|
دراسات نقدية الشعر الشعبي في الوجدان العراقي .. قراءة في قصيدة مظفر النواب (الريل وحمد)
فارس حامد عبد الكريم الشعر الشعبي لحن عميق الحزن ينبعث من عمق الوجدان العراقـي ، وهو الآه الوطنية في صورة قصيدة ولحن يعبران عن الضمير الشعبي العراقي النقي .. وكان الشعر الشعبي وما برح يغرد بالحب والالم وجفاء الحبيب والغربة والوطن .. وعلاقة الشعر الشعبي بالوطن علاقة الجذر بالارض .. علاقة لا تجد فكاكاً في الحياة او بعد الموت، فالعلاقة روحية وسرمدية .. فالجذر باق في اية حال كانت عليها الارض رمز الوطن والوطنية. مظفر النواب في اسطورته ( الريل وحمد ) يمزج بين الحقيقة والمجاز .. بين الواقع والرمز..كانت محاورة مظفر للريل ( القطـار ) وجدانية تتراوح بين الرقة والشدة . الا ان الريل يبقى سائراً ولا يقف كما يتمنى قلب مظفر النواب .او ما حاولت روحه ان تدركه.. لان اهل الهوى ( امجيمين ) يعيق صدأ العشق القديم المتجدد دوماً حركتهم ولان القطار يسير مسرعاً على سكة .. والسكة من حديد .. فلم يكن هناك من امل للاستجابة .. رغم اوامر مظفر التواب احياناً وتوسلاته احياناَ اخرى... إن مأسي العراق والعراقيين التاريخية المزمنة كانت بحاجة إلى شاعر مثل مظفر النواب ومثل عريان السيد خلف فضلاً عن الجواهري والسياب ونازك الملائكة وشعراء اخرين مبدعين ،وكانت بحاجة ايضاً الى مطربين مثل حضيري ابو عزيز وداخل حسن وصولاً الى ياس خضر وحسين نعمة وجيل الشباب الذي عاصرهما ، ليكونوا قصيدة واغنية حزينة لتلك المآسي وضماداً لجراحها الغائرة في عمق الوجدان العراقي. يقول مظفر النواب عن الريل وحمد (..وقد كتبت هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني اني سأطبعها في يوم ما، او انها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لانني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناء وجدانياً، وكنت اكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدون بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام. كتبت هذه القصيدة عام 1956 وأكملتها عام 1958، ..... لقد فتحت "الريل وحمد" بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العامية. ومن العوامل التي أثرت في كتابتها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى -كان والدي يعزف على العود، ووالدتي على البيانو والأجواء الكربلائية. كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في "الريل وحمد" عن غيره في القصائد العامية الأخرى..) (1) لا شك ان الالهام والعبقرية يأتيان هكذا ، شيئأ ما في داخلك يوقظك من نومك ، شيئاً يريد ان يولد ويظهر للعالم الخارجي ولا يدعك تنام حتى تنحته من الحلم والوجدان. كانت محاورة مظفر للريل ( القطـار ) وجدانية تتراوح بين الرقة والشدة .وجدان ابن الريف وعشقه الرومانسي بلغة ووجدان الشاعر كما يريد هو ان يرسم صورته من بما تتضمنه من الوان وصور وموسيقى وهكذا تبدأ الحكاية السرمدية(2):
( مرّينه بيكم حمد , واحنه ابقطار الليل واسمعنه , دك اكهوه ... وشمينه ريحة هيل يا ريل ... صيح ابقهر ... صيحة عشك , يا ريل هودر هواهم , ولك , حدر السنابل كطه ) اذاً اللوحة تُرسم هكذا .. رائحة القهوة والهيل في ذاكرة الحبيبة تتعاصر مع مرور الريل بمضارب الحبيب ( حمد ) فيرتقي الحب بعنفوانه وذاكرته المريرة الى الصياح بحزن ممزوج بالالم ( ابقهر )، وللعشق صراخ بلغة الصمت يتمنى مظفر التواب (على لسان الحبيبة) في دواخله ان يجسده الريل بصرخاته المعهودة ... صراخ بلغة الريل .لا بلغة الصمت .كان هناك تناغم من نوع ما ، فصرخة القهر العراقي المكتوم تاريخياً لا توازيها الا صرخة الريل . الا ان روح حمد تنادي من بعيد على ( ابو محابس شذر) ويترجى الريل الا يحث الخطى مسرعاً بالفراق والهجر، كما كان الحب الذي في خاطره يوماً ما ، وان يسير بدلال ( ابغنج ) ، فالهوى في القلب باق ( بعد ما مات ) فنراه يقول : ( يا بو محابس شذر , يلشاد خزامات يا ريل بللّه .. ابغنج من تجزي بام شامات ولا تمشي .. مشية هجر ... كلبي.. بعد ما مات وهودر هواهم ولك حدر السنابل كطه ) الا ان الريل يبقى سائراً ولا يقف كما يتمنى قلب حمد .او ما حاولت روحه ان تدركه.. لان اهل الهوى (امجيمين ) يعيق صدأ العشق القديم المتجدد دوماً حركتهم ولان القطار يسير على سكة .. والسكة من حديد ... .فلم يكن هناك من امل للاستجابة والتوافق.. رغم اوامر (مظفر التواب) الحدية احياناً وتوسلاته احياناَ اخرى: ( جيزي المحطة.. بحزن .. وونين .. يفراكين ما ونسونه ,ابعشكهم... موعيب تتونسين ؟ يا ريل جيّم حزن... اهل الهوى امجيمين وهودر هواهم ولك حدر السنابل كطه ) الا ان طول البعاد والفراق زرع الشك في قلب المعشوقة ، فتراها تظن الظنون وتعبـر عن خيبـة الأمـل ( ياريل طلعوا دغش) ، فالسنابل وهمية ما هي الا (دغش) والعشق مجرد ( كذبة ) وجرح الانتظار الذي طال العمر كله لم يضمده الحبيب بالحرارة والشوق وعندها تغني بحزن على طريقة مظفر النواب: ( يا ريل طلعوا دغش... والعشق جذابي دك بيّه كل العمر... ما يطفه عطابي تتوالف ويه الدرب وترابك .. ترابي وهودر هواهم ولك.. حدر السنابل كطه ) ولكن المعشوقة تدرك بقلبها ما لا يدركه الريل والناس اجمعين .فلا يناسبها في هذه الحياة غير حمد ( ما لوكن لغيره ) وتحكي للريل متذكرة ايام الطفولة حينما كانوا يلعبون سوياً لعبة القفز التي يمارسها الاطفال عادة في مدن وقرى العراق ( يا ريل باول زغرنه... لعبنه طفيره.) ، وان ( الدغش ) وان وجد بين السنابل فانه يتواجد طائر ( الكطة ) ايضاً كصفة جمال لكل جميل ، فتراها تعود نادمة وقد هزها الشوق لتقول: ( آنه ارد الوك الحمد .. ما لوكن لغيره يجفّلني برد الصبح .. وتلجلج الليره يا ريل باول زغرنه... لعبنه طفيره وهودر هواهم ولك .. حدر السنابل كطه ) وفي قمة اشواقها ، ترسم صورة ملونة لحمد، بريشة مظفر النواب السريالية، صورة تجمع بين الفضة والعرس والنركيلة والشذر ، وترجو من الريل ان يخفف من سيره ( ثكل يبويه )، فالبرد وحده من احتضن الجسد وغاب دفء الحب والحبيب (كضبة دفو , يا نهد ، لملمك ... برد الصبح ) ( ويرجنك فراكين الهوه ... يا سرح) فتذهب بخيالها الى القول كأن حمد .. : ( جن حمد.... فضة عرس جن حمد نركيله مدكك بي الشذر ومشلّه اشليله يا ريل.... ثكل يبويه.. وخل أناغي بحزن منغه... ويحن الكطه كضبة دفو , يا نهد لملمك ... برد الصبح ويرجنك فراكين الهوه ... يا سرح ) الا ان الريل يستمر في صراخه ، فتهيج الجروح ويفز الكطه من احلامه وقد يهرب ، فترجوه باسلوب النهي الا يفعل : ( يا ريل.... لا.. لا تفزّزهن تهيج الجرح خليهن يهودرن.. حدر الحراير كطه جن كذلتك... والشمس... والهوة... هلهوله شلايل برسيم... والبرسيم إله سوله واذري ذهب يا مشط يلخلك...