|
دراسات نقدية
قراءة الممكن وإمكانية القراءة: الأبعاد الحقيقية لقصيدة " لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح " للشاعر العراقي يحيى السماوي من منظور الشعر السياسي ..
هشام مصطفى * ( لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح )
ليْ ما يُبَرِّرُ وحْـشـتي
هذا الصباحَ
ليْ ما يُبَرِّرُها
..
*
ويقولُ " رفعتُ " في رسالته ِ
الأخيرة
ِ:
*
لأنه ُ
:
ولذا
الصباحَ
**** توطئة : يعتبر الشعر السياسي أحد أهمّ الأغراض التي تناولها الشعر العربي منذ القدم، وتحديدا منذ ظهور الدعوة المحمدية، وإن كان هذا لا يلغي وجود إشارات هنا وهناك في ثنايا الشعر الجاهلي، جاءت عرضا ولا تمثل اتجاها أو فكرا أصيلا قائما بذاته، إلآ أن ظهور الدعوة المحمدية وما تبعه من انقسام المجتمع العربي إلى فريقين كلٍّ يدعو إلى مبادئه ويواجه خصومه، ويدحض أفكاره، يعتبر بحق تأسيسا لهذا الاتجاه في الأدب العربي عموما والشعر خصوصا . ونظرا ً لحيوية هذا الاتجاه والإتصال الوثيق بالتغيرات المتلاحقة المجتمعية و الأيدلوجية المُحَرِّكة لهذه المجتمعات، ما جعل نطاق الشعر السياسي شديد التحول بين انصبابه على مجال معين بدءا من الدفاع عن العقيدة مع بدايات الدعوة المحمدية إلى شمولية النطاق ليشمل الإنتصار لانتساب معين وإحياء للعصبية القبلية في العصر الأموي تبعا لظروف تاريخية وسياسية للخلافة الأموية، وترسيخ ذلك مع العصر العباسي الثاني تحديدا ودخول عناصر فاعلة في الحياة السياسية كالأتراك والفرس بجانب العنصر العربي أو كما عرفت هذه الظاهرة بـ " الشعوبية "،إلى أن وصل الأمر إلى العصر التركي ( عصر الخمود والانحطاط ) ليتجمد هذا الإتجاه شأنه شأن كل اتجاهات الشعر والأدب العربي . ومع دخول الوطن العربي مرحلة حاسمة بانهيار الإمبراطورية العثمانية ( الرجل المريض ) وانقسامها إلى مناطق نفوذ للقوى الجديدة والمهيمنة على أوجه الحياة فيه، والذي كان انبعاث الكلاسيكية في الأدب العربي وجها من أوجه الرفض أو المقاومة، ما جعل الشعر السياسي يدخل حيزا جديدا، يدخل معنى الرفض سواء كان في صورة إحياء للقديم أو للتراث عموما، تأكيدا على الهوية العربية مقابل" أوْرَبة" الشخصية العربية، أو في صورة إنتاج شعري يؤيد الخلافة ويترحم عليها، أو يحارب فكرة الاستعمار في المجالات المتعددة، ويؤكد على أصالة الشخصية العربية ويدعو لها، ومع تبلور الفكر السياسي والإستقلالي لدى هذه الشخصية، بجانب تنامي الحس القومي والإعتزاز به ووقوع الوطن العربي تحت سيطرة الاتجاهات الأيدلوجية المختلفة وتباين الأنظمة العربية ذاتها، ثم ما تبع ذلك من ظهور التيارات الشعرية المختلفة وإن كان ظهور التيار الحداثي ( شعر التفعيلة ) كان العامل الحاسم في انبعاث الشعر السياسي بمفهومه الجديد أو ما يعرف به الآن ما جعل أيضا هذا المصطلح مصطلحا فضفاضا ينضوي تحت لوائه ما يسمى بشعر القوميات وشعر مقاومة المحتل ومن ثم طرف ثالث وهو ما يمكن أن نسميه شعر مقاومة الأنظمة المستبدة أو شعر الرفض . هذه المقدمة التاريخية لا تهدف إلقاء الضوء على عمومية الشعر السياسي، وإنما تهدف إلى تتبع تطور مفهوم هذا المصطلح من خلال بيان مسيرة الشعر السياسي ومنشأه، ومن ثم تحديد موقع القصيدة من الشعر السياسي والذي على أساسه تظهر أغراض وتنهار أغراض وتتحول ثالثة نظرا لارتباطها الشديد بالمتغير المستمر ونقصد به التغير المجتمعي والأيدلوجي . الرؤية الجمالية للشعر السياسي وقصيدة لي ما يبرر وحشتي : )إن ما نستخلصه من عرض تولستوي هو أن قيمة ما هو فني سواء أكان قصيدة شعر أو سيمفونية أو تمثالا يعتمد اعتمادا كليا على تأثيره على الشخص الذي يحاول إدراك الجمال فيه، فالفن بالنسبة لتولستوي هو انتقال الانفعال ) ـ عطية / ماهر 2003 . لا شك في أن فهم القيم الجمالية وبالتالي المقاييس الجمالية لأيّ عمل ما ليس عملا ثانويا، بل عملا أو جزءا أصيلا من فهم العمل ككل، وبوابة شرعية للوصول إلى المستويات العميقة للمعنى وإدراك نوعية الاستراتيجية المستخدمة في النص مما يعني فهما شاملا للشكل الجمالي للنص . ولا شك أيضا أن لفهم الشعر السياسي ( ومنه قصيدة لي ما يبرر وحشتي للشاعر ) بوابته الشرعية والصائبة، وهي الرؤية الجمالية وأسسها، وذلك أن تلك الأسس وهذا الشكل الجمالي هما المحددان لاستراتيجية النص وبلوغ غايتها الجمالية . وعليه فإن مفتاح الفهم الحقيقي وبامتياز المعرفة الصحيحة لحقيقة الفن لدى تولستوي، والذي حاول أن يحدد ملامحه في كتابه ( ما هو الفن ـ 1896 م ) ( والذي جاء في بيئة تميزت بالمعارك العنيفة بين المذاهب النقدية المختلفة وظهور شعارات متعددة لدى رواد الواقعية والطبيعية في الفن والأدب ) ـ عطية / ماهر 2003 م، مما حدا بالمفكرين الاشتراكيين إلى الاتفاق معهم في ضرورة ارتباط الفن والأدب بتصوير الواقع الاجتماعي، ( وكان من أثر ذلك ظهور قصة البؤساء لفكتور هوجو والتي كانت استجابة لهذه الدعوة ) نفسه . لذا فإن تعريف الفن لدى تولستوي ) ينأى عن الأخذ بالتصورات التي تدور حول فكرة الجمال الغامض أو التعريفات اللاذية التي تعرف الفن على أنه يشبع في الإنسان لذات معينة، وإنما يعرف تولستوي الفن بأنه نشاط انفعالي أو هو بمعنى أدق لغة توصيل للانفعالات ) أميرة حلمي 2003 م وعليه فإن تولستوي استمد معاييره الفنية أو الجمالية اعتمادا على فهمه لمهمة الفن والأدب حيث رأى ( أن انتشار العمل الفني هو مقياس لأصالته وجودته ) . وبعيدا عن صحة هذا الرأي أو خطئه أو الانتقادات لتلك الرؤية الجمالية المرتبطة بأيدلوجية ما للفن، فإن الشعر السياسي والذي هو في الأساس موجه إلى البسطاء ومعتمدا على تذوقهم والثقة في هذه الذائقة ( كما صرح الشاعر السوفييتي بلوك بأن الفن الحق هو الذي تتحد روحه بروح شعبه وتصل إلى جذور أمته ويستمد الخلق من فنه ) نفسه، ولذلك فالمقياس الجمالي لدى تولستوي هو مقياس كمي يأتي نتيجة انتقال الانفعال وبذلك فإنه يرفض أن يكون الفن مجرد تأمل أو رؤية تشيع اللذة في الإنسان ( وإنما هو أداة لتحقيق القيم الديمقراطية بين أفراد المجتمع ) نفسه . لذا فسقوط القيم الأرسطية ذات الأبعاد الرياضية الإقليدسية والنافية لأي تناقض والقائمة على التجسيد والتشخيص في البلاغة التقليدية أمر طبيعي ولا ينافي الوجه الحقيقي للشعر السياسي ومنه قصيدة الشاعر السماوي، فليس المطلوب إذا ً التجسيد أو التشخيص للفكرة أو تقريبها كما اعتاد الكلاسيكيون في استراتيجيتهم ورؤاهم للقصيدة وخاصة مع ظهور ما يسمى بشعر الرفض والذي كان مهتما بالجزئيات أو الرؤية الجزئية للصورة لعرض الواقع الرافض للإستبداد وتحوله بعد ( لا تصالح أو الوصايا العشر ) القصيدة الفارقة للشاعر الكبير أمل دنقل، نقول وتحول هذا الشعر إلى الصور الكلية لهذا الواقع الاستبدادي . فمن الطبيعي أن يتجه السماوي إلى استراتيجية السرد أو الحكي واعتماد الشكل المستطيلي في البناء المعماري للقصيدة، وتصبح الشخوص المطروحة والممثلة للأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والأسطورية هي المسؤولة مسؤولية كاملة ومباشرة لنقل الانفعال كغاية جمالية ليس من خلال مجاراتها بل من خلال فلسفة ومنطق حركتها وتحولها لمجاراة الواقع الاستبدادي والمعايش في أسلوب ساخر كنتيجة حتمية مقابل الواقع المعاش للمتلقي العادي . فالصورة الشعرية إذا تسقط من حساباتها ما يعرف بألوان البيان إلآ ما جاء عرضا لتبرير بروز البديل الحركي والبصري والسمعي للصورة الساخرة وكمكوّن أساسي للمشهد التمثيلي القائم على السردية، والمحرك الخفي لسلطة المكان لشخوص السرد، والواضح من خلال نمذجة هذه الشخوص لتمثل الشرائح المختلفة للمجتمع وكذلك من خلال حركتها ونوعية نشاطها الحركي، مما يعني بروز الانزياح المعنوي المطلوب للإنتقال الانفعالي كغاية جمالية مطلوبة ما يعني التعاطف التام والكامل لهذا المشهد . إذا ً فلا لوم على الشاعر إن لم يلجأ إلى الأساليب المتعارف عليها في بناء القصيدة العمودية أو حتى التفعيلة من صور بيانية أو رمزية إلا في نمذجة الشخوص لو اعتبرناهم رموزا، بل بذلك يكون الشاعر قد حقق أهم معادل ٍ للقصيدة السياسية الجيدة ودال على صحة التجائه للبديل من صور تعتمد الحركية والبصرية والسمعية، والأسلوب السردي لهذه الصورة الساخرة المبكية . فالصورة الشعرية إذا أسقطت من حساباتها ما يعرف بألوان البيان إلا ما جاء عرضا، لتبرز البديل الحركي والبصري والسمعي كمكون أساسي للمشهد السردي والإنزياح المعنوي للانفعالية، بل والتعاطف تحت سلطة المكان ( المحرك الخفي لهذه الشخوص والصورة معا ) . فالإختيار لنمذجة الشخوص المعبرة عن مجتمع يميل أن يكون مجتمع القرية وما يترتب عليه من أخلاقيات وسلوك اقتصادي وتعاملي فطري تارة و التحولات على تلك الشخوص للخلاص من المأزق الاقتصادي والسياسي النابع إما عن جهل أو خوف متأصل في الخلفية التاريخية والثقافية لهذا المجتمع تارة أخرى، تجعل من سلطة المكان هو المتحكم الوحيد فيها، وإن لم يتدخل تدخلا صريحا ومباشرا، إلا أنه يبقى المؤثر الأقوى على المستوى الحركي لعملية التحول والرؤية المستقبلية الفاشلة وبالتالي النهاية المتوقعة والمؤدية للوحشة في النص، ما يعني ضرورة الكشف عن الأبعاد الحقيقية لهذه الشخوص . بعد الدلالي لشخوص القصيدة : ـ الأم : أو الجذر الذي يربط الشاعر كانزياح معنوي ومدلول لدال يحتمل الكثير من الدلالات ( الأم الحقيقية ـ الوطن ـ الارتباط ) تلتزم حالة واحدة ثابتة من الجمود وعدم التطور، فـ( الصمم ) كانزياح لعدم الاتصال والتواصل وبالتالي عدم الأهلية للتطور، ثم ( وقد عشيت ) دال على فقد الرؤية في الأزمة الحالكة والضبابية عند اتخاذ القرارات، إلا أن الارتباط الوثيق ما يزال قائما كنتيجة حتمية ومباشرة للموقع النفسي لهذا الدال في نفس الشاعر . ـ الجارة وابنتها : وهو اختيار دال أولا على سلطة المكان و الارتباط الوثيق في مجتمع القرية الفطري الأخلاقي ثم نمذجة للتصرف العشوائي والنابع إما عن جهل أو دافعية الهروب من المأزق للمأزق المؤجل في انتظار الحل السماوي للإشكالية الاقتصادية، وهو نموذج للشخصية العربية النقيضة للشخصية الغربية وثنائية تؤرق الشاعر وتجعل من الوحشة شيئا أصيلا لا يمكن الهروب منه، فالجارة تحول من النشاط الاقتصادي الزراعي المتأصل للنشاط الصناعي اللاواعي لأسسه والنتيجة ( الخراف شحيحة ) فسقوط الرؤية الاقتصادية الصحيحة دال على التخبط الجاهل أو المتسرع والملهوف على الخروج من المأزق دون أي حسابات، فقط للهروب، وكما فعلت الجارة فابنتها كذلك تستخدم ما لها من رأس مال في صفقة خاسرة تجبرها الظروف الاقتصادية عليها ( الزواج من ثري ) بغض النظر عن الحالة الصحية بل يمكن أن يكون هذا هو الدافع كدال على الانتهازية النفعية للشخصية الواقعة تحت تأثير الأزمة ومحاولة الخروج أو الهرب ( الغاية تبرر الوسيلة كمبدأ مكيافيلي ) والنتيجة الحتمية للقرار الجاهل أو الانتهازي الفشل ( فلم ترث غير العباءة والسوار ) كرمزي للغطاء والثمن البخس لتلك الصفقة الهزلية المتكررة للمجتمع الواقع تحت ضغط الفقر والحاجة . ـ ونهلة : الممثلة للحب العذري لدى الشاعر والنمذجة الدالة على الحلم الجميل للمستقبل لدى الصبية تنتهي بأن تكون سببا لتوالد القبح كنتيجة حتمية أيضا لهذا الواقع الذي لا يمكن له إلآ أن يلد القبح كاستشراف للمستقبل في ظل الظرف الراهن . ـ ثم الصداقة كأحد رموز الضلع الاجتماعي للشكل المستطيلي للقصيدة وكدال لقوة التغيير الممكنة في المجتمع وتحت القهر السياسي لحرية الرأي يتحول أيضا إلى مشروع فاشل نتيجة حتمية للقهر مرة و للضعف المجتمعي أخرى . ـ أما الضلع السياسي من ناطق رسمي و التعامل مع المنطق العلمي من جهة ومع المجتمع والمنطق الواقعي من جهة أخرى، يبدو عليه الإصرار على موقفه المناقض لمنطقي العلم والواقع، بل وادعائه لامتلاك الحقيقة دون غيره، حيث تبدو الإشكالية الحقيقية للوحشة من ظهور الثنائية الخارج لداخل حيث المقارنة بين ما هو كائن لدى الشاعر وبين ما هو حاصل في ارض الوطن، تجعل من الوحشة أمرا طبيعيا، بل ومنطقيا لا يمكن الفكاك منها أو غض النظر عنها . ـ وأما شخصية حمادة الحمال التي تتماس مع الشخصية الأسطـورية في التراث العربي لشـخصية " جحا " فلقد تم استبدال الدلالات حيث المنطق والعقل للشخصية الإنسانية والتهور والحمق المبني على البوح بالحقيقة للشخصية الحيوانية وما ينتج عن ذلك من صراع بين هذا المحور وبين المحور السلطوي للزعيم و ممثليه، ما استدعي الحيلة مرة والكذب أخرى بل والعنف ثالثا، مما يجعل الحكاية تتطابق مع سمات الأسطورة والموحية بثبات التصرف للشخصية العربية بالرغم من الفترة الزمنية الكبيرة بين الشخصيتين والتحولات في المفاهيم، ما يعني بالضرورة إسقاط حالة الجمود في المجتمع والشخصية والظرف السياسي الباقي بحاله وإن تغيرت المسميات من ممالك إلى جمهوري . هذه الأبعاد النفسية والفلسفية للشخوص تبرر لا الوحشة فقط بل التصرف اللامنطقي في كثير من الأحايين ويغطي جانبا هاما من الانفعالية المطلوب نقلها والتعبير بها عن الوحشة كدافعية لكتابة النص بهذه الاستراتيجية، كما أنها تغطي جانبا من جوانب الصورة المطلوب تغييرها كهدف من أهداف الغاية الجمالية للنص، ألا وهو انتقالية الانفعال، كما أنها يبدو معها سلطة المكان المحرك الخفي ( الفاعل المؤثر ) في تحديد ملامح الشخصية النفسية والفلسفية، وبالتالي منطقة تصرفها تجاه مواجهة الأزمات التي تقع فيها كمؤشر لحتمية الوقوع في ظل النظام السياسي الفاشل ( للبطل المجاهد . ( ثمة وجهة أخرى لسلطة المكان محددة لملامح الدافعية لكتابة النص، بل والانحياز لاستراتيجيته ونقصد بذلك ثنائية الداخل والخارج للمكان، ذلك المكون الرئيسي للشاعر والذي من خلاله أنشأ ما يسمى مسافة التوتر، تلك المسافة الدافعة لانبعاث النص من الفكرة المجردة إلى رؤية جمالية ومن ثم استراتيجية مكتوبة محققة للغاية الجمالية، حيث أن التباين بين البيئتين ( الوطن / الغربة ) تحدث أثر الثنائية الداخلة والخارجة معا، ما يعني وقوع النص تحت مؤثرين، الأول ناشئ جراء النشأة الأولى للشاعر حيث البيئة الزراعية الداعية للتأمل والصبورة والعارفة لمعنى التغيير الهادئ لا الثوري ما حدا به يكشف ولا يثير الحمية والحماسة للثورة ضدّ الطغيان، كما أن البيئة الحياتية للغربة تدفعه لأن يقارن ويوازن لتبدو السخرية نابعة عن المعرفة لأبعاد الوحشة وبالتالي المأساة ليكون الشعر في نهاية المطاف ( ليس خلقا للتوازن أو استعادة لتوازن المفقود، أو تنسيقا للدوافع وتنظيما لها، بل خلقا للتوتر والقلق أو بكلام آخر أدق خلقا لمسافة التوتر ) ـ في المصطلح النقدي / أحمد مطلوب . إذا ً نحن أمام مسافة توتر ناشئة من وقوع الشاعر تحت سلطة ثنائية المكان الداخلة والخارجة معا والمقارنة للتباين بين جنائن الكهف ) الغربة ) و بين الوطن الدافئ رغم القهر . عتبة النص والبنية للجملة الرئيسة : إختار الشاعر أن تكون عتبة نصه هي الجملة الرئيسة للقصيدة، بل والمنحنى التحولي بين أضلاعها الرباعية، من هنا تصبح لعتبة النص أهمية خاصة حيث أنها الدال على اتجاه النص من جهة ومن جهة أخرى المدلول لحالة التوتر الدافعة للنص ذاته . ومن الواضح أن عتبة النص مكونة من جملة اسمية بسيطة ( لي ما ) على اعتبار أن جملة ( يبرر وحشتي هذا الصباح ) جملة متعلقة باسم الصلة( ما) وهي ليست لها محل من الإعراب ما يعني تأثيرها محدود بتوضيح ( ما ) ليس إلا، نقول إن الجملة البسيطة من الخبر شبه الجملة المقدم ( الجار والمجرور ) والمبتدأ المؤخر ( ما )، والشبه الجملة مكون من اللام التي تفيد ( الملكية ) ـ شرح بن عقيل لألفية بن مالك ـ والمجرور ( ياء المتكلم ) وهو الضمير العائد والدال على الذات، ما يعني تخصيص الملكية للذات مباشرة دون غيرها ولا شيء غيره . إذا ً فمن البداية هناك انصباب ما آتٍ في الذات، يختص بها ويتمحور الموضوع حوله، هذا الانصباب ينطلق من المبتدأ ( ما ) اسم الصلة العام الذي يفيد ( العمومية لغير العاقل ) ـ النحو المصفى / محمد عيد ـ ليضفي غموضا يحتاج معه الكثير من التفسير والتأمل، وبذلك يصبح العنوان أو عتبة النص دالا ً على محتوى القصيدة أولا وعلى استراتيجيتها ثانيا . جانب آخر من عتبة النص، وهنا ينصب على جملة الصلة الخاصة بـ ( ما ) والتي وإن كان لا محل لها من الإعراب وتقتصر على إيضاح ( ما ) والتعبير عنها، فإنها لا تشمل الجدلية الحقيقية لما سيأتي من ثنائيات فحسب، وإنما تلعب دورا هاما في بيان موقف النص واستراتيجيته . فالجملة فعلية فاعلها ضمير وبالطبع تختلف التقديرات حوله نظرا لاتساع مفهوم ( ما ) العائد عليها فإن كانت ( ما ) من المعارف إلا أنها في ذات الوقت بها من الإبهام الناتج من اتساع عموميتها وتعدد الاحتمالات في تحديدها عددا وكما، وفي جانب آخر يعطي هذا الاتساع المسافة الكافية كي ينصب الاهتمام على التباين بين الوحشة والصباح والعلاقة التناقضية بينهما والسببية من الفعل ( يبرر (، ففعل ( يبرر من برّر ) من جهته لذكر السبب، ففي المعجم الوسيط ( يبرر عمله : زكاه وذكر من الأسباب ما يبيحه ) المعجم الوسيط / باب بَرَرَ.
وعليه فإن
الاختصاص يعود على مسنده ( ما
) وهو في حقيقة الأمر على
الفعل ( يبرر ) الموضح لـ
)
ما ) أي ذكر الأسباب، وعلى
الاعتبار أن الأسباب هي
الأخرى ترجع لحقيقة التناقص
بين
)
الوحشة / الصباح
. ( فنحن إذا ً أمام ثنائية جدلية تناقضية تقابلية تنازعية بين الحيز المكاني ( الذات ) والحيز الزمني ( الصباح ) المقرون بالوضوح والاستقرار والتفاعل والتفاؤل كمدلول لدال ( الصباح . ( هذه الثنائية تحيلنا بالطبع إلى استراتيجية القصيدة المعتمدة على السرد كمنطلق طبيعي لمن يشعر بالوحدة وكحاجة ماسة نفسية للشاعر وبالتالي ارتكازها على تآلف الجمل كمدلول حركي وصوتي وسمعي لا الصورة البيانية كمرتكز جمالي، يستطيع النص من خلاله أن يبلغ غايته الجمالية ويحقق مقاييسه بأن ينقل الانفعال المؤكد للوحشة، ناهيك عن الثنائية التقابلية بين الجملتين الإسمية والفعلية، فالثبات والتقريرية للاختصاص المنصب في ذات الشاعر مع الاستمرارية والديمومة والتدفق للأسباب المؤدية لهذه التقريرية داخل إطار الحيز المكاني لذات الشاعر. البناء المعماري للنص : أما عن علاقة عتبة النص بالشكل المعماري للقصيدة فتبدو واضحة من خلال الجوانب الأربعة للشكل المستطيلي للقصيدة بأضلاعه المتباينة الطول والمتساوية، حيث تعمل هذه الأضلاع على ضبط عملية الاختصاص، فكل ضلع هو في حقيقة الأمر جملة من الأسباب التي تؤدي للوحشة المتدفقة داخل النص ومنه للمتلقي وعلى اختلاف معالجتها الاقتصادية والسياسية والتعاملية بين النظام و الفرد في شكل تماسي للأسطورة من خلال حكاية حمادة المشابهة لحكايات جحا المعروفة . ولعل هذا ما يحيلنا للعلاقة الوثيقة بين البناء المعماري للقصيدة بشكلها المستطيلي والمضمون واتجاه النص، فالشكل الهندسي لها يتميز بتعادلية الأضلاع، حيث تتساوى القاعدة والتي تحتوي على شرائح المجتمع، والتغييرات الناتجة عن الضغوط الاقتصادية والسياسية عليها، فتبدو أشبه بمن يحاول الخلاص بوسيلته الخاصة، لكن النتيجة واحدة في جميع الأحوال، نظرا لوحدة البيئة والفاعل، نقول تتساوى القاعدة مع الضلع المساوي لها والمرتبط بها برابط الضغط السياسي والاقتصادي، وإن كانت المشكلة في الضلع السقف تتركز في الكشف عن غباء النظام من جهة ومن جهة أخرى عن مدى الخوف والحرص على هيبة النظام المزعوم وحتى لو كانت الهيبة مهددة من حيوان لتدور الحكاية في كيفية الخلاص من المأزق بشكل يتماس مع الأسطورة ويكشف الوجه الساخر من الحكاية، وبالتالي اتصال الضلعين قائم على ضلعي العلاقة بين النظام كفاعل مشترك وبين القوة الشابة المتطلعة للتحرر و العلم أيضا، ليمثل الشكل المستطيلي الانتظامية في الوحشة والارتباط الكامل ببعضهم البعض، حتى لا يمكن الفكاك إلا بإسقاطهم جميعا، كذلك في زواياه القائمة والمتحولة بعنف من اتجاه لاتجاه، والحدة في احتواء الحيز المكاني الواقع بين أضلاعه، بحيث لا يمكن الخروج بأي حال من الأحوال ليظل مرتبطا بشكل أو بآخر بوجود هذه الأضلاع وصعوبة الخروج منها إلا باختراق أحد أضلاعه أو بهم كلهم مما يوحي بضرورة الانهيار الكامل أو الجزئي لهذه الأسباب كي تشكل المخرج من المأزق أو الوحشة . ولعل هذا ما يبرر تحول النص في نهاية كل ضلع من استراتيجية السرد إلى التأمل والمنولوج الداخلي تأسيسا على ما سبق من عرضه، ولعل هذا أيضا يناسب العوامل النفسية للشاعر والواقع بين ثنائية الداخل والخارج لبيئتيه ( الوطن الأم / المنفى أو الغربة ) حيث يرى ضرورة التغيير بشكل هادئ لا ثوري وبالتالي عدم الميل للألفاظ المتعارف عليها في القصائد السياسية التي تنتهج منهج الرفض للأنظمة الاستبدادية مثلما حدث في تجربة الشاعر الكبير أمل دنقل . ناهيك عن زواياه القائمة ( أي الشكل المستطيلي ) والتي تبدو في الانفعالية عند كل تحول من ضلع لآخر، والذي يبدأ بالعتبة الرئيسية للنص إلى المقطع الرابع أو نهاية الضلع الأول من الشكل ( كأن أصيخ السمع ... وأن أعيد صياغة النص ... ولا أكف ... ولا أمل .. ) فالثنائيات التحولية ( أصيخ / أعيد / لا أكف / لا أمل ) سواء بالإيجاب أو السلب تمثل الزاوية التي يتم بموجبها التحول من منطقة لأخرى . هكذا فالشكل الهندسي يعني الأضلاع المتفقة للوحشة في نفس المتلقي من النص والتحولات التي تدعو دون أن تثور على الواقع بل المطلوبة الخروج من الوحشة، كما أنه يصبح عاملا حاسما في التدفق الشعوري والشعري معا نتيجة تفعيل حركية التحول من جهة ومن جهة أخرى استعراض مبرر للجوانب المختلفة و المؤدية للعملية الانتقالية للانفعال كغاية جمالية مرجوة، وبذلك يصبح الشكل كغرفة مغلقة على نفس الشاعر ومنه إلى المتلقي يعيش في حيزها، وتصبح الوحشة معها محكمة الإغلاق تبرر عدم الاستمتاع بالوطن المنفى أو اللحظة الآنية البنى العميق للنص ومحاولة الوصول للمكن . ونظرا لتبدل الرؤية الجمالية للنص ما استدعى ذلك سقوط المقاييس المتعارف عليها في القصيدة العمودية أو التفعيلة على حد سواء واقتصار النص على القدرة على الانتقالية الانفعالية والتأثير في انفعالات القارئ وتوجيهها لخدمة الغرض الأكبر والذي يهدف إلى كسب أكبر قدر من التعاطف للقضية ومنها لحشد التأييد المطلوب لعملية التغيير الهادئة والساعي إليها النص، فإن ذلك يتبعه سقوط البلاغة بشكلها التقليدي والمُشـَكـِّلة للحس الجمالي القائم على التجسيد والتشخيص، لتبرز بدلا منها عوامل أخرى محققة لغاية النص الجمالية للانتقالية كي تحل محل ما تعارف عليه من تقليدية بلاغية تثير ولا تكشف وتشحذ الهمم للتغيير العنيف ولا تتأمل لتعطي المساحة الكافية للتبدل المطلوب . وللوصول للبنية العميقة للنص وبالتالي للمعنى الممكن له، يجب الانطلاق من الرؤية التفكيكية للنص وتحوله لمستوياته بدأ من أصغر وحداته، وتحديدا من البنية الصوتية له، علها تكشف لنا جانبا هاما من استراتيجية النص في العملية الانتقالية للانفعال، كذلك للكشف عن الانزياح المعنوي والإيحائي للأصوات المهيمنة عليه في مقابل الأصوات المهملة فيه كثنائية صوتية يمكن لها دالة على جوانب معينة للمعنى، بجانب ثنائية الإيقاع التي سيأتي ذكرها تباعا . جداول للمقاربات الصوتية : الجدول العام للحروف مجتمعة . حروف شائعة ل مد ألف همزة م ت ر ن ي ب ح مد ي و د ف العدد 183 173 155 147 132 128 102 86 84 80 60 53 52 50 حروف مهملة ظ ز ث غ ذ ط ض و مد ش ج خ ع ك ص س ق هـ العدد 2 8 11 11 13 16 16 15 21 20 20 33 37 35 38 45 45 الجداول الخاصة بأهم المقاطع للأضلاع : الضلع الأول : حروف شائعة ل مد ألف همزة م ت ر ن ي ب ح مد ي و د ف العدد 64 55 99 39 54 50 35 27 46 19 22 16 12 22 حروف مهملة ظ ز ث غ ذ ط ض و مد ش ج خ ع ك ص س ق هـ العدد ـ 3 5 4 7 5 10 2 9 4 6 11 17 14 8 12 20 الضلع الثاني : حروف شائعة ل مد ألف همزة م ت ر ن ي ب ح مد ي و د ف العدد 43 43 26 33 25 30 26 16 20 12 14 16 15 9 حروف مهملة ظ ز ث غ ذ ط ض و مد ش ج خ ع ك ص س ق هـ العدد 1 3 3 2 1 5 3 5 4 8 6 9 5 8 12 13 8 الضلع الثالث : حروف شائعة ل مد ألف همزة م ت ر ن ي ب ح مد ي و د ف العدد 76 75 28 75 53 48 41 37 24 50 24 22 23 19 حروف مهملة ظ ز ث غ ذ ط ض و مد ش ج خ ع ك ص س ق هـ العدد 1 2 1 5 5 6 3 8 8 8 8 13 15 12 15 20 17 جدول الحروف المجهورة مقارنة بالمهموسة : مج ب ج د ذ ر ز ض ظ ع غ ل م ء نم1 27 4 12 7 50 3 10 ـ11 4 64 39 99 35 م2 20 8 15 1 30 3 3 1 9 2 43 33 26 26 م3 37 8 23 5 38 2 3 1 13 5 76 75 28 41 مهم ت ث ح خ س ش ص ط ف ق ك هـ م1 54 5 19 6 8 9 14 5 22 12 17 20 م2 25 3 12 6 15 4 8 5 9 13 5 8 م3 53 1 50 8 15 8 12 6 19 20 15 17 ومن الواضح أن هناك أصوات هيمنت على النص بدءا من صوت اللام مرورا بمدّ الألف ثم الهمزة فالميم و التاء والراء وأخيرا النون، في مقابل أصوات أهملها النص وكانت كالتالي : الظاء ثم الزاي فالثاء والغين والذال والطاء ومد الواو والصاد والشين والجيم وانتهاء بالخاء . والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة، ما الذي تشكله هذه الأصوات من حيث الهيمنة أو الإهمال ؟ وما طبيعة الانزياح المعنوي والدلالي أو الإيحائي لهذا الأمر ؟ . من المعلوم أن حرف اللام كأقوى الحروف وأكثرها انتشارا هو ( حرف مجهور متوسط الشدة ) حسن عباس ـ خصائص الحروف / كما أنه يسقط كدلالة صوتية إيحائية ( للتماسك ) من جهة ومن جهة أخرى ( بالإلتصاق ) مما يعني بالضرورة أن هناك التصاقا وثيقا للحالة الشعورية لمضمون معنى الجملة للمشكلة الأساسية والدافعة للنص ( الوحشة ) . خذ مثلا ( لماذا لا أكف عن اتصالي الهاتفي بها ) فالمعنى لا يحتاج تبيانا إلآ أن دخول اللام كأحد الأصوات الحاسمة والمشكلة للمعنى داخل السطر الشعري يقوم بشكل أساسي بمسؤولية نقل الانفعال جراء تكراره ومن مجرد المداومة إلى حيز الالتصاق بالفعل ( لا أكف ) والتشابك مع ( اتصالي الهاتفي ( وإسقاط ذلك في نفس المتلقي كحدث فاعل ومولد للمشكلة ( الوحشة )، ليأخذ المعنى بعدا أخر غير المداومة إلى الارتباط الوثيق ( التشابك و الالتصاق )، بحث تبدو الإشكالية واضحة مع ربط هذا المعنى مع معنى السطر السابق عليه والواصف لحالة الطرف الآخر ) الأم ) من استحالة هذا الالتصاق أو التشابك ليكشف لنا عن طبيعة الوحشة التي تهيمن على النص . ثم لو ضممنا ذلك مع السطر التالي له ( وإرسالي المزيد من التصاوير الحديثة ) لبدا لنا جليا الإشكالية الحقيقية من محاولة اختراق متكررة لحاجزي الصمم والعمى، إذا ً هما محاولتان فاشلتان تتكرران مع الكثير من الالتصاق والتماسك بالنفس المحاوِلَة فتكون النتيجة الحتمية ( هل يرى الأعمى من القنديل أكثر من ظلام )؟ وبالرغم من ذلك فالتشابك والالتصاق ضرورة حتمية كانزياح معنوي لصوت اللام المهيمن على الجمل في هذا المقطع وغيره . وإن كان كذلك فالبعد اللمسي للحرف ( اللام (يدخل طرفا آخر في المعادلة المطروحة، وفي تحول الصورة من منطقة التجريد الذهني المتخيلة للمعنى إلى الجانب الحسي اللمسي له ( الثور الهزيل ) فصفة الهزال للصورة لم تعد معتمدة على استرجاع الذاكرة أو استحضارها لصورة الهزال بل تعدت إلى الإحساس اللمسي للهزال كحالة دافعة للإنسان لأن يتلمس هذا الهزال جراء استخدام حرف اللام كبداية ونهاية للصفة ( الثور الهزيل) . صورة ثالثة أشد وضوحا لخدمة دلالة حرف اللام لإيحائية المعنى من الجوانب السابقة مجتمعة في السطرين التاليين ( لا أدري لماذا لا أكفّ عن التلفت للوراء / ولا أمل من التطلع في حطامي ؟ ) ولعل هذا أيضا يلقي الضوء على زاوية الشكل المستطيلي والتقاء الوحشة مع نهاية أخرى ليبدأ ضلع آخر في الانكشاف أمام المتلقي لأبعاد الوحشة الكلية . فالحرف متكرر في السطرين بشكل لافت للنظر ( إحدى عشرة مرة ) منها صوتان مضعفان كنوع من التوغل في الإيحائية مما يرسخ حالة الالتصاق للحيرة من جهة ومن جهة أخرى انعكاس الوحشة داخل النفس ونتيجة لها ودافعا لتحول هذه الحالة المتماسكة القوية للحالة اللمسية، فحالة الحيرة ( لا أدري ) والسؤال والدهشة ( لماذا ) ثم الخوف والترقب للمحذور ( التلفت للوراء ( والتواصل والدوام ( لا أملّ ) مع استشراف الآتي ( التطلع ) ليسقط كل هذا في الحطام كلحظة صادمة تنعكس على القارئ كنهاية حتمية للمرحلة السابقة وبداية سفرة أخرى في عمق الوحشة والغوص في الضلع السياسي للمجتمع الباعث للوحشة، وهذا بالطبع لا ينفي التأثيرات للحروف الأخرى في السطور السابقة كمد الألف المعلن للحالة والمعبر بدفقه للهواء عن طبيعة الحرف السابق له والمعلن عن التالي له، (حيث يقتصر تأثيرها في معانيها على إضفاء خاصية الامتداد عليها مكانية أو زمانية ) حسن عباس ـ خصائص الحروف / وخاصة مع حرف اللام . وإن كنت أرى أنه أيضا يضفي حالة من الحزن و الإنكسار جراء الخروج الحر والحار للهواء كدفق متتابع وكحركة إيحائية لطفرات الألم للتوجه، إلا أن بالطبع سيطرة السابق عليه كصوت قوي يجعل صفاته أعلى من صفات حرف مد الألف وخاصة لو كان حرفا قوي الشخصية، فإن سمات الحرف القوي بالتالي ستفرض نفسها عليه حتما، ولكن هذا لا يمنع بروز هذه الحالة ( الحزن والانكسار ) مع شيوع هذا الصوت في السطر الشعري . أمّا عن حرف الهمزة فإن هذا الحرف الدال على ( الوعائية إلا أنه دال على الجوف وما هو وعاء للمعنى ) نفسه / وهذا ما يجعل لمعنى الوحشة بعدا أكثر توغلا في النفس، فنرى مثلا حينما يحاول النص تجسيد الحالة النفسية لمن يمر بتجربة الاعتقال وفقدان الحرية ( محمود بن كاظم ) ( ويقول لا تبلغ سلامي أحدا / إلى أن تكنس الأنوار أرصفة الظلام ) فإن من الظاهر أن صوت الهمزة متوال ٍ تقريبا مما يدفع القارئ لأن يبدأ الكلمة به ما يعني البداية من الجوف دائما مما ينبع معه الشعور بالوعائية لمعنى الكلمة ( إلى أن ) اتجاه ثم استقرار تأخذ السلام من ( أحد ( كدال يأخذ استيعابية شمول المعنى الرافض حتى يتحقق ما يصبو له ( تكنس الأنوار أرصفة الظلام ) من احتواء النور للظلام . ثم كدلالة بصرية للصورة ( أحد ـ أنوار ـ أرصفة ـ الظلام ) فإن المعادل المعنوي والدلالي للألفاظ السابقة متخيلة بواسطة حاسة البصر ولا غير، فإن اجتمعت الدلالات السابقة تشكل معا الحالة الانكسارية من جانب تسلطها واستيعابها لشخصية ( محمود ) كرمز دال على شريحة من المجتمع رافض ومصدر للوحشة . وبالنسبة للميم والراء فإنهما يدلان على مجموعة من المشاعر انطلاقا من ) السد والانغلاق مع الحرارة والجمع والضم ) نفسه / إن كانا في بداية اللفظ أو ) التوسع و الامتداد ) نفسه / إن كانا في نهاية اللفظ، مع الميزة الصوتية كدال على ) المص والحلب ) نفسه . خذ مثلا لفظة ( متهما ) في ( وكان متهما وقد ثبتت براءته ) فإن هذا اللفظ شديد الإيحائية من حيث الحرارة ثم السد و الانغلاق لدلالة الإتهام أمام النفس لشعورها بالمأساة أو المأزق وامتداد ذلك أمامها كحالة يصعب التخيل معها الخروج من المأزق في ظل النظام الاستبدادي، فإن هذه الدلالات الإيحائية تأتي نظرا لوقوع الميم في البداية والنهاية للفظ، كما أن لفظي ( التقدم / الأمام ) يوحيان بالامتداد الأفقي وبالطبع فإن إيحائيهما يبدوان أكثر وضوحا مع جملتهما ( صار يطنب في الحديث عن التقدم للوراء أو التراجع للأمام ) ثم التناوب في صوت الراء كعامل مساعد قوي للامتداد ( وراء / تراجع ) فإن هذه الحالة المدهشة والمبكية للنفس المنطلقة من المحنة ( الاعتقال ) تبدو انكساريتها شديدة نتيجة هذه الرؤية الممتدة والمعاكسة لما اعتقلت من أجله لتبرز مصدرة الوحشة في نفس المتلقي . ولذلك فإن اجتماع الإيحاءات السابقة مجتمعة تشكل العموم للانزياح المعنوي ولانتقال الانفعال كغاية جمالية يسعى إليها النص ويضعها نصب أعينه، وكلها تنصب في خانة تماسك حالة الانكسار والوحشة واستقرارها في النفس، ثم الترجيع لهما ( كخاصية ثابتة لحرف اللام ( مما يدفع النص لتكرار دائما ( لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح ) كمفتاح ومنطلق، وكنهاية متوقعة راسخة، وكحافز أساسي لاكتشاف الوحشة والبحث عن مسبباتها . لذا لم يكن غريبا بالطبع سقوط صوت ( الظاء ) الذي يوحي الفخامة، والزاي الذي يوحي بالحدة والفعالية، والثاء الدال على الرقة والليونة . فإن مجموع هذه الأصوات ودلالاتها المعنوية وما يترتب عليه من انزياح معنوي سواء بالانتشارية والهيمنة أو الاختفاء والإهمال، تؤكد لجوء النص إلى الدلالات الصوتية ( ظهورا واختفاء ) كعامل حاسم في الكشف عن جوانب مهمة للوحشة ثم الدفع بها لنفس القارئ كحامل للانفعالية ومحقق للانتقالية كغاية جمالية كبرى للنص السياسي، وبالتالي تقوم بدورها الطبيعي كبديل للبلاغة التقليدية، فالحالة حالة انتقال لا تجسيد أو تشخيص بل بث وانتقال . إلا أننا يحب ألآ نغفل أن هذه الأصوات الشائعة في النص تتباين من حيث اللجوء إليها في كل ضلع من الشكل المستطيلي للقصيدة، أو من حيث رسم جوانب الوحشة الرباعية الأضلاع، إذْ نجد ارتفاعا لصوت من الأصوات الشائعة في مقابل انخفاض آخر منها، والعكس صحيح أيضا في أحوال أخرى، مما يعني كدلالة قاطعة لا تقبل الشك إلى ما أشرنا إليه من تحمل الأصوات عبء حمل الإيحاءات على عاتقها والوصول إلى الغاية الجمالية المطلوبة بالدرجة الأولى . فصوت اللام أكثر الأصوات انتشارية في النص وبالتالي تأثيرا فيه، نجده في الضلع الأول القاعدي للشكل المستطيلي ليس هو الشائع والمهيمن، بل صوت الهمزة كدال على المشاهد البصرية لبيئة النص وكوعاء حاوٍ للتحولات المستمرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكحركة مستمرة للخروج من المأزق أو على الأقل تقدير محاولة الخروج والخلاص من التبعات الملقاة على عاتق الفئة البسيطة والجاهلة أمام الحكم غير الواعي أو العابئ بمصالح جماهيره . على حين تأتي أصوات اللام والتاء كأصوات ( متقاربة بين الهمس والتوسط في الشدة ) غانم قدوري ـ علم أصوات العربية / كتأثير صوتي إيحائي في النفس، ما يوحي بالتحول الهادئ دون صخب كنوع من أنواع الاستسلام، ثم هما يمثلان الثنائية الضدية المسيطرة على عملية التحول، ما بين التماسك للام والالتصاق وما بين الاضطراب للتاء كصوت ( يشبه قرع الكف بالأصابع ) حسن عباس ـ خصائص الحروف /، ثم صفة الإعلان نتيجة الامتداد الصوتي لصوت مد الألف الذي لا يكون له إلا إظهار صفات الأصوات السابقة عليه ( هل يرى الأعمى من القنديل أكثر من ظلام ) فتكرارية الراء للرؤية ( يرى )، ثم الميم كحرارة مؤلمة في النفس جراء فقد الرؤية ( الأعمى )، ثم التشابكية والاتصاق للاوضوح نتيجة اللام ( ظلام ) كل هذا في إطار تتابع حرف اللام المسؤول عن تماسك وتشابك الصورة وتتابعها ( تكرر أربع مرات في السطر ) ليصبح الظلام النتيجة الحتمية للأعمى المتصف بالمحاولة المتكررة للرؤية واستخدام مصدر الضوء كدال على فقد الشخوص المتوالية في النص للضلع القاعدي للبيئة المؤهلة للرؤية حتى مع امتلاك مصدرها، ناهيك عن سيطرة الظلام وتماسكه أمام النور كمعلم من معالم الحياة في الوطن الأم كدلالة سوداوية للوحشة داخل النفس البشرية . وكذلك في الضلع الموازي للقاعدة في الشكل المستطيلي كصورة تصاعدية أو الذروة لضلعي ( علاقة الحكم بالجماهير ـ محمود ـ وعلاقة الحكم بالعلم والحقيقة المطلقة ـ القصر ونشرة الأخبار )، ليضع لنا النص الصورة المتماسة مع الأسطورة ليدور معها فصول التعامل من الخروج المتوالي من مأزق الشك الذي يسيطر على نظام الحكم الأمني والقاهر لجماهيره، لتبدأ معها مداورات حمادة الحمال ( جحا ( للخلاص من ورطة وضعها حماره فيها والتعامل الأمني معها والشاكّ في النوايا والحكم عليها بناء على الظرفية لا القطعية للأدلة . فمدّ الألف يعلو بجانب اللام مع الميم على حين تنخفض بشدة الهمزة، وتتقارب أصوات التاء والراء والنون لتمزج معا ـ ونلاحظ ـ أن جل هذه الأصوات( تنطق من مقدمة الفم بداية من اللثة وانتهاء بالشفاه ) غانم قدوري ـ علم أصوات العربية / مما يسحب منها صفة ( العمق والشدة ) حسن عباس خصائص الحروف / فيعضد من حركية المشاهد كمكون أساسي للصورة الهزلية الساخرة والمبكية لشخصية حمادة / حجا، فبجانب التماسك والحرارة المؤلمة للمشهد نجد الاضطراب والألم للنون مع الاستكانة مع تكرار الراء . هذا التباين في الاستخدام يؤكد أولا على معيار المهارة لاستخدام خاصية الأصوات كعامل حاسم في بروز الجانب الجمالي لتشكيل الصورة والإسقاط أو الانزياح المعنوي لها في نفس المتلقي وتجعل من الممكن الهروب من تقليدية البلاغة المجسمة والمشخصة، والتي لا يمكنها أن تصبح جسرا لانتقالية الانفعال . فالبلاغة التقليدية من تشبيه واستعارة وكناية لعلم البيان المجسم والمشخص يجعل من المتلقي متعاطفا لا منفعلا، حزينا جراء التجسيم لا رافضا جراء الإحساس، إلا أن مهمة الشعر السياسي وبالطبع نصنا في المقام الأول بث الانفعال وجذب المتلقي لمنطقة انفعالية شعورية لشحذه لعملية الرفض وبالتالي التحول وليدور في نطاقها، لذا فلا تجدي شخصنة الفكرة أو تجسيدها لبلوغ الغاية الجمالية المحددة سالفا . وبالتالي تأخذ الأصوات هنا دور الحامل والدال معا على ملامح الصورة الإيحائية والنفسية للمشهد الحركي والبصري والسمعي بين النص والمتلقي للانفعالية المطلوبة ولعل هذا ما يحيلنا إلى الجانب الآخر أو المعادل للأصوات في هذا المستوى، ونقصد به البنية الإيقاعية للنص ... البنية الإيقاعية للنص وعلاقتها بالانفعالية كغاية جمالية : لا شك في أن البنية الإيقاعية لأيّ نص هي الجناح الثاني والمكمل للبنية الصوتية له، وهي انعكاس حقيقي ومؤثر في عملية الانتقال الانفعالي كأساس جمالي تقوم عليه القصيدة السياسية . وتأخذ البنية الإيقاعية أهميتها من كونها الدال المؤثر في نفس المتلقي على هذا الانفعال، بالرغم من الشكل الخفي لها في النص، كما أنها المؤشر الحي للعملية المسؤولة عن انتقال الانفعال كهدف أسمى للقصيدة السياسية من جهة ومن جهة أخرى أحد أهم العوامل الرئيسة في التأثير الانفعالي عموما، بجانب أنها البوصلة لاتجاه الصورة وحركتها الداخلية وتموجها، لذا فإن دراستها هو في واقع الأمر كشف لجانب هام للمعنى الممكن، جانب نستطيع وصفه بالحاسم والمؤثر، هذا الجانب وإن كان ذا أثر هام إلا أنه خفي تدركه النفس ويخفى على العين إلا عين الخبير بالإيقاع الشعري والبنية الإيقاعية لنصنا تعتمد أساسا على تفعيلة بحر ( الكامل / مُتَفاعِلُنْ )، وبمعنى آخر النص ينتسب إيقاعيا إلى البحر الكامل، وهذه التفعيلة تتميز بمقدرتها على التحول إلى ( مُتْفاعِلُنْ ) وهي تشبه صوتيا ) مُسْتَفْعِلُنْ للرجز ) والتي تعنى الحدة في مقابل انسيابية ( مُتَفاعِلُنْ ( التفعيلة الرئيسة للبحر، لنجد التنوع المطلوب والحرية في التعبير عن الحركة الداخلية للصورة والمعنى معها . إلا أن الأمر لا يقف على هذا الحد فقط، بل يتعدى ذلك لإثراء الإيقاع نظرا لطبيعة السرد وتنوع الشخوص وحركتهم نسبة لتنوع طبقاتهم وثقافتهم وطبيعة مشكلاتهم وعلاقاتهم بالنص أو الحكم، نقول إنه تعدى ذلك إلى استخدام تقنية ( التدوير ) وهي تقنية من الأهمية بحيث تستطيع أن تغير من مسار الإيقاع لتدخله في أتون بحر آخر وبالتالي جو إيحائي نفسي إيقاعي آخر يناسب التحولات الداخلية والخارجية للمعنى وتخدم الغاية الجمالية أيما خدمة . بجانب أن هذه التقنية ( أي التدوير ) تقوم بدور هام آخر حيث تجعل من البيت الشعري في شعر التفعيلة يمتد إلى أكثر من سطر شعري، مما يعني امتداد الصورة وتكثيفها، وفي جانب آخر تبرز خاصية ما يسمى بالفضاء الشعري للكلمة الهامة أو المفتاح . فالنص إذا ً ينتمي إلى البحر الكامل إيقاعيا بخاصية تفعيلته ( مُتَفاعِلُنْ / مُتْفاعِلُنْ ) المتابينة بين الانسيابية والحدة المتوالية الشبيهة بـ ( الرجز / مُسْتَفْعِلُنْ ) فتساوي الساكن أمام المتحرك يعني الحدة في الإيقاع نظرا لأن التفعيلة تصبح مقاطع متساوية في البناء ( / 0 / 0 // 0 ) أمام قلة الساكن نسبيا بالنسبة للمتحرك ما يعني الانسيابية في الحركة والتي تناسب الحركة الراقصة ( / / / 0 / / 0 )، فنحن أمام نوعية خاصة من الحركة المتغيرة للحركة الداخلية للصورة ما بين التوازن والحدة وما بين التوالي والراقص المنساب، إلآ أن تدخل تقنية التدوير في البيت الشعري يجعل الإيقاع أكثر ثراء من ذي قبل، حيث تدخل تفعيلة ( بحر الوافر / مَفاعَلَتُنْ ـ مَفاعَلْتُنْ أو مَفاعيلُنْ ) نظرا لاعتبار بعض العروضيين المحدثين أن تفعيلتي الوافر والهزج واحدة لتبادلهم في الوافر ( انظر موسيقى الشعر بين الإتباع والإبداع / شعبان صلاح ) باندفاعها الصاخب وعلو صوتها، وفي بعض الحالات المحددة تنتج عملية التدوير تفعيلة الرجز ( مُتَفْعِلُنْ ) الرزينة والمعللة عند الضرورة أو التحول من السرد إلى التعليل أو التأمل .
إذا ً في حقيقة الأمر، ولو أن
النص ينتمي إلى
البحر الكامل إلا أنه يقوم
على أساس التنوع الإيقاعي،
وبروز ثلاث تفعيلات
تقوم
بالعبء الأكبر في العملية
الانتقالية للانفعال كغاية
جمالية، وهم كالتالي
)
مُتفاعِلُنْ ) وصورتها (
مُتْفاعِلُنْ /
مُسْتَفْعِلُنْ ) كتفعيلة
والدة، تخرج
منها بسبب تقنية التدوير
تفعيلة ( مُفاعَلَتُنْ )
وصورتها ( مُفاعَلْتُنْ /
مفاعيلن
(،
ومع تفعيلة مساندة لوقت
الحاجة أو التعليل أو
الانتقال للتأمل (
مُتَفْعِلُنْ
) .
ففي المقطع الأول من مطلع النص نجد التفعيلة الأساسية للكامل ( مُتَفاعِلُنْ ) بنوعيها كدال على الحركة الداخلية للجملة المسلطة على الحركة الداخلية للنفس، حيث تقوم الجملة على ثلاث محاور تقابلها حركتان، الأول امتلاك ( لي ما ) والثاني توالي ( يبرر وحشتي ( والثالث انصباب ( هذا الصباح )، ما يعني بالضرورة اختلاف نوع الحركة وبالتالي شكل التفعيلة الحاملة للحركة، فحيث الامتلاك والانصباب تكون الحدة ( مُتْفاعِلُنْ (، وحيث التوالي تكون الانسيابية ( مُتَفاعِلُنْ )، فيكون السطر الشعري ( لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح / امتلاك ـ توالي ـ انصباب / مُتْفاعِلُنْ ـ متَفاعِلُنْ ـ مُتْفاعِلُنْ )، ويظهر ذلك بوضوح في السطر الثالث من نفس المقطع ( وابتهاج بنيتي الصغرى بأفراخ الحمام ) فتوالي الابتهاج ( انسياب ) ينصب في صفة الصغرى ( انصباب ( بالسببية والتي تقارب ( الامتلاك ) فتكون الحركة ( فاعلن / مُتَفاعِلُنْ ـ توالي ـ ج بنيتيص / متْفاعِلُنْ ـ انصباب ـ صغرى بأف / إرجاع لسبب ـ مُتْفاعِلُنْ ـ راخل حما مْ . ( امّا التنوع بين تفعيلتين بناء على التدوير، فيكون واضحا شديد الوضوح في المقطع الثاني من الضلع الأول القاعدي للنص، حيث التحول من ( لي ما يبررها ـ متْفاعِلنْ ـ متفا ) إلى التفعيلة الراقصة والمسيرة للحكاية وتوالي السرد بنوعيها ( مُفاعَلَتُنْ ـ مفاعلْتُنْ / مفاعيلن ) وحسب نوع حركة السرد لشخوص الحكاية أو التصاعد الدرامي فيها، فالشكوى راقصة حادة، والمعاناة راقصة منسابة في النفس البشرية ( فأمي تشتكي صمما وقد عشيت ) والجملة لها أيضا محوران، الأول شكوى، والثانية وصف معاناة لتتكون الجملة من تفعيلتي مفاعلتن للوافر وتصبح كالتالي ) فأمْ مي تش ـ مفاعيلن ـ شكوى / تكي صمما ـ معاناة ـ مفاعَلَتنْ / وقد عشيتْ ـ معاناة ـ مفاعلَتَنْ )، كذلك الحيرة تقترب من الشكوى، بجانب الاتصال الذي يصف بالحدة والهاتف يكون كالتوالي منسابا فيكون السطر الشعري والتنوع المناسب لحركة السرد ( لماذا لا أكفّ عن اتصالي الهاتفيّ بها ) وعليه نجد الوصف الحركي للجملة كالتالي ( حيرة ـ لماذا لا ـ مفاعيلن / توالي محاولات ـ أكف فعنت ـ مفاعَلَتُنْ / حركة الاتصال الحادة ـ تصالل ها ـ مفاعيلن / والاتصال ذاته منساب ـ تفي ي بها ـ مفاعَلَتَنْ )، ثم ينتهي المقطع بالتفعيلة الأم كنوع من التحول من السرد للتأمل . وعليه فتنوع السرد أو الحكي كأهم استراتيجية للنص لبلوغ الغاية الجمالية له، تقتضي التنوع وعدم البقاء في أسر إيقاع واحد، نظرا لاكتناز السرد بالشخصيات و المواقف المتنوعة، ما بين التراقص في الانفعال، أو الحدة في الوصف، أو الانسياب في التأمل والتعليل . إلا أن هناك تفعيلة ثالثة داخلة في البنية الإيقاعية للنص وتأتي نتيجة تقنية التدوير أيضا، ونقصد بها تفعيلة ( مُتَفْعِلُنْ )، وهي تقتصر على الجملة التعليلية، كنتيجة حتمية للجملة الرئيسة ( لي ما يبرر ) وكانت على التوالي في الضلع الأول مقاطع ( 1 ـ 2 ـ 3 ـ 4 ) ( فإن جا / ولم يكن / فلم ترث / كأنْ أصيغ / وأن أعيد / ولا أمل ) والضلع الثاني مقطع رقم ( 1 ) ولعل ندرتها في هذا الضلع يؤكد على ما ذهبنا إليه، حيث تختص بالبداية التعليلية للمقطع لا غير ولا تتعداها لغيرها، ثم الضلع الثالث مقطعا ( 3 ـ 4 ) وخاصة المقطع الرابع الممتلئ بالتعليل . والملاحظ أن هذه التفعيلة متوازنة تماما ودالة على الهدوء كسمة مميزة وهامة لسمة التعليل والبحث عن المبررات أو طرح النتائج المترتبة على الفعل . وذلك فإن النص يقدم لوحة إيقاعية متنوعة قادرة على احتواء نبضات الحكاية من جهة، ومن جهة أخرى الانتقال بها لتسكن نفس المتلقي وتكون دالة على الحركة الداخلية للصورة و قادرة على الانزياح المطلوب لمناطق هامة من النص إلى النفس .\ إذا ً فالبنية الإيقاعية في النص كنتيجة نهائية قائمة على صفة الثنائية لتفعيلتي ) مُتَفاعِلُنْ ـ / / / 0 / / 0 و مُفاعَلَتُنْ / / 0 / / / 0 ) التبادلية في الحركات بين الانسيابية والرقص، وكذلك الثنائية التناقضية بين التفعيلة الواحدة في ( مُتَفاعِلُنْ / / / 0 / / 0 الانسيابية و مُتْفاعِلُنْ / مُسْتَفْعِلُنْ / 0 / 0 / / 0 الحادة ) وبين تفعيلة ( مُفاعَلَتُنْ / / 0 / / / 0 الراقصة المنسابة و مُفاعَلْتُنْ / مفاعيلن / / 0 / 0 / 0 الراقصة بحزم أو حدّة ) وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار رؤية العروضيين المحدثين لتفعيلتي ( مفاعلتن ومفاعلين ) اللتان يرونها تفعيلة واحدة ( يرجع إلى ذلك في كتاب موسيقى الشعر بين الإتباع و الإبداع للدكتور شعبان صلاح البحر الوافر )، وكسمة أساسية تساعد التنوع الحركي للسرد الحواري ) كديالوج ) للنص، وحتى تستوعب الحركة التبادلية الناتجة من تباين الشخوص في تفكيرها وطريقة تناولها للمشكلة، بجانب كونها عاملا حاسما في إضفاء الحركة الداخلية المزاجية لهم، هذه الثنائيات يمكن اعتبارها مدخلا جيدا للكشف عن الثنائيات الأخرى في البنى المختلفة للنص والتالي ذكرها . الثنائيات والبنية الدلالية للنص : فإذا كانت آلية البنيوية تهدف للكشف عن المعنى الممكن لا الكامل ( فحسبه أن يصل إلى الممكن من المعنى ) صلاح فضل / البنائية، وتعتمد على الكثير من المقاربات سواء التفكيكية منها أو التقابلية ( مع إسقاط ما يعيق الفهم من رسوم بيانية أو أشكال هندسية جافة تغلق المنهج أمام القارئ )، فإن أهم هذه الآليات المستخدمة هي الكشف عن ثنائيات النص أو الصفة التقابلية كما يحلو للدكتور / عبد القادر عبو أن يسميها، والتي اعتمد عليها كثير من البنيويين العرب أمثال الدكتور كمال الدين أبو ديب في جدلية الخفاء والتجلي ويمنى العيد في تحليلها البنيوي لنص الفاروق عمر رضي الله عنه أو الدكتور عبد الله الغذامي، وعلى اعتبار أن تلك الثنائيات أو التقابلات تنشئ جدلية سواء أكانت ضدية كما كانت مع كمال الدين أبو ديب أو جدلية الداخل والخارج مع يمنى العيد أو نمو حركة السرد مع الغذامي . فإذا ما اتجهنا إلى بنى النص المختلفة لوجدنا عددا من الثنائيات أو التقابلات التي يعتمد عليها النص في الكشف عن أبعاد الوحشة، وبالتالي انتقالية الانفعال كغاية جمالية بواسطة اعتماده على استراتيجية السرد والخطاب المباشر، والذي يعد في حد ذاته سمة أساسية، حيث يعتمد السرد على الحوارية بين صوتين، الأول منها واضح ويصدر من النص ذاته، والثاني منها خفي مستنتج يتوقعه النص من القارئ حيث يصبح القارئ طرفا أساسيا في الإبداع الثاني، فإن كانت الحوارية عند ( باختين ) ( تظهر من خلال أصوات متعددة تتكلم في الوقت ذاته، دون أن يتغلب أحدهما على الآخر ) فإن النص لا يريد لنا أن نميل، بل يريد التفاعل مع هذه الحوارية ونشارك في الجدلية لنصبح الطرف الخفي للحوارية، ليحدث كما يقرر الدكتور أحمد مطلوب ( مسافة التوتر التي تخلق النص ذاته ) مصطلح النقد الحديث . ثنائية الداخل والخارج : إن التحولات في السرد من الخاص ( الأم ) إلى الدائرة الأوسع بقليل للجارة، ثم الأوسع إلى الصديق ومنه إلى الوطن، واستعراض العلاقات المتوالية، والتحولات المعيشية والأخلاقية والأيدلوجية وهكذا تقوم على الأساس التبادلي مع الصوت الخفي وبروزه، والذي يفترض في القارئ صفة التفاعلية، بأن يوجه للنص التساؤلات المطلوبة لتبرير تلك التحولات المنظورة ولتبدو منطقتها . إذا، فثنائية الأصوات في حركة السرد تمثل الداخل ( الصادر ) إلى الخارج ) المتلقي ) ومسؤولة عن التحولات المتوالية من شخص إلى آخر، ومن ضلع إلى ثان، ومن منطقة شعور إلى أخرى، ما يجيز للنص طرح التساؤل كتساؤل مشروع ومبرر لبلورة الوحشة من جهة، ومن جهة أخرى إتاحة الفرصة للطرف الخفي البروز و الفاعلية كهدف للغاية الجمالية . وتبدو ثنائية الداخل والخارج واضحة المعالم على سبيل المثال لا الحصر في مطلع القصيدة ( المقطع الأول ) وبتوالي الشخوص في الضلع القاعدي من النص، فالجملة الرئيسة ثم الانتقال المفاجئ للمثال على تفاعلية الوحشة في نفس الشاعر، تجعل من الفجوة متخيلا لتساؤل القارئ، كيف ؟، ليكون ( بأن أغض الطرف . . ) . كذلك في الانتقال من الجملة الرئيسة ( لي ما يبررها ) إلى الأسباب للوحشة بواسطة حرف العطف ( الفاء ) وهو يعني الترتيب مع التمهل، لتكون مسافة التمهل هي المسافة المطروحة للصوت الخفي ( القارئ ) للظهور والتساؤل لمنطقة التحول من الشكوى إلى التعليل، وتبدو هذه التقنية من النص متكررة في أكثر من موضع ما يؤكد على ما ذهبنا إليه من العملية التبادلية في الأصوات، فإن كان النص يبدو فيه الصوت كصوت منفرد إلى أن المسافات الملاحظة تجعل من وجود صوت آخر مبررا ومنطقيا للتحول الآمن . ثنائية الخارج والداخل : فإنها باعثة على كشف مناطق الوحشة، والمراد بها حمل هذه المنطقة كانتقالية انفعالية لنفس القارئ / المتلقي، ( ونقصد بها الملابسات التاريخية والاجتماعية المحيطة بالنص الأدبي ) د. أحمد على / الموقف العربي ـ فالنص يقع بين طرفي الخارج والداخل، بين موطني النص، المنفى والأم، وبين حميمية المشهد المُتَذكر وبين برودة وقسوة الواقع المعاش، وبين مشاعر التحول الداخلي للوطن الأم، والثبات والاستقرار في الوطن المنفى، ليكشف لنا أبعاد الوحشة وقوتها في نفس الشاعر ومنها للمتلقي / القارئ، التي تجعل من المنطقي عدم استمتاع الإنسان بالاستقرار والجمال بين عناصر المشهدين ( الابنة / ابنة الجارة ـ الحديقة / الأرض الزراعية ـ البيت / الوطن )، كل هذا لينتقل به إلى التحولات وعدم الاستقرار كمشهد تقابلي للأم والجارة وابنتها والصديق والحبيبة، وانتهاء بالمراوغة من أجل البقاء ولو على حساب الرفيق ومصدر الرزق الأساسي . فمقارنة الأم / الوطن والموصوفة ( الصمم ـ العمى ) والوطن المنفى الموصوف بـ ( الورد والابتهاج وأفراخ الحمام / السلام تقابلية تبرز الوحشة والحزن الدفين كمنتج للوحشة والآخذ معه المتلقي / القارئ إلى نفس المقارنة بين الخارج والداخل للوقوع في نفس منطقة الوحشة والنتيجة الأكيدة من الحزن . ناهيك عن التحولات الأخلاقية والاقتصادية والأيدلوجية لشخوص الوطن الأم أمام الاستقرار الموصوف سابقا بالدلالات ( الوردة والابتهاج و الحديقة والأفراخ للحمام ) ما يجعل الإغراء للهرب من المأزق منطقيا حتى ولو إلى ( جنائن كهف مغترب / فردوس المنافي ) وما تعنيه التقابلية بين ( الكهف و الجنائن / الفردوس و المنفى ) ليسقط الحقيقة الغائبة بفعل القسوة الشديدة للوحشة الداخلية في نفس أفراد الوطن أمام الوحشة الداخلية والخفية للوطن البديل أو المنفى، كل ذلك بواسطة( سفن مهيأة لشحن الهاربين ) كبضائع لا بشر . ثنائية التراتبية : والنص يبدأ من داخل النفس البشرية كقاعدة انطلاق في كشف الوحشة، والتي هي في حقيقة الأمر السمة الغالبة على الوطن الأم، والمتفجرة من نفس الشاعر كبديل شرعي لضمير الوطن الأم في المنفى، لينتقل بعد ذلك في المقابل من الأم كعلاقة الدم بينهما وبين النفس الشاعرة للوحشة، ولتتحول إلى الدائرة الأوسع تخص الجارة وابنتها ومنها إلى الحبيبة ومنها إلى الصديق ثم انتهاء بالنظام مع العلم ومع الجمهور ( الشعب ) إلى نهاية المطاف بالعلاقة بين هذا النظام وأفراد شعبه القائمة على الشك والمراوغة . إذا فمجموع العلاقات الناشئة من الداخل والخارج /الخارج والداخل تشكل الخريطة السردية في النص، وتكشف في آن واحد مجمل أسباب الوحشة وأبعادها، والانتقالية الانفعالية كغاية جمالية وهدف مشروع للنص، كما أنها تعطي تصورا لنوعية الحياة التي يعاني منها الوطن الأم مقابل نوعية الحياة في الوطن المنفى الذي يعيش فيه الضمير الممثل لهذا الوطن / الشاعر، كنبرة ألم مشروعة تحيل القارئ / المتلقي إلى الانزياح المعنوي لما يجب أن يكون عليه انطلاقا مما هو كائن إلى الوصول إلى ما ينبغي أن يكون أو إلى الحلم، وانطلاقا من رفض ضمني للواقع والأمل في الوصول إلى المثيل للوطن المنفى . ولا تتوقف التقابلات التراتبية عند الخطوط العريضة والعامة للسرد، بل تكون وجها أساسيا في التحولات الداخلية للموقف الواحد كعامل حاسم وبامتياز لكشف قسوة الوحشة النابعة من قسوة المحاولات للهرب من المأزق / الواقع، فعلاقته بالأم قائمة على عدم الكف ثم التوالي في الإرسال بالرغم من الفقد ( تشتكي صمما / وقد عشيت )، والجارة تبدأ من ) باعت إلى المقايضة ثم الشراء وصولا لشح المصدر ) كنتيجة تلقائية لهذه التراتبية في النص والتحول من مجتمع إلى مجتمع، ومن نشاط اقتصادي قديم إلى نشاط اقتصادي جديد مجهول الإبعاد غيير مدروس ( الخراف شحيحة ) ما يجعل هذه التحولات فاقدة للرؤية والتعقل، وموحية بالتعجل للهرب من المأزق / الواقع حسب قدرة الهارب عقليا وعلميا وماديا . كذلك التراتبية للإبنة بالبيع أيضا ثم الشراء ولكن ليس للمادة وإنما للنفس والجسد معا كمحاولة متعجلة أيضا غير متعقلة أو مدروسة وحسب قدرة الهارب فابنة الجارة ( كادت تزف ـ قضى عليه ـ ولم يكن كتب ـ فلم ترث ) والنتيجة واحدة كمحاولة فاشلة للهرب مع الجارة ( الخراف شحيحة ) ومع الابنة ( فلم ترث غير العباءة والسوار (، ثم الصورة الداعية للجمال والباعثة له والذكريات الجميلة والمتحولة إلى قبح، وبنفس التقابلات التراتبية تتحول الصورة من الذكرى الجميلة إلى الألم، فنهلة ( كانت القنديل ـ كبرت ـ كتبت ـ صفق ) والنتيجة لهذا الواقع المتغير والمحول ( جاءها طفل له رأسان . ( فاعتماد النص على التقابلات التراتبية والتي تحتوي على التقابلات الأخرى كانت استراتيجية أساسية لانتقال الانفعال بالخيبة المتوالية في كل الأحوال والمؤدية بطبيعة الحال إلى الوحشة وبالتالي للحسرة على الوطن الأم من الوطن المنفى . الثنائيات التناقضية : وقد بلع عددها خمسة عشر تناقضا، وتستطيع من خلال هذا العدد تحديد مدى اعتماد النص عليه كاستراتيجية تستطيع هي الأخرى الكشف عن حدّة التحول وبالتالي قسوة الوحشة في النفس ومنها للقارئ، وهي هامة نظرا لاعتمادها على الجزئية الكاشفة عن الحدة في الموقف والتحول، لتكون مرآة عاكسة للتحولات الداخلية في النفس، كما في مطلع النص ( غض الطرف / الابتهاج ) فالابتهاج نقطة جذب عالية لأي نفس، فإن كان المقابل متناقضا معها ( التغاضي ) فالانزياح المعنوي الحتمي لهذه الثنائية إدراك حجم وقوة القسوة للوحشة في النفس، وبالتالي الإحساس بمدى وحجم التوتر الانفعالي داخل النص ومنه إلى خارج النص / المتلقي . وتتوالى الثنائيات التناقضية كأساس لمبعث السخرية من الواقع وكصفة أساسية للمأساة المولدة للملهاة، والتزاوج الثنائي أيضا لا يبعث على الوحشة فحسب وإنما رفضها أيضا رفضا ضمنيا، وبالتالي الدفع للبحث عن البديل المتخيل كنتيجة حتمية وحيدة يبعثها انتهاء المشهد التقابلي باللغة التأملية مقابل اللغة السردية السابقة عليها . يبدو هذا جليا في اعتماد النص في الكشف المتوالي من الدائرة الصغرى للعلاقات وصولا إلى الدائرة الأوسع والكبرى لهذه العلاقات، فالتناقض جليا بين موقف النفس وبين حالة الأم / الوطن ( الاتصال / الصمم ـ إرسال التصاوير / العمى الليلي ) وهي صورة ساخرة للفعل وليس من الفاعل مقابل المفعول به، ليصبح التساؤل مشروعا ( لماذا لا أكف ) لينصب كله كدافع للتساؤل عن حقيقة الواقع المتردي . ثم الثنائية التناقضية لابنة الجارة أيضا، فالثراء لا ينتج ثراء كمحاولة يائسة للخروج من المأزق ( كادت تزف إلى ثري ... / فلم ترث ) ليكون الحافز لإعادة قراءة المشهد لضرورة الفهم بالاستماع إلى ) الماضي / لم يات ) إو ( أعيد / أهمل )، أو في دائرة الصداقة كنتيجة ساخرة للحدث القائم على التناقض ( لا تبلغ / سلامي ) فالخوف يبلغ حد السخرية المبكية المضحكة معا تناقض السلام الداعي للإفشاء أمام لا تبلغ أو عدم الإبلاغ، ليصبح المشهد برمته باعثا للوحشة وحدتها من النص إلى القارئ وأداة فعالة لانتقالية الانفعال من الداخل إلى الخارج كغاية جمالية يجب ألا ننساها محددة لاستراتيجية النص وتحولاته الثنائية التضادية : ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك توازنا بين ثنائيتي التناقض والتضاد، بل اعتبار التضاد جسرا للتناقض وفاعلا حاسما في تكوينه، لذا فإننا سنجد أن الصورة للمشهد تعتمد دائما على تواجد التضاد لتوالد التناقض كثنائيات متوالية، فالوحشة تتضاد مع الصباح دلاليا ما يجعل من مشروعية البحث عن الأسباب شيئا منطقيا وداعيا لسخرية المشهد ككل وعلى جميع مستوياته الثنائية فتناقض داخلي ) من الداخل أمام الداخل ) وخارجي ( من الداخل أمام الخارج ) وتأملي ( من الخارج إلى الداخل ) وبذلك تصبح الشبكة الداخلية للنص القائمة على العلاقات داخل الشكل المستطيلي بين أضلاعه الأربعة ومحوره النفس، أو في العلاقات بين السبب والنتيجة داخل الضلع الواحد . ولعل مشهد علاقة الصديق والنظام أو الفرد بالنظام والنظام والمجتمع والعلم معا، ثم حكاية حمادة الحمال / جحا تنبي عن توكيد لهذه العلاقة بين ثنائيتي التناقض والتضاد واعتبار الثانية جسرا للأولى والأولى نتيجة حتمية للثانية والاثنان معا مكونان لمشهد ساخر حد البكاء والضحك معا . فمحمود ( بات حرا ( بعدما ( كان متهما ) إذ قد ( ثبتت براءته ) فالنتيجة بناء على مروره لمنطقة التناقض للحرية، ثم تحول حديثه للسخرية طبيعية لمروره السابق، حيث ينصب حديثه حول ) التقدم / للوراء ـ تراجع / للأمام ) ليقنع بالتناقضية الموحية بأثر الواقع التناقضي والذي عاشه أو يعيشه المجتمع أيضا، حتى يبلغ قمته بالرضا التام / الاستسلام، والبعد عن الجميع خشية الوقوع في التضاد ( الحرية / السجن ) فيجمع التناقض في ( لا تبلغ / سلامي) . المشهد الثاني بين النظام والجمهور، والممثل له ذات الشاعر أيضا، تعتمد على نفس الاستراتيجية حيث تتعاضد فيه الثنائيات من التراتبية في ) الناطق الرسمي ـ العلم ـ الواقع ) بأفعال تضادية معنوية ( يطنب ـ ينبي ) ما بين الإسهاب وبين الإشارة والإيجاز والنتيجة ( قد يدوم ) وعليه فالأول توكيد وثقة وتفرد والثاني تلميح دون تصريح وتسريع دون تطويل ما يشي بالخوف وعدم الاطمئنان والنتيجة التناقض ما بين ( الربيع / الخريف ) كواقع دال على الوحشة والحيرة، ما يدفع إلى الصورة النهاية للهروب كحل اعتيادي ومتوقع من عدم القدرة على المواجهة وهو الهروب للوقوع بين الثنائيات التضادية والمؤدية للثنائيات التناقضية ما بين ( جنائن الكهف ) بين الضيق والرحابة ( الفردوس / المنافي ) الحميمية والسعادة مقابل الشقاء والحزن والبعد، بالتضاد أدى للهرب إلى التناقض وهكذا . ثم يأتي المشهد الأكثر سخونة وحركية وفكريا، ولإسقاط الحكاية الشعبية الأسطورية كثنائية من الداخل إلى الخارج من الواقع للحكاية، مع تبادل للأدوار بين ( حمادة / حجا ) وبين الحمار، فالأول يصبح حكيما والثاني متهورا أحمق . فتناقض الفعل ( مات / قتل ) آت من تضاد ( سوق / كسدت ـ حقل / ما يعرف الخضرة ) ثم تأتي الأسباب بناء على فعل ( يبول ( ما يجعل ثنائية الداخل إلى الخارج تظهر حيث البول للاحتقار أمام الهيبة للاحتفال، لينحصر في تضاد ( تحت / رفعت ) ولأنه كإنسان يمثل شريحة المجتمع ( حمادة ) فإنه (يجهل ) فيكون فعله تراتبيا (يسأل / لا يجيب ) كثنائية دالة على الفعل ( يجهل (، وبهذا تجتمع المأساة الملهاة من واقع ممتلئ بالثنائيات التناقضية التضادية، ولتبلغ الحكاية ذروتها بفعلي ( ارتبك / احتفل ) بما لهما من تضاد معنوي باعث لهما فالأول ناتج عن الخوف والرهبة والثاني ناتج عن الانتهاج والفرحة، لتصبح النتيجة أكثر سخرية لعلو ( النهيق ) على الكلام البليغ ( الخطبة ) كتناقض بين اللابلاغي وبين البلاغي وبين اللاواعي وبين الواعي وليأتي الفعل المرجح ( القتل ) كإرادة حرة أمام ( الإرغام ) كضياع للإرادة، نتيجة أخرى تناقضية طبيعية لحقيقة مرة لعقل وفهم النظام للموقف بالاتهام القائم على التضاد ( تأليب / النظام ) لينتهي المشهد بالاحتمالات والترجيحات القائمة على التراتبية ( قتل / تخلص ). هذه المشاهد السابقة المتوالية والتي تعكس حقيقة العلاقات بين شرائح المجتمع / الشعب بالنظام المسيطر ما كان لها أن تكون بالغة الأثر إلا باجتماع هذه الثنائيات جميعها، وبين الفعل ورد الفعل المعاكس حتى يكون المتلقي جاهزا للعملية الانتقالية للانفعال كغاية جمالية وهدف مشروع للنص والتي على أساسها أسقط النص آليات البلاغة التقليدية . فميزة النص غير إصراره الشديد على جعل المتلقي / القارئ في بؤرة التوتر الانفعالي كنتيجة حتمية للثنائيات التناقضية والتضادية والتراتبية مجتمعة معا في سياق السرد والتأمل، لا يهدف فقط هذا بل يتعدى ذلك إلى دفع المتلقي / القارئ إلى الرفض دون تصريح دفعا هادئا من خلال المشاهد الساخرة ودون استخدام لكلمة واحدة لهذا الرفض، كما في القصيدة الفارقة لأمل دنقل ( لا تصالح ) أو الوصايا العشر كما يحلو للبعض أن يسميها . وبعد، فإن هذه القراءة حاولت قدر الإمكان التحرك في مستويات البنى العميقة للنص، حسب ما يخدم غرضها الأساسي، وهو قراءة النص من منظور الشعر السياسي، وليس من منظور عام قد يعطي مساحة أوسع وأكبر لإمكانية القراءة للمعنى الممكن، فقط اقتصرت القراءة على الفهم الواعي للنص من خلال الغاية الجمالية لهذا النوع من الشعر من جهة ومن جهة أخرى حاولت التعرف على استراتيجية النص للوصول إلى هذه الغاية ومدى مناسبتها لتحقيقها . لذا فلم تهتم القراءة بثنائيات الحركة داخل النص للتعرف على شكل الوحشة، بل كان همها الأكبر التعرف على مسبباتها، فلم تدرس أنواع الأفعال ودلالتها والمستوى التركيبي للجملة، واقتصرت على المستوى الصوتي / الإيقاعي بجانب ثنائيات التراتبية والداخل والخارج والعكس والتناقضية والتضادية، والتي كانت جميعها البديل الطبيعي للبلاغة التقليدية لبلوغ الانتقال الانفعالي كغاية جمالية يهتم بها النص و كنوع من شعر الرفض السياسي غير الثوري الداعي للتغيير، وقد استندت هذه الرؤية على المدخل الجمالي للشعر السياسي الرافض، بجانب المدخل التاريخي والدلالي لشخوص السرد، مع الاهتمام بالبناء المعماري للشكل الهندسي للنص لعله يشي بحجم الوحشة والمقصود منه، ما يعني حشد إمكانات النص لفهم أعمق وأشمل للنص وعدم اللجوء إلى القراءة الأفقية للنص أو التحليلية لها دون إقامة الشبكة الداخلية له، حتى لا تتسم هذه القراءة بصفة العماء أو كما عبر عنها د. محمد حسن المرسي بالقراءة العمياء في مقاله حول مستوى القراءة اللازم لتذوق جماليات النص الأدبي / مجلة القراءة والمعرفة . ولقد جعلنا الرؤية الجمالية للنص الأساس في فهم دواعي اختيار السرد كبديل للبلاغة التقليدية، حتى لا يتم تسطيح النص من خلال التفسيري الأرسطي لها، والذي هو الأساس والمعيار للرؤية الجمالية للنص الكلاسيكي، ما يعني بالضرورة فقد الكثير من جماليات النص، أو اعتباره رمزيا يقوم على الإيحائية للصورة، أو اعتباره نصا سورياليا برؤاه الحدسية اللاواعية . هذا بجانب أننا قد أسقطنا عند استخدامنا المنهج البنيوي لبعض آلياته والتي يعاب عليه استخدامه، حيث أن قناعتنا في استخدام المنهج قائم على أنه وسيلة لا هدف، لذا لم يكن من الضروري استخدام الرسومات الجامدة الهندسية والجداول قدر الإمكان لمناسبة العقل العربي، واستبدال ذلك بالأسلوب الوصفي كما فعل الغذامي في دراسته وكانت مثار الثناء وعلى عكس ما فعل كمال الدين أبو ديب أو يمنى عيد، حيث أشار إلى ذلك كلٌّ من الدكتور / أحمد على محمد والدكتور / عبد القادر عبو في مقالتيهما المنشورتين في مجلة الموقف العربي الصادرة من اتحاد الكتاب العرب بدمشق . وعلينا أن نعترف أيضا بوجود نقص ما في الدراسة ناتج عن قلة الدراسات البنيوية التطبيقية والتنظيرية في الوطن العربي، ما يدعونا من خلال هذه المناسبة إلى الدعوة للتكثير من هذه الدراسات القائمة على الوعي الكامل بهذا المنهج وبشكل يجعل من المنهج وسيلة لا هدفا وليناسب العقلية العربية، لعلنا بذلك نص إلى شكل ولو منبثق عن البنيوية الغربية ليصل إلى بنيوية عربية تأخذ بعين الاعتبار أسس النقد العربي والتي لا تختلف كثيرا عن أسس النقد الغربي ..
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |