دراسات نقدية

 

من يملك الرياح .. الشاعر أم العاصفة .. اطلالة على نص "اسباب موجبة"  ..

 للشاعر العراقي: حسين حسن

           

فائز حداد

هل هناك أسباب موجبة حقا تدعو الشاعر حسين حسن لكي يبوح في نصه عما طواه من الزمن ويقسمه إلى نصفين القى حمله على نهار مبهم سبقه باسم إشارة لكي يظل عائما وأصبحت ضالته الباقية في جهنم تعج بالمواجع.

وهذه السوداوية ماتحمله إلى مجهول يخافه ولا يعلن عنه إلا بدالات تتقاطع مع الفرح بمسافات بعيدة تعيده إلى بعض ذكرياته التي أصبحت توخزه بمديات ابريه . بل وتذبحه وتقطع أوصاله إلى نصفين وما تبقى له نصف قاتم ينعي نفسه به كنذير لمفاجأة يجهل كنهها ويخشى ماسآتها كالتي ودعها في نصفه الأول .. والذي يقتله الندم عليها بعد أن غادرهه دون وعي ولم يشعر بمأساة ما نأى عنه إلا بعد فوات الأوان .

إن استعارة النهار كنقيض للعتمة يجسد اشراقة الحياة ويعبر عنها بما لها من أبعاد لكل الكائنات الحية يكون الفرح احد علائمها .. الحياة المقرونة بالولادة الطبيعية والتي من المفروض ان تنطوي على استقرار مشفوع بالسعادة. وبالنسبة لشاعرنا ختم نصف حياته بظلمة فرضت عليه وهو يعي تماما أسبابها ..!!

فهل كانت بسببه أو بسبب ظروف قاسية أوصلته إلى هذا الظلام ؟ والنصف الثاني على مايبدو هو من حكم عليه بالموت لأنه يعلن استعداده في التعري أمامه ويريد أن يلفت انتباهه إلى فاجعته القادمة..

"أسباب كثيرة تدعوني إلى قطع هذا النهار نصفين

أودع ضحكي من نفسي في نصف

وادخل النصف الأخر إلى جهنم تعج بالمواجع

اشنق ساعاته واحدة بعد الأخرى

ارقبها وهي ترفس لافظة أنفاسها

منتشية بهذا الموت ..

أتسلم كل بنات الساعات

الدقائق والثواني وأبدا في خنقها

فتمدد الجثث إمامي ، براقة وشهية

وأنيقة الشحوب ، في درب تعاستي

نهاري المقطوع إلى نصفين ،نهاري الفاجع

أتعرى أمامه ... والفت نظره إلى فاجعتي الجديدة " .

وإذا مادققنا في هكذا طرح .. نجد إن الشاعر يهيئ المقصلة ويعد أدوات الإعدام لنصفه الباقي ، ولنا ان نرى كم هي حالة الثار متقدة في دمه وكم هو اليأس جامح في روحه لأنه يريد أن يرى ساعاته المتبقية تلفظ أنفاسها لينتشي بهذا المنظر المروع .. وإزاء ذلك يضعنا الشاعر أمام لغز متعمد أراد له أن يعنيه بهذا الموت .. "بنات الساعات" والتي عبر عنهن بالساعات والثواني..؟ لكي يبدأ بخنقها ، وعلى هذا الاساس أقول .. إن هناك بناتا يتمنى أن يشنقهن بيده ، فمتى كان الشحوب أنيقا يا حسين حسن حتى تراه في درب تعاستك بهذه الأناقة ؟!.

إن الضباب الذي يحجب الرؤيا في بصيرة الشاعر نتيجة معاناته القاسية جعلت نصه ينحى هذا المنحى المحزن والأليم ، انه ودون إن يذكرالسبب يعلن البكاء كحالة مستديمة ترافقه ولا تغادره بل وتؤرقه في منامه وتحكم أنفاسه بزفير متقد وتشاركه الوسادة بكوابيس مرهقة لأنه قد ودع الضحك تماما وهجر مظاهر الفرح ، فحياته ملغومة بالليل وما أن استفحل في روحه وتفرد به حتى قضى على ضحكته إلى الأبد .

إما الأسباب الأخرى عنده فتدعوه هذه المرة إلى أن "يستنفر" جنوده نفيرا عاما ليدخلوا حربا حقيقية طاحنة وقد عبر عنها " في معارك وهمية " ولكن حربه المعلنه هذه غير متكافئة مع إمكانيات خصمه في النزال والمواجهة ، لان الخصم أقوى ويمتلك من تقنيات القتال ما ليس لجنوده ، وهو العارف أصلا بأنه "سيخسرها كلها" . ولكن لم كل هذا العناد في هذه المغامرة ..؟

فيجيب لأنني احمل الألم منذ شرخ الشباب .. ولان مسببات هذا الألم الخفية قد نالت مني كثيرا ، لذا فهو على ثقة بشكل قاطع إن " جنود الألم" سيأتونه محملين بالجراح لا لكي يستقبلهم وينالوا الشفاء على يده بل لينال منهم بعصا غليظة وربما أرادها كسوط يلهب ظهورهم لنقمة يحملها عليهم تعبيرا عن حالة الألم وانعكاسا لها ..فهي النتيجة الباهظة التي تفصح عن خسارته الجسيمة على طول عمره المليء بالأشواك وكذلك أراد لجراحهم أن تكون منفتحة للمزيد من الجراح لتهدر دون انقطاع ماله من رعاف ونزيف .

إن الثار الذي ينشده ويضطلع بمهمته على أكمل وجه يقود الشاعر إلى إعلان انتصاره المريب.. ولكي يعلم الجميع في ذلك يستدعي مراسلي الصحف ويملي عليهم أخبار ما جرى لتأخذ طريقها إلى النشر لكي يصل الخبر إلى كل حدب وصوب .. فهل اعد لذلك خبرا مكتوبا بلغة النعي أو الرثاء.. أو أنه سينشره بالصراخ.

فأي صوت هذا الذي سيطلقه في "صحيفة الصراخ"..؟.

" أسباب كثيرة تدعوني أن اصف جنود الألم أمامي

ادخلهم في معارك وهمية ..يخسرونها كلها

لتأتيني جراحهم ، راعفة ، منفتحة

استعمل عصاي في تأديبهم

وأوزع على الباعة آخر طبعة من صحيفة الصراخ"

وبعد أن نودع تلك المعارك الخاسرة ينتقل حسين حسن بنا من أسبابه الخاصة إلى الأسباب العامة التي تجرجره وهو في حالة وعي تام للنزول إلى واقع الحياة المليء بشواهد الحرمان والمحفوف بظلام المجهول وقد عبر عنه ب"البئر الناضب" الذي لاحياة فيها ولا له من وظيفة تذكر .. فهو بائس ومقفر.. ضالته "أطفال منهارون " ومشردون في يباب الحياة وليس لهم من مأوى غير الخرائب والأطلال . وبعد أن يعثر عليهم في ذلك "البئر الناضب" تشتبك ماساته بمآسيهم تتجادل وتتجاذب وتتزاوج لأنه جزء منهم ولا من رائحة تشده إليهم إلا ورائحة الليل بحلكتها القاتلة حين يرى المتسكعين والأيتام يتقاسمون الطرقات والأرصفة ومن خلالهم يرى العديد من النجوم الميتة التي ودعت بريقها في الدجنة وسقطت بعد أن كانت حافلة بالضوء والشهرة ..فقد استنزفته الأعوام والدهور وطواها الأفول ولم يعد لها شيء غير ذكرى تذبح الشاعر حين يستذكرها ويمر عليها ..

"أسباب كثيرة تدعوني إلى النزول في البئر الناضب
لأفتش عن أطفال منهارين .. يبحثون عن مأوى
اقرب انفي لأشم رائحة ليل مليء بنجوم ميتة "
الذي يؤخذ عن شاعرنا هو وغوله في تصوير مشاهد معاناته دون اكتراث بالمخاطر التي قد تلحق به من جراء هذا الكشف الصريح والملغوم أيضا . وانه وان حاول إخفاء أجزاء منها لكنها بائنة تماما على الرغم من الضباب الذي يلقيه في العيون لتبدو بعض المشاهد بعيدة ويلفها الإبهام ..لكنها في حقيقة الأمر قريبة وتبوح عن نفسها في زفراته المحترقة التي تخرج من رئتيه المحترقتين ، فتارة يصور قتلاه ب "الدقائق والثواني" وتارة ب "جنود الألم" وأخرى ب "نجوم ميتة في بئر ناضب".
وهذه المرة له دعوة أخرى تنطوي على "الكرم" في الموت ليس بمنطق القتال أو الانتحار لكنها دعوة تحمل التهام "وليمة" ولأسباب كثيرة أيضا فهو موغل في القتل إذن ..لهذا " اعد وليمة من المشانق " ليس لخصمه وإنما لكل " من تطاول على "ساعات ميتة " وهذه الساعات أجدها نفس الساعات في المفصل الأول .
ولأنه قتلها ويدعو إلى المشنقة "من تطاول عليها ".. سيكون المنفى داره الأخيرة وقد اعد "فؤوس العزلة " ليجهز على ماتبقى من نهاره .. فلم يكتفي بقطعه إلى نصفين ، بل يرغب بتمزيقه وأحالته إلى شظايا متناثرة ليتشظى فيها ويرى بعينه لا "بمرآته " هذا المنظر القاتل بدون واعز ألم ولأنه كان "منتشيا بهذا الموت" .. يريد أن يحصي جراحه بهالة الاسئلة ..

"_أي الجروح لازال يضحك .
_أي الجروح عصي الشكوى .
_أي الجروح يحاول الخروج من دربي ."
واستطيع أن اخبر صديقي حسين حسن إن الأول هو للساعات والثاني لك والثالث للذي تمرد عليك وشق عصا الطاعة دونما حيلة لك إزاءه .

"أسباب كثيرو تدعوني لان اعد وليمة من المشانق

وأدعو إليها كل من تطاول على ساعات ميتة

لأحضر فؤوس العزلة

واكسر نهاري هذا إلى شظايا

تصيبني فأتملى بمرآتي ".

وبعد كل هذا البوح لم تعد أمام الشاعر أسباب لتبرير مايريد حيث تلاشت وغارت في قاع البحر وليس أمامه إلا أن يخبرنا عن ماهيتها والدوافع التي دعته إلى كل هذا في الجراح والمشانق والموت وان تعذر وانزوى.

ففي المفصل الأخير من جسد القصيدة اعتراف واضح ودون فذلكة أو استعارة أو ترميز ..لان أيامه الخوالي كانت مالحة وإزاء طعم الملح يضعنا حيال تفسيرين :الأول إن أيامه كانت ذات قيمة كبيرة لولاها لما كان لآي شيء طعم ..فهو ندم على ماضيها والتفريط بها ، والثاني هي ماعكرت نقاء الماء وعذوبته.. وفي ظل هذا يتنكر لها ويهجوها . تلك الأيام التي شربها "حتى آخر قطرة " قد غادرته حين غادرت قطار أيامه دون أن يدرك بأنه قد ظل وحيدا في منتصف الرحلة ودونما احد له .

الآن قد أدركنا على ما اعتقد كم كان ل "الملح" قيمة كبيرة في تلك الأيام ، ولعمري انه يتوق إلى محكمة شبه حقيقية الحكم فيها لايقل عن فيصل الموت .. ولا أغالي إن قلت إن محكمته لو أحيلت إلى فعل مسرحي لانتظمت بخمسة مشاهد ..البطل فيها حسين حسن ، فهو القاضي وهو المتهم وسينتهي بما انتهى إليه في صورتين "القصيدة والمسرحية " معا.. وهذا ما يؤشر خوفه المطبق من أيامه القادمة مهما يطرأ عليها من طوارئ الجمال ومهما تحمل من سحنات التحسين ، لان اعتراف الشاعر واضح للعيان بشكل قاطع ..يلخصه هذا المقطع .

"لا أسباب لأذكرها

افرغت أيامي بماء مالح

وشربتها حتى آخر قطرة

دون أن أدرك إنها أيامي

إلا بعد أن غابت وذابت في الماء

وألان أنا بلا أيام

فكيف سيأتي الغد.. ؟".

إن حسين حسن رغم حجم الحزن الذي الم به ورغم عظم الأسى الذي تضوع به قصيدته ، فان هذه القصيدة تلخيص مثير لتجربة خاصة لا يمكن لها أن تكون إلا بهذه الهيئة من التأسي وبهذا التشكيل الشعري ودون إسهاب أو إطناب . فهي غنية بمعانيها الذاتية والموضوعية ولها من الشجن بحزنه وطربه الكثير ولها من القدرة على تقليب مواجع القارئ لكي يستمر بقراءتها حتى آخر سطر وهذه أمنية كل شاعر حين يطرح نصه على صعيد النشر .وإلا ما قيمة أن يكتب الشاعر ..؟

إن الأسباب الموجبة التي فصلها الشاعر إلى أسباب كثيرة حملت أربعة أصوات في بوح ساخن اراد أن يوحي لنا أنها من الكثرة مالا يستطيع المرء احصاءها ولأمور عسيرة لامجال لذكرها .. لكني أرى سببا كبيرا كان المصدر لكل هذه الحرائق التي أشعلها وهي حتما تماثل حياة من يقدح الزناد فماذا ينتظر بعد السعير..؟.

وعلى أية حال فان " أسباب موجبة " قطعت نهار صديقي إلى نصفين أتمنى أن ينال النور نصفه الثاني خصوصا وانه من خاض تجربتها ولم يستطع الإمساك بعنان ريحها وتصويبها إلى جهته القادمة لكنه غادرها قبل هبوب العاصفة .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com