دراسات نقدية

المسرحية

 

تقي الوزان

 كنت انقل له الاحساس بالألم الذي يشعر به الفرد عندما يجبر على السير فوق الرمل الخشن بعد ان تورمت وتخدرت قدماه , واخذت تنزف نتيجة الضرب بالكيبلات والذي يسموه الفلقة . كانت الضربات تتوالى من الاثنين بعد ان عجز الاول , ومع كل ضربة تشعر ان جرحاً ينفتح , كان الألم لايطاق , والاعصاب تنكمش الى الداخل , الى القلب , والصراخ لايخفف الألم , والجسم يكاد ان يجف لكثرة ماينزف من العرق , على حافة الغيبوبة وتشعر ان الألم بدء يخف . لحظات .. ولم تعد تشعر بالألم بقدر ثقل ارتطام الكيبل , لم يعد للضرب فائدة , لقد تليف الاحساس بالكامل .  فكوا وثاق القدمين واجبروك على السير فوق بلاطات فرشت بالرمل الخشن , الرمل ينغرز عميقاً في الجرح , النار تشتعل بآلاف الخلايا في القدمين , القتلة وضعوا ملحاً مع الرمل,  الحافات الحادة لذرات الرمل تشقق الشرايين وتصعد مع الدم , تشابكت سكاكين الرمل بوهج النيران , والألم يفتك بما تبقى من الوجود . لااعرف كيف يتحمل الجسد كل هذا ؟! اخذ نفسي يصعد ويهبط , وقطرات العرق تنز من جسدي , وانا اكرر له المشهد .

 قبل يومين حدثته عن ما تتركه ضربات الكهرباء من آلام , خاصة للذين عندهم جسور حديد بين اسنانهم , ولكني سرعان ما تقيأت عند استرجاعي دقائق الاحساس المرافق للعملية .  كانت رغبتي من التوسع في وصف عدة عمليات تعذيب هو ان يتمكن من بناء درجات الاحساس لتجربة الفلقة بشكل صحيح . طلبت منه ان يتدرب اكثر من الآخرين , كانت المسرحية تتكون من تسعة مشاهد , ودوره معارض لنظام صدام ويقع في قبضة الأمن , ويخضع لعمليات تعذيب كثيرة , من الضروري استعراض واحدة منها – رغم بشاعتها -   لايصال فكرة العرض . المسرحية صامتة , والاعتماد فقط على حركة جسم الممثل دون الوسائل المسرحية الأخرى , والأستفادة من تعابير الوجه ايضاً لأننا نقدم العرض وسط الجمهور . تحدثت معه عن فن النحت , وكيف ان اهم ماموجود في اي نصب هي الحركة التعبيرية مهما تكن الابعاد والقياسات منتظمة , وهي التي تمنح الحجر والبرونز والخشب سر خلودها . كان رزاق وهذا اسمه يحاول ان يفهم , ولكنه لايستوعب , او يجده صعب التطبيق .

 في اجواء قيام الجبهة الوطنية في بداية سبعينات القرن الماضي كنا طلبة في اكاديمية الفنون الجميلة , وصديقي الشاعر ستار دلي من اهالي سوق الشيوخ يمتلك صوت غنائي نادر , كان الفضل يعود لعذوبة صوته  وموهبته لتحميل اكثف المشاعر في غنائه , والذي يتمكن من اداء الوانه الريفية بشكل محترف , في ان تكتفي الاكاديمية – وهي للفنون – بالأقتصار عليه في احياء كل حفلاتها طيلة سنوات وجوده فيها . والجمهور الذي يحضر لسماع ستار يأتي من باقي كليات جامعة بغداد , وهو اكثر بكثير من الجمهور الذي يهمه احياء الحفلة فقط , وهم من الاتحاد الوطني . الا ان هذا لم يشفع له , ومنع من دخول الاذاعة والتلفزيون , وحرم من اخذ فرصته الحقيقية لكونه شيوعي . ستار كان شاعر شعبي ايضاً , كتب قصيدة في وقتها كانت تناجي احاسيسنا , ولها شأن فيما بيننا , من بين مقاطعها :

كل جمعة ادكَ حنه

ورد النوب ادكَ حنه

واعجنه بدمعتي التسرح على خدي اعجننه

وحني طرامك الجابك , وكت ونه باثر ونه

خلص صبري , الوعد يجزي , النفس يكَصر اعرفنه

بشوكَ اللي احبنه

رغد نايم , ولامهتم , ولاجنه

عوافي للي يتهنه

نشرت القصيدة كاملة في مجلة الانصار الشيوعيين بأسم مستعار , وقد ظن رزاق اني شاعرها , فأخذ يمتدحها, ودونها المعلقات الجاهلية . اكدت له بأنها لصديق اخاف عليه من نشر اسمه .

 كنا نتهيأ للأحتفال بعيد ميلاد الحزب عام 1984 , والمسرحية الفقرة الأكثر اهمية في الأحتفال . المسرحية صامتة وبدون ديكور وملابس واكسسوارات وموسيقى تصويرية ومؤثرات صوتية وانارة , وبدون خشبة مسرح ايضاً , وليس فيها اي ممثل , مجموعة من البيشمركَة الشيوعيين ذخيرتهم حبهم للأدب والفن والحياة .

 كان احد مشاهد المسرحية يوضح ان احد اسباب صمود الشيوعيين عام 1978 امام جلاديهم في دوائر امن النظام الصدامي والتي فاقت كل تصور في دمويتها , يعود الى مجموعة ظروف وامكانات شخصية لاعلاقة لها بالظروف العامة للحزب وغدر البعث بالأتفاتق . وتتجلى في غيبوبة المناضل بعد جولة عنيفة من التعذيب , وتحت ظل الغيبوبة , واشبه بالحلم الباهت يزوره طيف ابنه يسار , ولماذا سماه يسار ؟! وطيف عشرات العوائل التي يمكن ان يدفع بها الى الجحيم . الممثل يحتاج الى مرونة جسدية عالية , وبناء حركي مركب للمشهد حتى يتمكن من تجسيد انتفاضة الجسد عند رؤية طيف ابنه , والرفض القاطع الذي يرافق الانتفاضة يتمثل بالانفتاح الصلب للجسد على اوسع مدياته ليوحي بتسيد الارادة , وان امكن – وحسب مواصفات جسم الممثل – يمكن ان يشكل مع حركة انتفاضة الجسد زوايا حادة وصلبة , ويتبعها انتفاضات تخف حدتها عند رؤية اطياف رفاقه وعوائلهم , وتتحول بالتدريج الى تموجات انسيابية توحي بالامان . ما الذي يجعلك تشعر بالالم وانت تشاهد شخص شعر انه فقد عزيزاً , وهو صورة مرسومة في لوحة , هذا ما يجب ان نكون عليه في هذا العمل .

كنت حذراً بالتمرين مع رزاق , واختار المفردات بدقة , وابتعد عن استخدام المصطلحات الفنية كي لااربك استيعابه , وحاولت بعشرات الامثلة ان نتوصل معاً الى فهم مشترك . كان يتهرب من النقاش في كثير من الاحيان , ويوحي بانه افهم واكثر ادراكاً من الآخرين , وبدل المواظبة على التمرين والاصرار على ايجاد وسائل اكثر سهولة واكثر تعبيرية لاغناء المشهد وتوضيح ابعاده , يحاول ان يجد تفسيراً يتناسب مع عدم تمكنه الذي بدى واضحاً للآخرين . كان يحاول ان يغريني بأن الصمود في الامن وعدم افشاء الاسرار هو بطولة من نوع خاص لها علاقة بالنضوج الفكري والروابط القوية بالحزب , وليس حالة انسانية تضافرت فيها مجموعة عوامل ولاتستحق ان توصف بالتفرد , وكثيرين عايشوها , ولايوجد انسان حقيقي واحد دخل الامن ولم يخفي شئ عنهم .  

قبل يومين من الاحتفال عرضنا المسرحية على مجموعة من الرفاق والانصار . كان العرض لابأس به , ويمكن ان يكون افضل في الاحتفال لتحشد الجمهور وارتفاع حرارة مشاعر الاحتفاء بالمناسبة . كان من بين الممثلين الشاعر الكردي الشاب هندرين , وقد ادى الدور بتلقائية تلفت النظر , ويبدو ان بحثه في تطوير امكانياته الجمالية في الشعر منحه الرهافة الكفيلة للاحساس بدقة المشاعر التي عكسها في دوره , وكان يمثل احد الظلال القوية التي تركها الحزب وسط الجماهير , ويمكن ان يكون ركيزة حزبية لو جرى الاتصال به . ولفت الانتباه بيشمركَه آخر رغم صغر سنه هو علي ابن مام صالح , ولااعرف من بين الذين عشقوا التمثيل كان فرحاً وسعيدا عند حضوره التمرين مثل علي , كان حضوره مثل الاسفنجة التي تمتص التوترات والاجهاد الذي يرافق التمارين التي لم يتعودوا عليها , وفي اليوم الذي لم يحضر فيه شرطي الامن ( دوره) الى التمرين يظهر التعب واضحا على الباقين . كنت افكر برزاق ودوره الاهم في المسرحية , كان ادائه باهتاً , ويتلاشى تأثيره امام تلقائية هندرين , اوالحضور الطاغي لبايزوهو احد المخبرين , وبايز رفيق امي استشهد في احدى المعارك مع السلطة قبل الانفال . او مع الرفيق محسن عرب الذي مثل دور ضابط الامن . والمشكلة عدم سماح الوقت لاختيار شخص آخر لهذا الدور , ولابد من اضافة شئ – حتى وان كان من خارج العمل– على اداء رزاق ليكون اكثر ثباتا في ذهن الجمهور .

محسن عرب شيوعي من بغداد , وترك زوجة وطفلين ووظيفة محترمة , وعند اشتداد الهجمة على الشيوعيين عام 1979 التحق الى الانصار مباشرة , وطيلة فترة وجوده يعمل في قاطع السليمانية , وجه معروف لكل انصار الحزب في القاطع لقدمه ولتنقله بين اغلب افواج وسرايا الانصار وفصائله . كان دائم الابتسام وراضي عن كل شئ , مقاتل جرئ وحريص على كل شئ , وعندما يكون اداري لاحد الفصائل او السرايا يوفر دائما من المخصصات ويعيدها الى الحزب رغم كونها شحيحة , او عندما يكون مستشار سياسي يحاول ان يعرف عن النصير حتى اموره الشخصية ان امكن , كان حريصا على ان ينقل للحزب حتى التذمرات الصغيرة التي تصدر من بعض الرفاق ويعتبرها جزء من نقاوة الرفيق وامانته . محسن عرب يؤدي دور ضابط التحقيق بكفاءة عالية , ولديه قدرة في التصور ليروي قصة قصيرة في الحركات , وكثيراً ما انبهه لالغاء بعض حركاته او تشذيب بعضها لانها تفهم كأشارات خرسان اكثر مما هو تمثيل صامت . تحدثت معه حول ضرورة تقوية دور المناضل وجعله اكثر صلابة وتحدي بوجه جلادي البعث ومرتزقة صدام , ومحسن في تكوينه يوافق على كل شئ يعتقده يصب في مصلحة الحزب . ارتاح لاقتراحي , وعلى ان يكون رد فعل المناضل قويا عندما يطلب منه ضابط التحقيق التعاون مع جهاز الامن , كنهاية تؤكد اصرار الشيوعيين على رفضهم القاطع لنهج البعث رغم دموية التعذيب .

 كرجال وادي حجري يبدء عند نهاية مصيف وشلال احمد آوه الشهير , وبعد مائتي متر ينحرف الى اليسار حيث تقع مقرات الحزب الديمقراطي الكردستاني الى يمينه , ومقر قاطع السليمانية والفوج السابع للحزب الشيوعي الى يساره , وبعد المقرات بنصف كيلومتر يبدء الوادي بالصعود وتبدء الحشائش والاشجار تنتشر على مساحات واسعة من التربة مودعة قساوة الصخور , وفي هذا الحد الفاصل اختار الرفاق ان يكون موقع الاحتفال. كان قطعا في الجبل نصف دائري ويرتفع لاكثر من عشرين متراً , واشبه ما يكون بمسرح اغريقي يحتاج الى تنظيم مدرجاته . وهو موقع عاصي على السلطة , وقد امن الرفاق المنطقة من غارات الطيران في حالة معرفة السلطة بالاحتفال , وذلك بنشر مقاومة الطائرات حول محيط الوادي .  

31 آذاركان يوماً ربيعيا بحق , التحم فيه احتفال الطبيعة وهلاهل شمسها بدبكات وافراح الشيوعيين بعيد تأسيس حزبهم , ومعهم بيشمركَة الحزب الديمقراطي الكردستاني وباقي اصدقائهم في المنطقة . كان تدفق الحياة ومهرجان الالوان والزهور لايترك الاندهاش يفلت دقيقة واحدة , كان الفرح يتدفق موجات من اعمق ينابيع النفوس , وتلتحم الاحاسيس , فتجري نهراً يغذي كل المحرومين ومن فرض عليهم ان يقارعوا الخوف والالم , ويحولوه الى طريق يفيض بالامل . كان الغذاء الاحتفالي يورق انفعالات تشي بأشواق الحنين للقاء الاحبة بعد طول غياب , كان اللحم المدخن المطبوخ بأمهر الايادي يتقلب عارياً فوق تلال الرز , وتحف به وسائد الكشمش واللوز , وتحته شراشف البهارات والفلفل الاسود , كم مضى ونحن نتحرق شوقاً لهذا اللقاء . وبعد هذا الغذاء الملوكي بساعتين , اي في تمام الثانية بعد الظهر بدءت فقرات الاحتفال : دقيقة صمت على ارواح شهداء حزبنا وشهداء الحركة الوطنية , تلتها كلمات الحزب والضيوف , وبدء البرنامج الترفيهي بمجموعة من الاغاني والدبكات وعرضت المسرحية كمسك ختام للحفل .

 كان العرض مدهشاً لاغلب الموجودين , وبعض البيشمركَة والقرويين يشاهدون مسرحية لاول مرّة , والذي زاد في استمتاعهم كون المسرحية صامتة ويستقبلون اشاراتها ومضامينها بسهولة , والشئ الذي كان يشغلني ويشغل باقي الممثلين هو كيف سيكون تأثيرها على الرفاق بالذات . وعندما وصل العرض وسط سكون الجمهور وانشدادهم الى المشهد الاخير , وبدل ان يخضع المناضل الى جولة جديدة من التعذيب بعد ان يرفض التعاون مع الامن , يقف ويبصق بوجه ضابط التحقيق الذي تفاجئ برد الفعل هذا .. تفجرت موجة التصفيق من الرفاق , وتبعها كل الموجودين , ورجع الوادي صوت التصفيق وكلمة اعد اعد . ظن رزاق ان هذا التصفيق نتيجة ابداعه في التمثيل , ومحسن عرب يضحك ويحيي الجمهور ويدرك انه سبب الحماس الذي ركب الجمهور , كان سعيداً عندما ادخل الفرح والامل لقلوب الآخرين . ولكنه في اليوم الثاني رفض اعادة العرض .

 محسن عرب استشهد بعد الاحتفال بفترة قصيرة . كان قد ذهب مع مفرزة مكلفة بايصاله الى منطقة آمنة على الطريق النازل من السليمانية الى دربندخان ليذهب من هناك الى بغداد لانجاز مهمة مكلف بها . وقبل ان يوصلوه كانت لدى المفرزة عملية عسكرية في حلبجة , واراد آمر المفرزة ان يتركه مع احدى عوائلنا في قرية آمنة لغاية عودة المفرزة بعدما يقارب عشر ساعات . الا انه رفض واصر على الذهاب والمشاركة في العملية, ورغم تكليفه بالبقاء مع مجموعة تغطية الانسحاب الا ان كثافة النيران واشتداد حدة المعركة ادت الى استشهاده وجرح آخر . 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com