 

مــزارٌ ولـكـنّ الغضى ليـس دانــيــا

 

فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه

 

وليت الغضى ماشى الركاب ليالــيــا

 

 ويقول يحيى السماوي مرددا اسم بلدته " السماوة " ومناجيا نخلها :

 

فـيا نخـل" السـماوة ِ" أين مني

 

عذوق ٌ قد نـُضِـدنَ من الجمان ِ؟

 

ويا نخل " السماوة " أينَ أيـك ٌ

 

يـَدُبُّ إلـيـه لــيــلا ً عـاشــقـان ِ؟

 

 

 وهو يستدعي الشخصيات التاريخية التي قادت البشرية على طريق الحرية والعدل تحت ظلال القرآن الكريم، فيذكر النبي الصادق الأمين والخلفاء الراشدين الأربعة، بوصفهم محرّضين على الجهاد ومناقضين لرموز النظام في وطن الشاعر :

 

زمن ٌ ! رأينا فيه كلَّ رزيئة ٍ

 

ضِعنا به فوق الدروب نثارا

 

فكأننا لسنا عـشيرالمصطفى

 

هذا الذي رفع الجهاد شـعارا

 

وكأنما الصدّيق لم يغرس لنا

 

شـجرا ً أفاء بظلـّه الأمصارا

 

وكأنما الفاروق ما صلى بـنا

 

في القدس لما فـرّق الأشرارا

 

وكأنما عـثمان لم يـسـرج لنا

 

من مقلـتـيه على دجىً أنوارا

 

وكأنّ خيبر لم يـقـَوِّضْ بابَهـا

 

يـوما ً عـليٌّ حين كـَـرَّ وثـارا

 

 

 وأما أسماء الأماكن الجغرافية التي ترد في الديوان مثل المدن والمواقع ذات التاريخ المشهود في الماضي أو الحاضر، ففي مقدمتها بالضرورة المدن ا لعراقية وعاصمتها بغداد، ومن هذه المدن والأحياء البصرة وأربيل والرصافة والكرخ وكردستان، وهو يذكرها لا ليعبّـر عن مكانتها الأثيرة في قلبه ومثول طيفها أمامه في الصحو والرقاد فحسب، بل ليؤكد أنها مازالت تحيا على الرغم مما فعل بها المارقون من أبنائها، ويحلم بعودة شمسها إلى السطوع مثلما ينبعث طائر الفينيق من رماده ويملأ الدنيا غناءً . ويمزج الشاعر يحيى السماوي بين أسماء هذه المدن وأسماء بعض المواقع العربية القديمة التي اندثرت وكانت تمثل علامة فارقة في تاريخ العرب مثل " خيبر " وهو حيّ اليهود الذي سميت به الغزوة النبوية التي شنها الرسول عليهم بعد أن خانوا عهده، و " ذي قار " وهو الموقع الذي انتصر فيه العرب على الفرس فيقول مخاطبا وطنه المكبـّل بالأصفاد والنار بنبرة تكشف عن حزنه الدفين :

 

 

يا جرحَـنا الممتدُّ من " أربيل " و " البصرة ِ "

 

حتى شـَفـَــتـَيْ " مَـيـسـانْ "

 

السّـيْفُ من " بغدادَ "

 

والقبـضـة ُ من " تكريت َ "

 

والجثة ُ من " ذي قارْ "

 

هَـرَبْتُ من ذاكرة ِ النخل ِ

 

فما للنخل ِ لا يُـغـادرُ القلبَ

 

ولا نافذة َ الأفكارْ ؟

 

 

 وإذا كان شاعرنا قد ذكر " تكريت " بوصفها معقل الديكتاتور وعصابته من الأشرار، فقد استلهم قصيدة من وحي المدينة المنورة بوصفها موطن الأخيار البررة ومدينة رسول الله، ومن ثم اختار لها عنوان (يا دار خير عباد الله قاطبة ) . وقد اتخذها يحيى السماوي مقاما بعد أعوام عديدة من مغادرته بلده، فكانت دار الأمان التي مكث فيها زمنا ثم ألقى عصا الترحال في أقصى بقعة في الكرة الأرضية وهي مدينة استرالية يعيش فيها الان . وتشفّ هذه القصيدة عن انتمائه الإسلامي الأصيل وأنفاسه الحرى المتوهجة حين يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ومقدمه مشوقا الى رحابه العطرة التي قرت بها عينه، إذ كفلت له العيش الكريم وآمنته من خوف :

 

 أتيتُ " طيبة َ" هـمِّي يستبي هِـمَمي

 

سعيا ً على القلب لا مشيا ً على قدمي

 

يُـسـابـق الـقـلبُ أشـواقي فـيـتركـني

 

ظلا ًعلى الدرب ِأو عصفاً بمُضْطرَم ِ

 

بي للأمين من الأشـواق ِ عـاصِــفـة ٌ

 

فـهـل ألامُ إذا عـانيتُ مـن غـَـرَمي ؟

 

 ويقود الحنين مرة أخرى إلى وطنه فيذكر بعض مدنه وأحيائه ملتاعا ً محزونا ً لعجزه عن إنقاذها من براثن الفجرة :

 

على " الرصافــة " أوثان ٌ مُـدَنـّسَـــة ٌ

 

وظبية ُ" الكرخ" بين الصاب ِوالصَّنم ِ

 

 

 وتشغل القدس زهرة المدائن إحساس شاعرنا وضميره بعد وقوعها في أسـر الصهاينة قراصنة العصر، فنراه يخاطبها في قصيدته ( المتاهة ) مكررا اسمها ثلاث مرات :

 

 

يا قدسُ قد رخص النضـالُ وأرخـَصَتْ

 

شـُهُـبُ الـمناصب ِ باسـمـك ِ الأسـعـارا

 

يا قـدسُ قــد باعـوك ِ سِــرّا ً فاســألـي

 

" طابا " عـسـاها تـكـشـف ُ الأسـرارا

 

يا قـدسُ مــا خان الـجـهـادُ ... وإنـّمـا

 

خـان الــذي بـاسـم الجـهــاد تــَبـارى

 

 

 فهو يشجب إتـِّجار الساسة بهذه المدينة العربية الإسلامية التي يقع بها بيت المقدس أول القبلتين وثالث الحرمين، وكأنهم النخاسون الذين يقيمون مزادا لبيع العبيد وشرائهم، ويكرر كلمة الجهاد في القصيدة بوصفه نقيضا ً للعمل السياسي المراوغ :

 

حَـتـّام نــلــقي الـلـوم في أعــدائـنــا

 

إنْ كـان صــرحُ جـهـادنا مـنـهـارا ؟

 

 

 ومن المدن التي ذكرها الشاعر باعتبارها رموزا ً ذات دلالات تاريخية " بابل " إذ تشير إلى عراقة وطنه العراق . ولما كانت " بابل " رمزا لهذا الوطن المقهور المأسور، فقد استعادت ذاكرته السبيَ البابلي، متشائما ً من مصير بلده :

 

فاكتبْ وصِـيّـتك َ ..

 

المدائنُ شـَيّـعتْ أقمارها

 

لا شيء يُنبئ أن " بابل " سوف تنهض مرة ً أخرى

 

فتفتح بعد هذا السبي باب المستحيلْ

 

 

 ومثلما وظف السماوي المكان لتحقيق الأغراض النفسية والفنية التي أشرنا إليها وظف الزمان لذلك أيضا . فهو يذكر شهري تموز ونيسان بوصفهما رمزين للعار المتمثل في انقلاب 17 تموز وولادة صدام حسين فيقول في قصيدته ( سأقول ما بي ) :

 

قررتُ أن أقول ما بيْ

 

وطني غانية ٌ مهتوكة ُ الإزارْ

 

يا عارَنا الممتدَّ من مقلة ِ " تموز َ"

 

إلى السابع من " نيسانْ "

 

 

 ومن مفردات الزمن يوظف نصف الليل لارتباط هذا الوقت بالغارات التي تشنها السلطات الغاشمة الديكتاتورية عى بيوت معارضيها وأهليهم ورفاقهم، لاغتيالهم أو سلخهم أو الزج بهم في زنازين السجون، فيقال " زوار الفجر " أو " زوار نصف الليل " كناية عن جنود أولئك السفاحين والشياطين العتاة . ويسمي الشاعر هذه الغارات الرهيبة بالفتوحات من قبيل السخرية، وشر البلية ما يضحك، لأ ن مدبريها الأوغاد يعدونها بطولات ويباهون بها :

 

ألموتُ من خلفي

 

ومن أماميَ الإعصارْ

 

على فمي تنهضُ عفراء منىً شهيدة ً

 

وفي دمي حديقة ٌ مذبوحة ُ الأزهارْ

 

فمن يُقيلُ عثرة َ الهارب ِ من ذاكرة ِ النخل ِ

 

إلى ذاكرة الإعصارْ ؟

 

خجلتُ من قيح البطولات التي تبدأ نصفَ الليل ِ

 

ما عدتُ فتى الـفرات ِ

 

والفراتُ ما عاد َ فتى الأنهارْ !

