دراسات نقدية

الإنتحـــــاري ..  مسرحية ضد الإرهاب في مهرجان المتنبي العالمي

  

أسامة الشحماني

ـ المخرج السويسري بيتر براشلر

ـ موسيقى غربية ماتياس هيل براند ، سويسرا

ـ موسيقى شرقية رضا شريفنجاد ، إيران

ـ إنتاج مسرح مارالام

ـ الممثلون : خليل مسمح ، فلسطين ـ داج رستمي ، مقدونيا

 قد لا نتفق على كون الإرهاب من المصطلحات غير الجديدة على الذاكرة البشرية على أننا سنتفق حتماً على كون هذا المفهوم بدأ يعصف بنا بقوة ليهيمن ويتمركز على مساحة واسعة من موجهات أفكارنا الى الدرجة التي وجدنا أنفسنا فيها مضطرين الى إعادة النظر في الكثير جداً مما نتكيء عليه من إرضيات وحواضن طالما إعتقدنا أن الكثير منها هو من القناعات الأساسية غير القابلة للوضع تحت عدسة التساؤل .

من هذا المنطلق فضلاً عن بواعث أخرى لا تقلُ أهمية يبدو من الموضوعي جداً أن نقلِّب النظر في البنى الأساسية التي تتشكلُ منها "العقلية" الإرهابية لأنه وبإعتقادي أنَّ شن الحرب على الإرهاب على إختلاف تمظهراته من صور و تجليات لابد أن يحدث أيضاً بالهجوم على بوصلته الرئيسة ، أعني تفكيك ذلك "الفكر" الإجرامي في محاولة لإكتشاف ما يتمأسس منه فالإرهاب فعلٌ طوعي ، واعٍ و منظم ، متعمَّد ومحسوب ، ومن هنا يبدو كونه "فكراً" محيراً في مدى إصراره على الإبحار ضد التيار الإنساني بأبسط تعريفاته .

من هو الإرهابي وكيف يمكننا فهم سايكولوجيا الإرهاب ؟

تلك هي دائرة الدلالة المركزية التي نجح النص المسرحي (الإنتحاري) في فتحها على فضاءات وتداعيات أكثر سعة وعمقاً على المستويين اللغويين العربي والألماني وذلك بالحرص على خاصية الإختزال والتكثيف ، والرؤيوي من خلال ما اشتمل عليه من عقد صراع جوهرية من قبيل: الحقيقة/الزيف ، الأمل/اليأس ، الحب/الكراهية ، الثقة بالنفس/الإحساس بالدونية ، وغيرها مما أنفتحت عليه البنية العميقة للخطاب المسرحي (الإنتحاري).

   قدمت المسرحية في ختام القراءات الشعرية لليوم الثاني من أيام مهرجان المتنبي الشعري العالمي في دورته الثامنة والتي كانت بعنوان الشعر والمسرح ، وقد إستحوذت على إهتمام خاص إنعكس فيما أعقب العرض من حوارات تجلت أصداؤها على مستوى المهتمين بالشأن الثقافي في الصحافة السويسرية . النص المسرحي الذي أعده الشاعر العراقي علي الشلاه ، يعُد من النصوص المسرحية الصادمة لذهنية المتلقي الغربي ولا سيما السويسري على وجه التحديد بوصفه لم يألف التعاطي مع هكذا موضوعات داخل الأطر الثقافية ، فقد إشتملَ كُتيب المهرجان في معرض توصيفه للنص على جملة ( ماذا لو إنفجر أحد الشبان في المسرح بين ضيوف المتنبي الثامن وهم يشاهدون هذا العرض الخاص من المسرحية ؟ ) وتلك من العبارات ذات السحنة الغريبة على العقل الأوربي .    

   الإنتحاري خطاب مسرحي تجلتْ في ثناياه مجموعة من التساؤلات الخطيرة التي ربما تنزرع و تدور في ذهن أيٍّ ممن يصدم بتلقي رسالة دامية تفيد بأن شخصية ما فجرتْ نفسها بين الناس لتزهق الأرواح من دون أي مرجعية يمكن أن يعتمد عليها لتفسر للمتلقي ذلك الحوار الداخلي الذي من غير المستبعد أنه راود المنفجر ولو للحظات قبل إقدامه على الفعل ، فقد كان من أهم إشتغالات النص هو تسليط الضوء على شخصية ذلك الإنتحاري ، وماهية قنواته القرائية ، تلك التي تنبني عبر موجهاتها طرائق فهمه وتأويلاته لعلائق إرتباطه بذاته أولاً ، ثمَّ بالآخر ثانياً ، وأخيراً ما يشده لما يعتقد أنه الإشتراط النهائي لوجوده .

الموت هو الحقيقة الموضوعية الوحيدة الموجودة وجوباً في طبيعة "العقلية"  الإرهابية هذا ما نحج النص في سبر أغواره بالكشف عن إشكالية إستقباح الفعل الحياتي عند ذلك التكوين المتبدي بهيأة بشرية لا وجود لقاسمٍ مشترك سواها يربطه بها ، ولذا فإن إستبطان شخصية الإرهابي في النص يكشف عن كونها منفجرة على ذاتها قاتلة لفعلها الحياتي فيها قبل أن تتربص لقتله في الآخر ، ولذا لم يكن ببعيد عن الدوائر الدلالية التي أفضتْ المسرحية الى إنتاجها في ذهن المتلقي ذلك الباعث الداعي الى إعادة النظر في صورة الإرهابي من الداخل وكيفية ظهورها في الكثير من الأفلام والتحقيقات الإعلامية الى يميل الجزء الأكبر منها ، مما يتداوله الإعلام المرئي ولاسيما في أوربا ، الى إظهار شخصية الإرهابي بإسلوبٍ يدعو للتعامل معه كما لو أنه ضحية الفكر المتطرف و ما له من مفاهيم مغلقة تدَّعي إمتلاك الحقيقة كاملة وليس منفذه الذي يصب جام حقده وفشله على الإنسان والمجتمع.

