دراسات نقدية

النقد تحتَ عبـــــــاءةِ المتنبي .. الحلقة الدراسية في مهرجان المتنبي  العالمي

  

أسامة الشحماني

إنه لمن غير الخفي على المتابع لموضوعة الإحتفاء بالشعر والشعراء أو تقديمه في العديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية العربية ما يكاد يصحبُ كلاً منها على إختلاف النسب طبعاً من ضجيج أو إحتجاج قد يدخل ذلك النشاط الثقافي مناطق تخرج تماماً عمَّا يمكن أن يمتَ للثقافة على إختلاف مفاهيمها بصلة، ولعل الأنكى من ذلك حين تتحول الفعالية الثقافية الى حلبة يستعرض فيها منطق القوة بأبشع صوره كالذي حدث في المربد الأخير في مدينة البصرة، ولذا أجدني مجبراً أن أشير هنا ومنذ البداية الى تلك الأجواء الثقافية الحميمية التي سادتْ مهرجان المتنبي الذي يقيمه سنوياً المركز الثقافي العربي السويسري على إمتداد دوراته الثمانية، تلك التي نجح فيها وعبرها في أن يخلق له هوية خاصة به حملتْ من الميزات ما يؤهلها لأن تكون أنموذجاً يحتذى إبتداءً من آليات الإدارة وإختيار الشعراء من مختلف بلدان العالم، مروراً بإعداد وتحضير النصوص لتتم ترجمتها الى اللغات (العربية،الألمانية،الفرنسية،الإيطالية)، وليس إنتهاءً بتهيئة أماكن إقامة الضيوف ووسائط نقلهم الى أماكن قراءاتهم حيث يحتفى بالمبدع ونصوصه في حاضنة ثقافية تجمع بين أطياف متعددة إذ حرصتْ إدارة المهرجان ممثلة بالمدير العام لها الشاعر علي الشلاه على أن تكون القراءات في خمس مدن سويسرية هي زيورخ، بازل، بيرن، جنيف، لوكانو، مما منح التجربة نكهة خاصة بها .

الشعر والمسرح هو موضوعة مهرجان المتنبي في دورته الثامنة لهذا العام، أي أنه جمع بين الجنسين الأكثر جدلا في دائرة التجنيس الأدبي الذي عرفته مؤلفات نظرية الأدب على إختلاف لغاتها، ومما لاشك فيه إن موضوعة بمثل هذا الإكتناز والعمق التاريخي في ذاكرة الإبداع الإنساني وما مر به من حقب وإنتقالات لابد لها أن تتخذ مسارات بحثية وقرائية ذات تشعبات ورؤى شائكة قد يبدو من العسير الإحاطة بها من كل الجوانب، على إن هذا لم يكن سبباً أو عائقاً في أن تفردَ لهذه الموضوعة حلقة نقاشية، متميزة بغنى ما تطرقت إليه من طروحات جادة، حاول المناقشون فيها تسليط الضوء على جدلية العلاقة بين الشعر والمسرح عبر محورين أساسيين الأول هو البعد التاريخي لهذين المفهومين و طبائع التداخل فيما بينهما وقد تحدث في هذا المحور الشاعر العراقي الكبير خزعل الماجدي متخذاً من تجربته الخاصة المتأرجحة بين الشعر والمسرح دالة واقعية على ما أسس إليه من مفهوم نظري مجرد، فقد أشار في البداية الى ماهية المسرح وأهم ما كان يميزه في المثيولوجيا القديمة وسلسلة تعالق الحضارات فيها مركزاً على الحضارة السومرية والبابلية بوصفهما الحاملتين في بنيتهما الثقافية لأهم اللحظات التاريخية التي تحدد فيها مفهوم المسرح حيث تم إنفصاله عن الحاضنة الدينية، أو ذلك الرحم الذي ضمَّ البذور الأولى لجدل التفكير المسرحي، وهنا توقف د. الماجدي عند محطات تاريخية هامة تمأسست على عقلية مسرحية منها عيد رأس السنة السومري (زكمك)، وعيد الأكيتو البابلي، الذي وصفه بمهرجان الدراما البابلية، وكذا (مرثية أور) والتي هي وإن كانت نصاً دينياً يقدم في معبد (أنانا) على إنها نص شعري بموقومات مسرحية، ثمَّ تدرج الماجدي بمفهوم المسرح والشعر داخل المسرح مزاوجاً بين التجارب الأوربية تلك التي نشطت العلاقة بين المفهومين كتجربة إليوت، وغيرها من التجارب العربية كأحمد شوقي، ليصل الى طرح سؤال ذي طبيعة إشكالية إختزله بــ ما هو السبيل لعودة الشعر الى المسرح ؟

وهنا أنهى مداخلته مجيباً على سؤاله بما وضعه في أربعة نقاط هي :

 1.    أن نثابر على أن يكون المضمون الشعري وليس النظم الشعري حاضراً في المسرح .

2.    أن يعتمد المسرح على المفهوم الشعري للصورة، بكل ما يحمل من غرائبية ودهشة أو مفارقة وجمال .

3.    أن نفجر طاقة الخيال في المسرح بالشكل المقارب لما يحدث في اللحظة الشعرية .

4.    أن نقف عند اللغة وقفة تأملية غير عجولة، فهي الأداة الأكثر وضوحاً في تلك المقاربة .

أما المحور الثاني فقد تحدد في المسافة الفاصلة بين هذين الفنين، أحقية وجودها، والى أي مدى كانت متمتعة بوضوحٍ كافٍ ؟

وهنا تحدثت الشاعرة النمساوية إنجريد فيختنر واصفة تلك العلاقة بكونها على درجة عالية من المطاطية والتأرجح، الذي يزيد إضطرابه كلما زاد النفس الشعري إستطالة، وكلما جرى التعامل مع النص المسرحي كمادة مقروءة، وقد أشارتْ الى تلك الوشائج الرابطة بين الشعر والمسرح ممثلة بالشعراء والشواعر العرب ( حيث مازالوا يصرون على تذويب المساحة بين الفنين إذ يستعيرون الكثير من آليات الفضاء المسرحي حين يقرؤن نصوصهم، وهذا مما يتميزون به فيما لو قورنوا بغيرهم من المحيط الأوربي )، ولم تجد حرجاً في إعادة طرح تساؤلات من قبيل : هل يجب أو ينبغي أن توضع محددات واضحة بين الفنين ؟ أين بدأ المسرح، وأين بدأ الشعر ؟ والى أين يسيرُ كلٌّ منهما ؟

ثمَّ إختتمتْ مداخلتها بالنظر الى المضمون الشعري على إنه إخراجٌ لغوي، وأنْ لكل نص شعري خشبة مسرحه الخاصة به، فالشعر يغامر ويتخطى ليملك حقيقته التي لا تختلف في جوهرها عن حقيقة المسرح إلا ظاهراً وربما من النظرة الأولى وحسب .

   وفي هذا المحور تحدثتْ الشاعرة المغربية د. فاتحة مرشيد من منطلق النظر الى الشعر بوصفه ثقافة حياتية مماحكة لوجود الإنسان الذي لايمكن له أن يتحقق إلا من داخلها، ومن هنا فإن الشعر هو الأساس أو القيمة التي سرعان ما يستحضر عبر مؤدياتها واقع الإنسان، ذلك الذي يسير في إتجاهات باتت على درجة عالية من التعقيد والتشاكل، وبناء على ذلك فإن الشعر مطالبٌ اليوم بإعادة التصالح مع ذاته أولاً ثمَّ الى إعادة لحمته وإلتحامه بفنون الإبداع الأخرى وأهمها المسرح، الذي يمكن أن يشكل له أحد أهم مصادر الإثراء .

ثمَّ أعاد الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة دفة الحوار مجدداً الى المسرح في التاريخ ولكن من زاوية تجربة الشعراء المصريين ولاسيما الشاعر الكبير أحمد شوقي، وقد ركز في حديثه على أثر الموسيقى في الشعر، وصلاحية الشعر المموسق لخلق الروح المسرحية بالمقارنة مع الأشكال الآخرى للتعبير الشعري على مستوى الموسيقى والإيقاع الداخلي .

أما المخرج السويسري بيتر براشلر فقد آثر على أن يمسرح ما أراد قوله في هذه الجلسة فهو الوحيد الذي تحدث واقفاً متخذاً من لغة الجسد أداة أرادها أن تفي بالمعنى فتغني عن ترجمة ما قاله بالألمانية الى اللغة العربية، فقد نفى الفواصل والحدود بين الشعر والمسرح وعدها مما يمكن قبوله على المستوى النظري فقط، أما على مستوى الواقع الإبداعي بين الفنين فإنه بالنسبة له كالعلاقة بين ما يجري في عروق الإنسان من دماء وما يحيط بتلك العروق من لحم، الشعر كما يفهمه براشلر هو ذلك الدم أما المسرح فهو كل حركة دالة على وجود هذا الدم، على حيويته ومعدل جريانه .

  وقد أختتمتْ هذه الجلسة النقدية بنداء الشاعرة البلجيكية روز ماري فرانسواز، إذ قالت إن الشعر مقاومة، إنه سلاح حيوي فعال ندافع به ومن خلاله عن كل ما يجعلنا مطالبين بقبول اللغة الواحدة، كما تفعل جميع القوى الكبرى، وإذا أردتُ أن أشير الى تاريخ المقاومة في فرنسا فلا أجد أكبر وأعمق وأدق من مقاومة الأدب الفرنسي لكل طرائق الإحتلال العقلي .

ثمَّ تداخل مع المتحاوريين عددٌ من الحضور ليمتد بالجلسة الزمن الى الساعتين والنصف، كانت بمجملها وقفة غنية جادة لبحث أهم ما يمكن أن يتبادر الى الذهن حين يتلقى موضوعة الشعر والمسرح.

  

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com