 

 

 ويستعمل يحيى السماوي أسماء مواقيت أخرى في تلك القصيدة مثل الصيف والليل والنهار للدلالة على دوام القهر رغم تقلب الزمن، ويختم نغمها الأسيان البكائي، لتحول العراق إلى مقبرة أو أطلال رمادية يخيم عليها شبح الظلام والخراب والفناء، بنفثات وأنات من صدره الكظيم وتساؤلات حائرة فاجعة، كأنها عويل الجنازات التي تحمل جثة الوطن ورفات الأحلام المجهضة في تابوت :

 

ألحَظ ُّ في الفنجان ِ .. والرغبة ُ في الخوذة ِ

 

والرمادُ في الأهوارْ ..

 

لا النجمُ في الليل ِ

 

ولا الشموسُ في النهارْ

 

يا وطني المحترق َ البيوتْ

 

يدي على قلبي

 

وقلبي في فمي يشربُ وحْـلَ الخوفِ والسكوتْ

 

من أين لي

 

لجُثـّـة العراق ِ

 

للنخل ِ الفراتيِّ

 

لجثمان المنى تابوت ْ ؟

 

التضمين والتناص :

 

 

 يُعَـدُّ التضمين أو التناص سمة ً أساسية من سمات ديوان ( هذه خيمتي .. فأين لوطن ؟)، وتضمينه منصبٌّ على الشعر العربي القديم، فهو يمتاح من ينابيعه الثرّة، ويوشـّي رداء شعره القشيب بلآليء من كنز هذا التراث الثمين، معيدا قراءته في ضوء معطيات العصر ورؤية الشاعر، فيُسقط ماضيه على الحاضر . كما أن تضمينه أبياتا ً من الشعر القديم يدلّ على عمق انتمائه للحضارة العربية، وعلى رغبته الدفينة في اتخاذ أسماء الأشخاص أو الأماكن التي وردت بهذه الأبيات وقفات ٍ للتذكار، أو صُـوى ً يُسرج بها فتيل الوطن البعيد في ليل الترحال الطويل، ويؤكد لنفسه الهوية والنعت، أو صدىً للأصوات النائحة في حناياه .

 

 ويتبدى التضمين في إقامة علاقة مع نصوص من التراث، لخلق معادل لبعض الأبعاد الفكرية والوجدانية للشاعر، إما باستخدام النص القديم بتمام عبارته أو بعد تعديلها لتلائم المعنى الذي يقصده، ومن ذلك اقتباسه من معلقة عمرو بن كلثوم الشطر الأول من البيت الآتي :

 

إذا بلغ الفطام لـنا صبيٌّ

 

تخرُّ له الجبابر ساجدينا

 

 فهو يعكس المعنى للدلالة على ما آلت إليه الأمة العربية من انكسار بعد انتصار ومهانة بعد عزة فيبدل بالشطر الثاني الشطر الآتي :

 

فقد بلغ الكهولة من هوان ِ

 

 واقتباسه من تلك المعلقة الشطر الأول أيضا من البيت الآتي :

 

ملأنا البرّ حتى ضاق عنا

 

ونحن البحر نملؤه سـفينا

 

 ولكنه يُحـوّر الشطر الثاني إذ يقول :

 

جموعا ً باحثين عن الأمان ِ

 

 نجد هذا التضمين في قصيدته ( أحنُّ إليك )، كما نجد مثيله في قصيدة ( قانا ) إذ يستعير من المتنبي الشطر الأول من البيت الآتي :

 

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

 

حتى يـُـراق على جوانـبــه الــدم ُ

 

 

 ويستبدل بالشطر الثاي قوله :

 