أما عن تلك المسانيد "المقدسة" التي يتعكز عليها الإرهاب في محاولة لخلق غطاء لما يفعل من همجية فقد إختزلتْ داخل البنية اللغوية التي تحدثتْ بها شخصية الإنتحاري إذ بدتْ فاشلة في مستوى إستيعابها لمجمل الخطاب الديني ولذا فهي بالضرورة أشد فشلاً في تأويل مضامينه ، وكنتيجة طبيعية لهذا العجز اللغوي المركب لم تجد لنفسها من وسيلة لإثبات الذات أو للتعاطي مع الآخر غير ذلك النمط السلوكي الشاذ المتمثل بالعدوانية والإبادة لكل ما يشير الى مظاهر الحياة .

ولكن هل القتل هو المنهج الوحيد للتعبير عن الإرهاب ، وهل يعني القتل بالضرورة إماتة الشخص ؟

حاول المخرج السويسري بيتر براشلر أن يجيب على هذا التساؤل الهام من خلال زج النص في مدارات الكشف عن إشكالية الإرهاب الفكري وممارساتها ولاسيما على صعيد الإستلاب الثقافي و ما يعاني منه غالبية جيل الشباب في المهاجر ، من اولئك الذين قدموا الى المنافي قسراً وتحت ظروف قد تختلف في أشكالها على أنها تتشابه في مضمونها حيث وجد هؤلاء الشباب أنفسهم تحت مظلة شوزفرينية بوصفها تدعي  إنتماءها الى مورثات ثقافية أو دينية ذات سمات وخصائص مغايرة لواقعهم المعاش وما ينضوي عليه من ثقافة و تطلعات لفهم الحياة على أنهم وبالوقت ذاته لم يجدوا لهم مفراً من التعامل مع هذا الواقع أو قبوله كما هو والحرص على أدائه بشكل لا يختلف على الإطلاق عن أداء أي شاب من أبناء البلد أو الثقافة ذاتها ، ومن هنا يتولد الإنقسام على الذات لينتج هوة شاسعة من القطيعة وعدم التصالح مع تكوينين هامين من مكونات شخصية الفرد ، الأول هو نفسي ثقافي ، والثاني هو واقعي يومياتي ، وتأسيساً على هذا التناقض بين الذوات يتبرعم الشعور بالدونية وعدم قبول المختلف ليشكل الحجر الأساس لفكرة العدوانية وإلغاء الآخر في محاولة عقيمة لإثبات الذات أو تبيان حضورها المادي والمعنوي . 

إنَّ تعرية أسس الإرهاب وما له من أدلجة معقدة لم تنل حتى الآن ما تستحقه من تغطية داخل الوسط الثقافي على إختلاف مستوياته و تشكلاته ، إذ لم يعد خافياً ذلك العزوف غير المبرر عن مناقشة هذه المشكلة العالمية داخل أطياف المؤسسة الثقافية لإشباعها تحليلاً ونقداً قد يسهم في تلمس العديد من بواعث تشكلها واستشرائها ، وإنه لمن مثيرات الإستغراب أن نتلمس مظاهر هذا العزوف هنا في أوربا أيضاً إذ تشاغلتْ كبريات الصحف الألمانية بحدث قام به أحد طلبة الفنون في جامعة برلين حين قدم نحتاً صنعه من مادة الجبس يصورُ شخصية ترتدي حزاماً ناسفاً وتشير بسبَّابتها الى زر التفجير ، كان العمل مقدماً كأطروحة للتخرج وقد عده أساتذة القسم فضلاً عن غالبية الوسط الثقافي الألماني شرخاً في الذائقة الثقافية الأوربية و من مستفزات الوعي السلبية ، ولعل أكبر ما يثير الإعجاب هو إصرار الطالب على العمل على الرغم من كل ما واجهه من رفض واستهجان ، مما قاد أحد النقاد الى الكتابة عن هذا العمل بوصفه دعوة لإعادة الفن الى حقبٍ زمنية بعيدة ، الى مسؤوليته الإخلاقية ورسالته الحياتية بوصفه اللسان المعبر عن راهنية الإنسان وطرائق تعاطيه مع ما يحيط به من واقع معاش .

(الإنتحاري) صرخة مسرحية شديدة الوضوح لاشك في كونها صدى لذلك الدوي المروع ، الذي يرافق تششت اجساد الابرياء ضحايا الإرهاب في كلِّ مكان ، وإنها في الوقت ذاته سابقة ثقافية هامة على مستوى المسرح السويسري ذي التاريخ الثقافي المعروف على مستوى المشهد الثقافي الأوربي ، ولذا فقد حظي هذا العرض المسرحي باهتمام الصفحات الثقافية داخل دائرة الإعلام السويسري الناطق بالألمانية .   

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com