دراسات نقدية

أجواء منير مزيد العالمية في قصيدة (ليس سحراً بل سِرّا مِنْ أسرارِك)

 

محمود فهمي عامر/ الدوحة – قطر  

كما كان بوشكين شمسا وأبا روحيا وأميرا في الشعر الروسي، فكذلك أرى منير مزيد في الأدب الروماني، وما قلت ذلك إلا بعد تجربتي النقدية في أعمال الشاعر المبدع منير مزيد الذي حقق في هذه القصيدة (ليس سحراً بل سِرّا مِنْ أسرارِك) ما قلته سابقا للشاعر عن تجربته الفنية القريبة من تجربة بوشكين الشعرية، فكما سعى بوشكين خلال أعماله الأدبية إلى انتفاضة الشعب الروسي ضد فئاته الاقطاعية وأطماعه الخارجية وخنوعه الداخلي، ودفع الغالي والرخيص حتى فقد حياته في سبيل مطالبته بالديمقراطية والحرية والحد من سيادة النبلاء في ظل إيمانه العميق بدور الثقافة في التغيير، أرى منير مزيد في قصيدته هذه يطالب شعب مالدوفيا التحرر من الحكم الروسي، بل هو فيها وفي غيرها من أعماله الأدبية العالمية شاعر متمرد على السيادة الثقافة المزيفة أو التبعية التسجيلية الرسمية، وما جرته من ويلات سياسية واقتصادية ودينية، وهو شاعر مؤمن بمفعول الخرسانة الأدبية في تعمير النفس الإنسانية، وتعد قصيدته (ليس سحراً بل سِرّا مِنْ أسرارِك) في مفهومي النقدي لعالمية القصيدة بوشكينية الشكل والمضمون والعبق والروح. 

ليس سهلا أن يتمرد الشاعر على عصرة وبعض مثقفيه، لأنه بذلك ربما يخسر الكثير، أو ربما تزداد الروايات حوله، ويمسي وقد خرج عند بعضهم عن دائرة الإسلام والعروبة، ولكني أرى ولست مدافعا عن منير مزيد أن المبدع في أي مجال لا يحاسب إلا على فنه، ولا يجوز أن نقحم دينه أو حياته الشخصية في إبداعاته، ومن يتبع هذه الحلزونية المتشخصنة في التعامل مع الإبداع هو حاسد لا ننظر إليه، وقد واجه الكثير من الشعراء على مر العصور الأدبية هذه النوعية ممن يدعون الأدب من زاويتهم الصوفية فقط أو ممن عظمهم وكان في طائفتهم كنمر  زكريا تامر بعد خطاب المروض، والشاعر المعروف في الساحة الأدبية إذا تمرد على واقعه فهو صادق، وخصوصا إذا كان هذا التمرد أو الرفض يصب في صالح التنمية والنهضة ومواكبة العصر. 

ولا عاقل ينكر اللغة وضرورة تعلمها، ولكنني أرفض ذلك الإنسان الذي يعد نفسه شاعرا ليهاجم غيره فقط من باب خطأ لغوي ربما وقع فيه سهوا سيبويه نفسه الذي عانى من العربية وأهلها ومات في قضية من قضاياها، أو من باب انتمائه الديني أو الحزبي أو الشخصي، وهل يطلب من الشاعر في كل مراحله الفنية أن يكون إماما في النحو؟ فماذا صنع النقاد مع الأعشى وأبي ماضي؟ وهل تحققت نبوة الأديب طه حسين في الشاعر إبراهيم ناجي عندما وصف شعره: بأنه شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه؟   

ولست هنا من دعاة الركاكة اللغوية أو هجرها، وأنا من حزبها ولا أجد نفسي إلا خلالها، ولكن الإبداع في المقابل لا يتوقف عند جزء واحد فقط ولو كان مهما وخطيرا في بعض الأوقات.

وما قطعت حديثي عن منير مزيد وخضت فيما عقبت على المقدمة حتى لأقول لمن يخطر في باله أنني أبالغ في تشبيه الشاعر ببوشكين: إن منير مزيد الذي لا أعرفه، ولم ألتق به هو عندي بإنتاجه الأدبي فقط أعظم من بوشكين نفسه. 

ومن يقرأ الأدب العالمي يعرف أجواءه، ومنير مزيد يعيش تلك الأجواء، وما اخترت هذا التشبيه إلا لأضع القارئ في جوين شعريين متماثلين يعبران عن هذه العالمية التي لا يدركها من يتتبع أخطاء الشعراء.   