اشطوله ! بطول الشعر ... ) الا ان الحب الذي ملأ العيون ضحكات وحكايات لا يدوم كما يبدو: ( والهوى البارد.... ينيم الكطه تو العيون امتلن .... ضحجات ... وسواليف ونهودي زمّن... والطيور الزغيره... تزيف ) الا ان الريل يمضي وتجرف مياه النهر الحب الذي فقد مجاديفه ، فنراها تقول بحسرة : ( يا ريل ... سيّس هوانه وما إله مجاذيف وهودر هواهم ولك... حدر السنابل كطه ) ومظفر النواب الذي طاردته السلطات في كل مكان وزمان ، رمز من رموز العراق الحديث ونهرا لا ينضب يجود بالعطاء المتميز ، فقد نظم الشعر بالفصحى بنوعيها العمودي والحر ونظم كذلك قصائد الشعر الشعبي ولم يفارقه الابداع في كلاهما. اما بعد ... فان لقصيدة ( الريل وحمد ) قراءات مختلفة ، وهذه هي سمة العمل الابداعي ،لا تجد له قراءة واحدة وقد تتطور قراءته مع الزمن ليساير الفهم السائد للأمور حتى في عصور لاحقة .وهكذا قيل ان العمل الابداعي ونتاج العبقرية يبقى خالداً على مدى الدهر ، وهكذا خلدت المعلقات ولم تستطع الدهور المتعاقبة ان ( تاكل عليها وتشرب ) (3) او ان تنال من روعتها وعنفوانها الاول . وعن الشعر الشعبي يقول مظفر النواب (أما العامية فهي مثل الطين المختمر. في أول زيارة لي لأهوار جنوب العراق شعرت بذلك، الهور مائي وطيني وطبيعته إنسيابية والماء فيه يتشكل، كذلك الطين، بأشكال عدة وأيضاً يجب التعامل مع العامية بمحبة حتى يتشكل هذا الطين مثلما نريد.). وعلى هذا النحو قرأت قصيدة الريل وحمد قراءة سياسية من قبل بعض النقاد، مبررين ذلك بالقول ان الفلاح لا يتحدث بهكذا لغة وان النواب اراد ان يقول شيئاً اخر بلغة الرمز. (4) وقد لفتت انتباهي القصائد الشعبية التي استقبلت بها الجالية العراقية دولة رئيس الوزراء نوري المالكي اثناء زيارته الى ايران ، وهي قصائد عادت بنا الى اجواء الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ، وقد عزفت ذات اللحن وذات الآه العراقية الخالدة ، رغم الغربة الطويلة والبعد ، ولاشك ان ذلك كان خزيناً امتلأ القلب به طوال سنوات الغربة ، فانفجر في لحظة فرح وسرور عراقية ممزوجة بالامل .. بالعودة الى الدار والاهل والاحباب. ............................................. الهوامش: 1ـ تصريح مظفر النواب ، جريدة الشرق الأوسط – لندن ، العدد رقم 7640، الجمعة 29 أكتوبر 1999. 2ـ يعرب كثير من اصدقائي في الوطن العربي عن اعجابهم بقصيدة ( الريل وحمد ) الا انهم وكما يقولون لا يفهمون معاني بعض كلماتها لانها باللهجة الشعبية ، وعلى هذا جعلت من هذا المقال قراءة في القصيدة ، تتضمن المعاني بين سطوره. 3 ـ تقول العرب عن الشيء الذي فات أوانه ( اكل الدهر عليه وشرب ) ، فان اكلت وشربت على شيء لم يبق منه شيء. 4ـ حول القراءات الاخرى للقصيدة، انظر: الشرق الاوسط ـ المصدر السابق. وكذلك انظر: جواد الحسن ، الحوار المتمدن ، العدد 2100 في 15/11/2007. وانظر كذلك : صافي ناز كاظم ، الشرق الاوسط، العدد 10148 ،الاحد 10 سبتمبر 2006.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |