|
دراسات نقدية "قصائد تمطر نرجسا" للشاعرة الكوردية كزال أحمد إلى العربية
ابراهيم حاج عبدي/ دمشق بقلم مرهف، حنون، وبنبرة خافتة، حية تكتب الشاعرة الكوردية كزال أحمد أحلامها، وهواجسها، وأمنياتها في مختاراتها الشعرية الصادرة، أخيرا، باللغة العربية في عنوان "قصائد تمطر نرجسا" عن دار المدى (دمشق ـ 2008). للمرة الأولى تترجم قصائد الشاعرة الكوردية إلى اللغة العربية وتطبع في كتاب، رغم أنها أصدرت بلغتها الكوردية الأم أربع مجموعات شعرية هي: "مرفأ برمودا"، "أقول القول"، "فنجان قهوة معه"، و"كسّرت المرايا"، كما صدر لها "كتاب المرأة" الذي يضم مجموعة من المقالات والدراسات، وفي مجال الترجمة قامت بترجمة كتاب "الهويات القاتلة" للكاتب اللبناني أمين معلوف إلى اللغة الكوردية. وهي، فضلا عن كونها شاعرة، تعمل في الصحافة. قام باختيار وترجمة هذه المختارات الكاتب الكوردي صلاح برواري الذي أولى عناية خاصة للتشكيل، ولعلامات الترقيم، كما قدم هوامش توضيحية وافية، تشرح معاني مفردات تشير إلى الأماكن والشخصيات والرموز والتقاليد الواردة في متون النصوص، والنابعة من واقع الثقافة الكوردية المحلية، والتي يصعب على القارئ العربي فهم مدلولاتها دون شروح، وكان برواري حريصا على صدور الديوان بأبهى صورة ودون أخطاء، إذ كان يتابع مراحل التنضيد والإخراج، وتصميم الغلاف وغيرها من المراحل حتى لحظة إرسال الديوان إلى المطبعة، وقد أثمر هذا الاهتمام عن كتاب جميل الشكل، قيّم المضمون. إذا كان الشعر، في طبيعته وبنيته العامة، رقيق، وعذب، فإن القصيدة حين تكتب بأنامل الأنثى تكتسب مذاقا خاصا من الرقة والعذوبة، ذلك أن الأنثى تضفي على الصور الشعرية، والصياغات اللغوية شيئا من روحها الشفافة. وفي "قصائد تمطر نرجسا" نلاحظ بان نصوصها أمينة لهذا العنوان الرومنطيقي، الحالم. قصائد خفيفة الظل، رقيقة المحيا، تعبر أسماعنا كخفقة جناح الطير، أو كـ "أثر فراشة" على وريقات الزهر، وتمر أمام أبصارنا كضياء قمر ينير ذرى جبال كوردستان. هي بسيطة، ومألوفة تداعب المخيلة بلطف، وكأنها أنشودة تنشدها الأم بإيقاع موزون كي ينام طفلها الباكي، تقول كزال في قصيدة "أنت": بينك وبين صورة قديمة لك/بالأبيض والأسود/ثمة فارق. /شعر شاربيك ابْيَضَّ/ووخطك الشيب،/ وثمة تغيرات قسرية أخرى/ طرأت عليك./ لكن بسمتك ونظرتك باقية...كما هي!/ أتعرف لِمَ؟/ لأن شيئين لا يشيبان: الضحكة/ وسحر النظرة العاشقة!. لا تنسى الشاعرة، وهي تدون قصائدها بسلاسة ودعة، أن تطرح هموم المرأة ومعاناتها، وان تشير إلى مجموعة العادات والتقاليد البالية التي تكبل المرأة وتجعلها رهينة البيت، بينما أحلامها وتطلعاتها تموت تحت وطأة اليومي والمبتذل. تقول كزال: طيور آمالي.../حين تفرد أجنحتها،/ لا يسعها الكون". لكن هذه الآمال غالبا ما تشكل نقمة على المرأة التي لا تتاح لها التجربة الكافية، ولا تتوافر لها الحرية في أن تكون أمينة لذاتها الهشة، ولرغباتها، ولطموحها. وفقا لذلك، فان هذه المختارات الشعرية تعيد إلى الذهن تلك الأسئلة التي طرحتها الروائية والناقدة البريطانية فرجينيا وولف في كتابها "غرفة خاصة بالمرء وحده"، الصادر عام 1929م، والذي ينطلق من حجة رئيسة تتمثل في "أن المرء يجب أن يمتلك مالا، وغرفة خاصة به إذا ما أراد أن يبدع"، وهي تتوسع في هذه الفكرة، التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكن الأهم في كتاب وولف هو قناعتها بأن ما يحول بين المرأة والإبداع هو افتقارها إلى الثقة بنفسها، وإلى التجربة الواسعة، والعلاقة الحميمة مع الأحداث، فالمبدع نتاج ظروفه التاريخية، وكلما اتسع نطاق التجربة اتسعت فرص الإبداع. وتورد وولف مثالا حول هذه الرؤية، إذ تعقد مقارنة بين وليم شكسبير وبين شقيقته جوديث شكسبير، فهذه الأخيرة لم تتمكن من كتابة حرف، بل انتهت محبطة على عكس شقيقها وليم شكسبير الذي أبدع في الكتابة، أيما إبداع، وتضيف في هذا السياق، دعما لوجهة نظرها، بأن "أفضل ما في روايات جوزيف كونراد، مثلا، كان سينتهي لو انه استحال عليه أن يكون ملاّحا"، وكذلك تقول: "أبعدوا كل ما كان تولستوي يعرفه عن الحرب كجندي، وعن الحياة والمجتمع كشاب ثري وفر له تعليمه الوصول إلى مختلف أنماط التجارب، ستجدون (الحرب والسلم) رواية بائسة". هذا الهواجس والمخاوف تطغى، بهذا القدر أو ذاك، على أجواء هذه المختارات، ففي قصيدة "في وطن الاغتيالات، الشارع أحب إلي من الرجل" تبوح كزال بصوت الأنثى المقهورة، وتقدم على مكاشفة تظهر الغبن الذي يقع على المرأة، إذ تقول: الشارع لا يقول لي/ أيتها الفتاة المجنونة/ من أين... والى أين؟ الشارع لا يَظْلِم،...تصبح المرأة مهيضة الجناح/ حين تمر/ في زقاق حب رجل ظلامي، نرجسي/ ربيب الجهل. ولعل الشاعرة هنا تستعير صوت الأنثى المقموع منذ قرون. تدافع عن دورها، ومكانتها، وتحرضها على الاقتداء بها، فالشاعرة كزال استطاعت أن تتجاوز كل العراقيل التي تكبل المرأة، وعثرت على صوتها الخاص، وراحت تكتب وتعمل وتسافر لتقدم النموذج الأمثل لامرأة حرة، تقول في قصيدتها الجميلة "بتنورة حمراء قصيرة" وعلى نحو مجازي: قصيدتي تشمر عن زنديها/ وتكشف عن ساقيها، تحاكي النرجس والشقار والجوري/ بتنورة حمراء قصيرة. لتصل إلى القول: لن تصدق مدى تعلقي بالحياة، /الموت يوشك أن يموت تحسرا/ على قبلة مني. إن هذه الجرأة التي تتحلى بها نصوص كزال أحمد لا تهدف إلى "إثارة مجانية استعراضية"، بل هي تعبير لما يجول في أعماق النساء اللواتي حرمن من حقوقهن الكثيرة، فهذه الجرأة تسعى إلى نبش الجمال الغافي في أعين النساء اللواتي استسلمن لأقدارهن وكأنهن سبابا في مرحلة حققت فيها المرأة شوطا كبيرا في مضمار تحررها. إنها جرأة لا تثور على الثوابت والمحظورات المعروفة في المجتمع الكوردي، المقموع والمضطهد منذ أزمنة قديمة، لكنها، في الآن ذاته، لا تستسلم لكل من يحاول سجن المرأة في "قفص ذهبي"، وكزال أحمد تجهر بذلك، إذ تقول: "كسّرت مرايا القدر التقليدية،/ التي تتسمر أمامها/ الفتيات الكسيرات/ منذ زمن. /منذ زمن لا أراها ولا تراني،/ مذ أن: هشمت مرآة الجغرافيا والتاريخ،/ ومثل (مستورة)،/ حيال مياه الشعر الرقراقة/ اعتمرت زينة العقل والكمال. وهي هنا تدعو الفتيات اللواتي يقضين أوقاتهن أمام المرآة إلى الاقتداء بها، إذ تكاد الشاعرة تموت غيظا وكمدا وهي ترى كل هذه الكتب القيّمة، مهجورة، وقد علا أغلفتها الغبار: تغضبني كثيرا/ تلك المرايا/ التي تشغل الفتيات/ لساعات طوال،/ بينما كل تلك الكتب الجميلة/ في انتظارهن، قد نبشت شوارع اليأس!. ليس غريبا، والحال كذلك، أن يحفل نص كزال احمد بأسماء شكلت علامات بارزة في المشهد الثقافي الكوردي المعاصر والقديم، من أمثال الشاعر محوي، والشاعرة الكوردية المعروفة مستورة (ماه شرف خان اردلاني)، والمتصوف الكوردي الشهير الشيخ خالد شهرزوري النقشبندي، ودغدوفا والدة النبي الكوردي زرداشت...وفي قصيدة بعنوان "مئة عام وأنا في شوق إليك..مئة عام" تخاطب كزال روح الشاعر الكوردي المعروف جكر خوين لترثيه بعد رحيله منذ نحو أربعة وعشرين عاما. تتحسر الشاعرة على عدم لقاء الشاعر الكبير، لكنها مع ذلك تحتفظ له بشوق وتقدير كبيرين، فتقول: جئتك ذات صباح، / احمل إليك باقة ورد/ من (بارك آزادي)/ مضمخة بعطر فتيات نجلاوات، جلت في غرفتك/ لمست صحونك وملاعقك/ وملابسك المغبرة، / تملكني الشوق إليك/ فوقفت واجمة / أمام قدح ماء لك، واشتد بكائي.
وفي قصيدة وجدانية مماثلة
تخاطب الشاعرة روح الشاعر
الكوردي الراحل عبد الله
كوران لتدون تفاصيل لقاء
متخيل جرى بينها وبين كوران
الذي حرضها على الشعر. تقول
كزال في مونولوغ متخيل، جميل:
هو من عرّفني إلى الخريف/ هو
من عقد قراني على الشعر/ هو
من قال لي:/ كوني كما أنت/
طفلة دائمة الشغب،/ قسما إنك
أجمل هكذا!. ولم تشأ الشاعرة
أن تخالف وصية كوران فبقيت
"طفلة دائمة الشغب" في رياض
الشعر كـ "غزالة حرون" وفق
وصف برواري، تقطف من ثماره
الشهية، وتعانق الثقافة
الإنسانية بكل رحابتها،
وثرائها، ففي هذه المختارات
تتردد أسماء شعراء كبار مثل
الشاعرة الإيرانية فروغ
فرخزاد، ونيما يوشيج، وسهراب
سبهري، وت.س. اليوت، وآرثر
رامبو، وسيرجي
يسينين...وغيرهم ممن تركوا
بصمة لا تمحى في قلب الشاعرة
التي سعت، بدورها، إلى
مجاراتهم، وراحت تستطلع مشاغل
الحياة، لتصوغها قصيدة حافلة
بالأمل، والدهشة، وعشق
الحياة.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |