دراسات نقدية

 

"ملك الكلمات" مختارات من قصائد شيركو بيكه س: قصائد شامخة كجبال كوردستان
 

ابراهيم حاج عبدي/ دمشق

يستحق الشاعر الكوردي الكبير شيركو بيكه س أن يكون "ملكاً للكلمات"، كما ارتأى المترجم صلاح برواري حين اتخذ من هذا اللقب، المستل من إحدى قصائد الشاعر، عنوانا للمختارات التي صدرت، مؤخراً، لبيكه س عن دار الينابيع ( دمشق ـ 2008)، فالشاعر بيكه س، الذي لم ينسب هذا النعت لنفسه بل جاء النعت في سياق مختلف، استطاع، وخلال نحو خمسة عقود، أن يتربع المشهد الشعري الكوردي، إذ أسلمت له الكلمات قيادها، واجتمعت الحروف البهية على ضفاف قاموسه الشعري، وتراقصت المفردات من حول شغفه المزمن بالصور الآسرة والخيال الخصب، وهو راح يتجول في حدائق الشعر باحثا عن الرحيق والشذى والعبير، ليصوغ منها قصائد استقرت في الوجدان، والذاكرة حتى غدا رمزاً لا يمكن تجاهله لدى أي حديث يتناول الشعر الكوردي المعاصر، بل أصبح سفيراً مخلصاً للشعر الكوردي في لغات لم تسمع، ربما، بالقضية الكوردية وأبعادها وجذورها وآفاقها.

"ملك الكلمات" يندرج في إطار عدد من المجاميع الشعرية التي صدرت للشاعر بيكه س باللغة العربية، لدرجة أصبح معها لاسمه المعقد وقعاً مألوفاً على أسماع القارئ والناقد العربيين، وهذه الألفة والشهرة الواسعة لم ينلها بيكه س إلا لكونه يعتني بقصيدته أيما اعتناء. يشذبها، يزينها، يرعاها، يحاورها، يحرسها بحذر ودراية، ويطلقها طيوراً جذلى تطير بفرح في سماء الشعر، وتعانق عيون القارئ ووجدانه أينما كان. لا نبالغ إذ نصنف بيكه س إلى جانب القامات الشعرية السامقة في ثقافات العالم من أمثال ناظم حكمت، رسول حمزاتوف، بابلو نيرودا، لوركا ومحمود درويش، وسواهم من الشعراء الذين سطروا ملاحم شعوبهم، وسجلوا بطولاتها وأحلامها وآمالها وآلامها، حتى تحولت دواوينهم الشعرية إلى أغنية تتردد على الشفاه، والى ذاكرة نابضة بالحياة، والى وثيقة صادقة لأمم تتطلع إلى الحرية والعدالة، موقنين "أن الشعر قادر على إنقاذ العالم"، كما يعبر الشاعر الانكليزي شيموس هيني الفائز بجائزة نوبل الآداب العام 1995م.

اختار المترجم برواري قصائد هذا الديوان من مجموعتين شعريتين صدرتا للشاعر في فترتين مختلفتين: أولاهما ديوان (كازيوه ـ الشفق) الصادر في نهاية السبعينيات، وثانيهما ديوان ( نسي ـ المفيأة) الصادر في نهاية التسعينيات، ولعل هذا الاختيار جاء بغرض إلقاء الضوء على التطور الذي أصاب جملة شيركو الشعرية، والتحولات التي طرأت في مسار هذه التجربة الشعرية الغنية، وقد حرص المترجم برواري على أن يقدم ترجمة تكاد تختلف عن غالبية الترجمات التي تصدت لشعر بيكه س، والتي لم تنل رضا الشاعر يوما. نحن هنا إزاء قصائد مترجمة إلى لغة عربية صافية، رصينة وسلسة، فقد لجأ المترجم إلى اختيار أكثر المفردات يسرا. لكنه، رغم ذلك، لم يشأ أن يتعامل مع لغة بيكه س بتساهل، بل يتضح بأنه قد غرق في القواميس اللغوية والمصادر والمراجع حتى عثر على المفردة الملائمة، المعبرة عن الظلال الغافية بين سطور الشاعر وحروفه المتوهجة. ولئن بدت هذه المفردة الملائمة عصية على الكشف ومعقدة، فان المترجم سرعان ما يحيل القارئ إلى الهوامش التي تبين بوضوح معاني الكلمات المستمدة من البيئة المحلية الكوردية، وتشرح معاني بعض الجمل الغامضة، وتقدم تعريفا مقتضبا لأسماء الأمكنة والجبال والسهول والأنهار الواردة في القصائد، والتي قد تستعصي أسماؤها على القارئ العربي، كما لا يتأخر المترجم في فك رموز بعض الأساطير والقصص الخرافية الشائعة في الثقافة الشعبية الكوردية، والتي يجهلها القارئ الغريب عن الواقع الثقافي والاجتماعي الكوردي.

الديوان يحوي ثمانٍ وستين قصيدة، وحتى هذا الرقم لم يأتِ اعتباطا بل تعمد المترجم ذلك ليهدي الديوان إلى بيكه س في عيد ميلاده الثامن والستين، كل سنة من عمر شاعرنا العظيم تقابلها قصيدة، وهل ثمة أجمل من القصائد تُهدى إلى شاعر؟!! خصوصا إذا كانت هذه القصائد في مستوى القصيدة التي يكتبها بيكه س، والتي تتنوع مواضيعها وأغراضها، وتتكثف أجواؤها ومناخاتها، فأحيانا يلوذ الشاعر بالطبيعة ويرتمي في أحضانها، وكأنه يطمح إلى الذوبان مع حفيف الشجر، وخرير الماء، وبياض الثلج، وفي أحيان أخرى يلتفت إلى همومه الذاتية، إذ يدون أحزانه وحنينه وأشواقه، أو يبوح بصوت شجي ليعلن عن هيامه بامرأة فاتنة؛ حسناء تجلس، بحياء، قرب بيت قصيدته، وفي أحيان أخرى يمضي بيكه س نحو آفاق أكثر رحابة، إذ يعانق الثقافة الإنسانية، ويقتفي أصداء الأصوات العذبة التي سطرت أجمل القصائد. ورغم انهماك بيكه س بهمومه الفردية، وانشغاله بترتيب أوجاعه، وآماله المؤجلة، إلا أن صورة بلاده كوردستان لا تفارق يومياته، فهي لا تني تطل برأسها، وتستقر في متن القصيدة، بجبالها، وأنهارها، ووهادها، وآهاتها، ودموعها، وتاريخها، وثوراتها...، فتأتي القصيدة، عندئذ، شامخة كشموخ جبال كوردستان، ومن هذا النوع الأخير نختار قصيدة بعنوان "التقمص":

لو متَّ يوما، وكان عاصفاً/ قد تتقمَّص روحُك جَسَدَ نمرٍ/

لو متَّ يوما، وكان ماطرا/ قد تتقمص روحك جسد بركة/

لو مت يوما، وكان مشمسا/ قد تتقمص روحك جسد شعاع/

لو مت يوما، وكان مثلجا/ قد تتقمص روحك جسد حجل/

لو مت يوما، وكان مضببا/ قد تتقمص روحك جسد وادٍ/

لكن، كما ترون الآن،/ أنا حيٌّ/ واقرأ لكم الشعر/

لكن روحي، ومنذ أمد بعيد/ قد تقمصت جسد كوردستان/ وتلبسته!!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com