 حتى يُـعيدَ لنا البلاد َ جهادُ

 

 ومن أبي الطيب المتنبي أيضا يقتبس كلمات من بيته المشهور :

 

عـيد بأية حال عـدت يا عـيـدُ

 

بما مضى أم لأمر ٍ فيك تجديدُ

 

فيقول السماوي :

 

" عيد ٌ بأية حال ٍ عدتَ " لا وطني

 

في مـقـلتيَّ .. ولم يصدح مـحـبّـونا

 

 

 ويستعير مطلع قصيدة ابن زيدون التي أوحت إليه بها ولادة بنت المستكفي، ويحوّر الشطر الثاني إذ يقول :

 

" أضحى التنائي بديلا ً عن تلاقينا "

 

وعــن مـبـاهـجـنا نابـت مـآســيـنــا

 

 كما يضمن قصيدته ( يا دار خير عباد الله قاطبة ) صِيَغا ً أسلوبية من بردة البوصيري كما يبدو من البيت الآتي :

 

هو الحبيب الذي تـُرجى شفاعته

 

إذا توطـّنَ حبلا ً غـير َ مُـنصَرِم ِ

 

 

 أما التناص عند الشاعر فإن من أمثلته استيحاء الآية الكريمة ( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا ً جنيا )، إذ يقول في أولى قصائد ديوانه :

 

رأيت ُ نخلة ً على قارعة الرب ِ

 

هززتها

 

فانهمر الدمع ُ على هـدبي..

 

وعندما هززتُ جذع الأرض يا ربي

 

تساقط العراق في قلبي

 

 وكذلك استلهامه بيت الملك الضليل امرئ القيس :

 

وقد طوّفـت في الآفاق حتى

 

رضيت من الغنيمة بالإياب ِ

 

 إذ يقول السماوي في قصيدة ( للجرح نافذتان ) :

 

ما خنتُ طينك حينما استبدلتُ عكـّـازا ً بسيفي

 

والتغرُّبَ بالإيابْ

 

 

مزج الحداثة بالتراثي :ِ

 

 يستقي الشاعر يحيى السماوي من نبع الشعر التراثي كثيرا من الألفاظ التي تأتي أحيانا بمعناها القاموسي كما في قصائده العمودية، أو بمعناها الدلالي كما في القصائد التي اتخذت قالب الشعرالحر " شعر التفعيلة "، ومن ثم كانت قصائده الثانية أجود من

الأولى وأدخل في دائرة الإبداع الفني . فهو يكثر من استعمال الكلمات المتداولة في الشعر القديم مثل السيف ومرادفه وهو الحسام ومتعلقاته مثل الغمد والحمائل، ومثل الخيمة والوتد والنخل وعذوقه والخيل ورباطه . والخيمة عنده رمز للوطن حينا ً وللبلد الذي يأوي إليه خارج وطنه حينا ً آخر، كما أن النخل رمز للعراق لشهرتها به، وقد يستعمل هذا اللفظ للدلالة على السموق والشموخ والكبرياء . وقد استعمل من معجم الشعر الكلاسيكي كلمة عرار، واستخدم غير مرة كلمة رماد لما توحي به من معنى الوطن الذي بات أطلالا ً بعد احتراقه .

 

 وكثيرا ما يوفق فنيا ً حين يُضَـفـّر الحداثي بالتراثي أسلوبا ً أو معنى ً لإضافة روح الإنتماء إلى العروبة على الرؤية وعبير الماضي على النص، مثل قوله في مستهل قصيدته ( نداء إلى أبي ذر الغفاري ) :

 

أبا ذرْ

 

قـمْ

 

إنَّ سـيفك الذي ينام في المتحف

 

ما عانقه الفرسانْ

 

وقومك الذين بايعوك أمس ِ

 

أنكروا البيعةَ َ

 

خاوا النهرَ والبستانْ

 

 

 وقوله في هذه القصيدة أيضا متخيلا ً الصحابي بلال بن رياح، وقد عاد إلى الحياة في عصرنا، وأذَّن للجهاد، فكان جزاؤه أن اعتقل وزجّ به في عالم السدود والقيود :

 

وليس من مؤذن ٍ

 

 يهتف بالجهاد في الصلاة ْ

 

" بلال " في زنزانة مجهولة ٍ قد ماتْ

 

 

 ويضفر الشاعر نسيجا ً واحدا ً من خيطين مختلفين، أحدهما من وحي شجاعة أبي ذر الغفاري وفضائله، والآخر مشهد عصري يدل على الجبن واستمراء الولوغ في مستنقع الخنا والرذيلة التي يعربد فيها أشباه الرجال، على حين تخضب الأرض من حولهم وتحتهم دماء الأبرياء :

 

أبا ذرْ

 

تـَعَـلـَّمَ الرجالُ بعدك الحروبَ

 

في زوايا عُـلـَب ِ الليل ِ

 

وفي المؤتمرات ِ..

 

في الإذاعات ..

 

البيانات التي لوّثت ِ الجدرانْ

 

فانتصروا بالدفّ والمذياع والغناء ْ

 

ونحن؟

 

نستحمُّ في بحيرة ِ الدماءْ

 

 

 ويوظف الشاعر في هذا النص تقنية التضاد : القاتل واللص قاضيان، والميدان الذي تجَـوّل فيه الفرسان حديقة للعجزة والجبناء، والرداء الأبيض للصحابي المناضل الطاهر ثوب للغانية التي ترقص للسلطان في الليالي الحمراء :

 

ومنذ أنْ غفوت َ والقاتلُ قاض ٍ

 

واللصوصُ يمسكون قبضة َالميزانْ

 

أبا ذرْ

 

وأصبح الميدانْ

 

حديقة ً يصولُ في أرجائها الأشـلُّ

 

والمعمودُ والجبانْ

 

وثوبك الأبيض شـالٌ للأنـيسـة ِ التي

 

سـامرها السلطانْ

 

 

 وفي المقطع الأخير للقصيدة يرسم يحيى السماوي لوحة ً تشكيلية ً من دم قلبه تخضبتْ ومن دماء قتلى الإخوة الأعداء التي تملأ ساحات المدن العربية وأزقتها، وقد سقطوا فيها صرعى الغدر والخيانة :

 

أبا ذرْ

 

أمس ِ رأيتُ الجثث الملقاة َ في الشوارع الخلفية ْ

 

لكنما الـثـقـوبُ في ظهورها

 

تنبتُ كالزنابق الحمراءْ

 

فاعلمْ بأنَّ القاتلين إخوتي

 

وأنَّ من داخلنا الأعداءْ

 

وليس من نداءْ

 

غير المناشـير التي تبصقها الريح

 

وغير الخطب ِ الجوفاءْ

 

تـُطلـَقُ من فنادق الغرب ِ

 

ومن صالاته الخضراءْ

 

 

 ومن قبيل تضفير الحداثي بالتراثي مزج الرغيف بالحسك، والكوثر بالدم والوحل، في قصيدته ( شدي شراعك ) :

 

أنا ما نحلتُ لأنّ صحني مُعْـسِـرٌ

 

لـكـنَّ صحـنَ الــرافــدين نحيـل ُ

 

 والمراوحة بين المواويل والأوتار في قصيدة ( كان لي ) :

 

ثم لـمّـا أصبحت بغداد كرسيّا ً لمنبوذ ٍ

 

وصحنا ً لِـنـَفـَرْ

 

صارت الأوتارُ قيدا ً

 

والمواويلُ ضجرْ

 

واللظى صار مطرْ

 

وبعد، فهذا شاعر أصيل مكتمل الأدوات ينزف ألمه شعرا ً عذبا ً شجيا، جامعا ً بين الصدق الواقعي والصدق الفني المتمثل في إجادته استعمال تقنيات التراثي والحداثي في مزج دال على مقدرة، وهو يملك مع الغنائية سمة ً درامية ً حبذا لو وظفها في إبداع ملحمة أو مسرحية شعرية، ولا سيما أنه يملك أيضا طول النـَفـَس، وله تجربة شخصية مليئة بالأحداث المشهودة، وخبرة بالمجتمع في وطنه وبالمجتمع في البلدان الأخرى التي اتخذها منفى ً هناك في أقصى ركن ٍ من المعمورة .

 

 الدكتور حسن فتح الباب

 القاهرة

 

(*) هذه خيمتي .. فأين الوطن ( الطبعة الأولى 1997) حائز جائزة الإبداع الشعري برعاية جامعة الدول العربية للعام 1998

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com