نعم هناك قصائد كثيرة لبوشكين، ولكن قصيدة (الأمسية الشتوية) هي النموذج القريب من قصيدة منيرمزيد (ليس سحراً بل سِرّا مِنْ أسرارِك)، ومن أمسية بوشكين نختار ثلاثة مقاطع حاورالشاعر فيها صديقته الطيبة العجوز(روسيا) حوارا ثقافيا حضاريا يستند إلى واقعها الخرب بفعل الزوبعة وأزلامها، وهو يرجو خلال هذا الحوار أن يؤدي دوره الفني في توجيه روسيا نحو وجودها المتعلق بما يدور حولها، وهي ما زالت في عتمتها صامتة كيئبة حتى غدت عجوزا بعد أن كانت سيدة الدنيا، هو يدعوها بأسلوبه الساخر إلى الثورة والتصعلك: 

إن كوخنا المتداعي

لكئيب ومعتم

ترى ما بك يا عجوزي

قد طال صمتك عند النافذة

أم أن عواء الزوبعة

قد بعث في نفسك السأم

أم هو أزيز مغزلك

 قد جلب إليك النعاس ؟ 

لنشرب يا صديقتي الطيبة

يا رفيقة شبابي البائس

لنبدد حزننا ... أين هو القدح ؟

سنفرح قلبينا قليلا

غني لي أغنية : كطائر سنّ المنجل

هادئا عاش عبر البحار

غني لي أغنية : كفتاة

مضت صباحا لتجلب الماء

الزوبعة بعتمتها تدثر السماء

مدوية أعاصيرها الثلجية

هي آنا تعوي كوحش

وآنا تنتحب متلوّعة كطفل

لنشرب يا صديقتي الطيبة

يا رفيقة شبابي البائس

لنبدد حزننا ... أين هو القدح ؟

سنفرح قلبينا قليلا  

في هذه الأجواء المتناقضة بالثنائية الحوارية بين: المنجل والحالمة، والزوبعة والصامتة، والأزيزية والناعسة، والكوميدية الساخرة والتراجيدية، والرومانسية الغنائية والواقعية، والتشاؤمية المؤقتة والتفائلية، والحديثة والتقليدية، والذاتية والجماعية، والثلجية والمائية نعيش أجواء منير مزيد بوشكين فلسطين في قصيدته (ليس سحراً بل سِرّا مِنْ أسرارِك)، التي نختار منها المقاطع الآتية:  

أيتها الروح العجوز

التائهة في زوبعة غبار قديم

عودي إلى معبد الحبِّ الصافي

توضئي بـ مسك الحزن

وعطر الشوق

وبشفتيك الممدودتين

قبّلْي دموع عاشق

عاش على انتظار انبعاثك...

حبيبتي

يأتيني الصمت مرتعشاً

عباءته الحريرية ضوءُ قمر أبيض

يفكر في ذاته

يذوب في متعة التأمل

و يصير إكليلا يُزيّنُ هامة الليل ...

أواه يا حبيبتي

كُلّ فصول الحبِّ تحتاج إليك

ليس سحراً بل سِرّا مِنْ أسرارِك

إذا تحولت الصحراء بقبلةِ مِنْ شفتيك

 إلى غابة  ...

مَنْ يَحبُّك .. يا حبيبتي

يستطيع أَنْ يَراك

حتى لو كنت في قلب الظلامِ ... 

بهذه الأجواء العالمية المشتركة وحدها نستطيع أن نحكم على الفن وصاحبه، وليست اللغة إلا وسيله من وسائل التعبير، وهي لا تؤدي دورها الصحيح إلا إذا كانت من النوعية العالمية المؤثرة في الآخرين بخصوصية مبدعها، فإن خانت صاحبها في بلاد العرب وعبرت عن خصيانهم وعلاقاتهم الزوجية وما في هذا القاموس من مسميات يتهافت عليها بعض المترجمين الذين يعتزون في بلاد العرب بلغتهم الرصينة المعجمية ، فالعربي يعرف وجها آخر للعرب، ولا تؤثر فيه كثيرا، أما الغربي فلا يحكم علينا إلا بها، ولهذا فنحن بحاجة إلى أجواء منير مزيد العالمية من ثلاث جهات: الأولى تتمثل في ترجمة المواد العربية ذات الأجواء العالمية المؤثرة في الآخرين، والمعبرة عن أصحابها وحدهم دون تأثير خارجي، وتؤدي في الوقت نفسه دورا في تغيير النظرة السلبية التي صنعها من أساء اختيار المادة الصالحة لاحترام الآخرين، والثانية: في ترجمة الأعمال الغربية العالمية التي تساهم في ذائقة عربية جديدة تتناسب وروح العصر، دون شروط تتعلق بدائرة الأحوال المدنية والجوازات، وما نريده هنا تلك الأعمال الخالدة فنيا، والثالثة: تختص بأجواء قصيدة الشاعر العربي منير مزيد العالمية ، تلك الأجواء التي فرضت نفسها على عالم لا يقدر غيرها، حتى أصبح منير مزيد بمشيئة الله صاحب شعبية أدبية عالمية إنسانية في زمن قياسي، وهذه الشعبية لم تأت إلا من صدق التجربة التي أنارت بقوة تيارها الكهربائي أماكن لم تصل إليها موسسات عظمى في بلادنا العربية . 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com