دراسات نقدية

الخطاب في لغة الدكتور صدام فهد الأسدي الشعرية

 

د. قصي الشيخ عسكر

مقدمة

لابد أن أشير في مقالتي هذه إلى العلاقة الأخوية والثقافية القديمة التي كانت بيني وبين الدكتور صدام فهد الأسدي وهي علاقة تمتد إلى زمن الدراسة المتوسطة قبل منتصف ستينيات القرن الماضي. يومها لم يكن الاسم يسبب أي إشكال إن صدام فهد ولد عام 1953 أي قبل معرفة الناس بحزب البعث وصدام حسين وقبل صعود ذلك الحزب إلى السلطة بسنوات طويلة ولابد لي من أن أذكر ذلك الآن لأن قضية الاسم تذكرني بحادثتين طريفتين : الأولى إنني تكلمت مع أحد المراكز الثقافية في أوروبا لكي يستدعوا صديقي أبا اعيان وهذه كنيته وهم أي أصحاب المركز الثقافي معجبون بشعره وأبحاثه لكنهم قالوا لي بصراحة إن الاسم يحرجهم، والحادثة الثانية يوم سألتني أكاديمية معروفة إن كنت أذكر أستاذا لكي يستدعوه فوقفت قضية الاسم أيضا حائلا في الموضوع![1][1]

كان ولابد لي من أن أشير إلى قضية التسمية في مقالي التالي لأنها ستشكل واحدا من أعمدة الخطابة في أسلوب الدكتور الأسدي هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نجد أن كثيرا من مثقفينا يأخذون من الأمور بظاهرها فيظلون يطفون على السطح من دون أن يحاولوا الغوص في الأعماق لكي ينعموا بالجواهر ويحصدوا اللؤلؤ!

المقال

الخطاب في اللغة العربية له عدة أوجه منها النداء والندبة والأمر والنهي وربما يمكن أن نعد الأسلوب الخبري نفسه نوعا من الخطاب إذا تحثنا بلغة الغائب ونحن نقصد الحاضر أو حضورا معينا وفق القول المأثور إياك أعني واسمعي ياجارة!

أولا النداء المباشر بأداة النداء يا:في الحديث عن النداء بالياء نتمثل العودة إلى الاسم إذ بعد زمن يُفاجأ الشاعر باسمه كيف يكون موقف الشاعر إذا اكتشف أن اسمه يتآمر عليه عندئذ تكون المصيبة أعظم لأن مثل هذه الحالة تكشف عن جهل المجتمع وانفعاليته في حين أن الله تعالى أول ما علم آدم علمه الأسماء. إن الشاعر لا يتحدث عن اسمه بقدر ما ينتقد جهل المجتمع :

أنت البائس يا حظي

من سماك بهذا الاسم

رويدا

كيف عبرت من السجل المدني عام الخمسين

إن الشاعر يخاطب حظه وحظه هو الزمن والمجتمع ثم يستخدم التصغير "رويدا" للتأمل حيث إن كلمة رويدا هي مصغر أرواد والإرواد هو الإمهال – المهلة = الوقت – التأمل . قال تعالى: فمهل الكافرين أمهلهم رويدا أي أمهلهم إمهالا بعد رويدا هنا نائبا عن المصدر وهذه التفاتة من الشاعر نحو المعنى القرآني الخاص بالتمعن والتأمل وإنعام النظر.

وحين يستخدم الشاعر الياء وحدها فإنه يخاطب نفسه بصفته ضحية من ضحايا الزمن وكأنه يخاطب الزمان بديلا عن نفسه هو:

يا غربة الروح بل يا غربة البدن كيف الخلاص لنا من محنة الزمن هذا المعنى التفتنا إليه لأن الشاعر كثيرا ما يوجه خطابه في نداءا ته إلى الزمن بعد الزمن جزءا منه او بعده هو جزءا من الزمن أو كونه ضحية له:

يا ليلتي لاتقصري وتطولي سيان عندي دمعتي ومثولي

ثانيا النداء بكلمة أي:

حين تجتمع أي مع الياء وهاء التنبيه يدل ذلك على أن المُرسل يحاول أن يلفت نظر المرسَل إليه أو المستقبـِل بقوه، وقد تُحذف يا الخطاء فيعتمد المتكلم على أي والتنبيه فقط من دون أن يؤثر ذلك في جوهر المسألة يقول الشاعر:

أيها الشيب المبكر

قف هنا عني قريبا

وتذكر

لقد حذف الشاعر ياء النداء التي هي للخطاب وعوض عنها بكلمة أخرى تدل على المكان وتشير إلى الخطاب أيضا والكلمة هي " هنا " هنا اسم مكان ظرف تدل على الخطاب والمكان القريب لتعادل الخطاب الذي حُذِفت منه الياء ولتوازن في الوقت نفسه الزمان أي الشيب.

وفي موضع آخر يجمع الشاعر بين الأدوات الثلاث الياء وأي وهاء التنبيه:

يا أيها العمر هل مسعى سيدركنا أصحوة لا نظن السيف يمتشق

وهو خطاب وجهه الشاعر إلى الزمن ليتحول بعدئذ من فكرة الزمن إلى فكرة المكان:

من أين تدخلنا الأفراح ضاحكة سيان في وطني القهر والقلق

ثالثا الجمع بين النداء والندبة

تتمثل الندبة في الواو والنداء بكلمة أي أو يا وحين تجتمع الواو مع الياء تتحول القصيدة إلى أجواء من الحزن فقد تحتل الياء وحدها دور الندبة كما في قول شوقي:

ياويحهم نصبوا منارا من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاءا

ولنا خير مثال للندبة في قول السياب

واحسرتاه متى أنام فأحس أن على الوسادة....

إذا كانت الندبة للميت والياء للحي فإن شاعرنا البصري يجمع بين الحي والميت في قوله التالي:

بلواك ياوطني الكبيرة حطمت حلم الشباب

واحسرتاه لم الكآبة قد بكت ...

ويتحول الشاعر بالخطاب إلى قريته فيقول :

ياقريتي التي بذرت بنا الحب الاساس

من اين أهرب والمينة سرجت أبوابها هل من سبيل؟

الشاعر ينتقل عبر الخطاب بالياء والواو من جزء هو الوطن إلى جزء أصغر هو القرية في محاولة منه للمزاوجة بين الحديث عن حي وميت كما لاحظنا في الأسطر السابقة.

رابعا الجمع بين النداء والأمر

نجده في هذه الحالة يجمع بين الياء وفعل الامر ثم يأتي بالمفردات الدالة على الإشارة والخطاب :

قل ياصديقي هكذا تحترق الأشياء

تنفس الصبح هنا وغادر الشعراء

قل : أمر خطابي

هكذا: الهاء لتنبيه السامع الكاف للخطاب وذا اسم اشارة

هنا: ظرف مكان قريب – إذ لم تكن مع الكاف لتدل على البعد- ذو علاقة بالمخاطب الصديق المعني بالقول والنداء.

ولنا مثال آخر في قوله التالي:

قف يانقي الحرف واحرق الجسد

وكن كشلال لها مامرة هجد

فالشاعر في النص اعلاه عزز خطابه في الجمع بين الامر والنداء وحصر النداء بين أأكثر من أمر هي قف واحرق وكن ليستوعب المنادي كونه جزءا من هذه الافعال وليست صادرة عنه.

خامسا الخطاب بالمصدر:

وهو أن يحذف الشاعر الفعل ويستعيض عنه بالمصدر وذلك لكون الاسم أقوى من الفعل وفق مقولة البصريين التي ترى أن الفعل صادر عن الاسم لذلك سمي المضارع مضارعا لمضارعته الاسم فهو يرفع بالواو والنون ويؤول بالمصدر حين نقول مثلا يوم ينشرون أي يوم نشرهم، فمن القاعدة اللغوية يستفيد شاعرنا في تقنية خطابه كما في قوله التالي:

رفقا بقلب يشب الثلج في ناري

وامسح بدمعي من الأحزان آثاري

فهاهو يفتتح بالمصدر لقوته ويعززه بأكثر من أمر هي امسح ودع وخذ

سادسا الطلب :

أ- أن يكون هناك فعلان أحدهما مجزوم لكونه نتيجة ولكون الأول علة:

دعني أخاطب سيف الشرفاء

ب- الأمر وحده

افتح قوسا واضرب... أغلق ذاك القوس سريعا

ج - النهي

لاتقصري وتطولي

سابعا الخطاب من ألأدنى إلى الأعلى

وهو مايعبر عنه القدامى بالدعاء أو الرجاء والمغفرة وطلب العفو وهو صادر من الإنسان المتوجه إلى الله كما في مناجاة أيوب العراقي:

خلقت لي فما

خلقت لي دما

خلقت لي الطعام في البحر

ثامنا الخطاب البلاغي

وفيه يلجأ الشاعر إلى أحد الاساليب البلاغية ليعبر عن خطابه مثل اسلوب الحصر وهو باب واسع يحدث لبسا في ذهن المتلقي أو المرسل إليه إن لم يستوعب تفاصيله فعندما نقول مامحمد إلا رسول فإننا ننفي عنه كونه كاتبا أو أية صفة أخرى ماعدا الرسالة وعندما نقول ماالرسول إلا محمد فإننا ننفي عن حسن وخالد وزيد وعمرو الرسالة ونخصها بمحمد فقط وعبر هذا الاسلوب البلاغي يوصل إلينا الشاعر فكرته وصورته حين يزاوج بين الحصر والخطاب:

إما تكون على الحقيقة أو لا

ما أنت إلا الطين يبحر فيك طين.

فأنه في المعنى السابق حصر بما كون المخاطب أي الإنسان طينا ثم استثنى المخاطب من الطين العادي الذي يبحر فيه لأن الذي يبحر في اعماقنا هو الروح التي تسمو على السفاسف والترهات وإلا لنزلت الروح منزلة الطين ويبقى المبحر فينا هو الطين الرديء .

تاسعا الخطاب بالحرف

وهو أن يلجأ الشاعر إلى الضمير كاف الخطاب ليجسد من خلالها نفسه:

حتى بكاؤك في المطر

حتى غناؤك يابس

عاشرا المزاوجة بين المخاطب والنفس

قد يستخدم الشاعر كاف المخاطبة ثم يلتفت إلى نفسه لنكتشف أنه المعني بخطابه كما في مقطوعته التالية:

اقطف من نخل الصبر بقايا الطين

وازرع في قلب النهر هموم الجزر

وغدا

اتحرز من سيف لايعرف معنى الدم

وأخاف إذا ....

مجرى الخطاب:

يمكنني القول من خلال متابعتي لقصائد الشاعر أنها تستوعب بعد الخطاب أساليب ترتبط بالخطاب نفسه لتعززه فيبني الشاعر وفق رؤى المخاطب صوره و هيكل قصيدته الذي يمكن أن نتمثله بالأمور التالية التي أشير إلى بعض منها وليس كلها لأترك للقاريء الكريم حرية الكشف عن الأخرى

أولا نهاية الخطاب بالتساؤل أو استخدام الاسلوب الاستفهامي:

الخطاب: خلقت لي فما ... خلقت ...

التساؤل:

فكيف ترضى اليوم في أمتنا

قد خمصت بطوننا وتشبع الحكاك؟

الخطاب ك قف يا نقي الحرف

التساؤل:

وقل لها إلى متى...

وقل لها إلى متى...

ثانيا استيعاب الاسقاط التاريخي بعد الخطاب:

النداء: ياحظي من سماك بهذا الاسم

لاحواء تموت بقلبي ولابلقيس تفجرها الأصنام

أول كما في قوله:

أولست تدري الآن بعد زوال أنكيدو والسنين

وهو يجمع فيه بين الخطاب والتساؤل والرمز التاريخي.

ثالثا: استيعاب التراث الفكري العربي:

بعد الخطاب يذكر:

وإذا المنية أنشبت أضفارها ألفيت ألف تميمة لاتنفع

رابعا الكلام المرسل

أي أن يخرج الشاعر من الخطاب إلى الاسلوب المرسل مستفيدا من تقنية القصة كما في الاسطر التالية :

وأخيرا أحببت الشعر وناسبت دروب الكلمات

وتركت المال لأني أكره ذبح الفكر وصيد البسمات

وأظل كما أعرف نفسي

أحيا بين الصدمات

خامسا استيعاب المعنى الديني

قد يلمح إلى معنى ديني معين في أثناء خطابه:

طعمهم من جوع التاريخ

وهو إشارة إلى قوله تعالى: " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف "[2][2]

الخاتمة

الحقيقة لم يكن هذا كل شيء عن الخطابة وأسلوب الشاعر فأنا شخصيا أتعمد حين أكتب عن نص أدبي أو كتاب أن أخفي بعض المعلومات لكي أترك المجال للقاريء الكريم أن يكتشف بنفسه بعض مواضع الجمال في شعر الشاعر فما ينبغي للناقد أن يصادر حرية الكشف والاكتشاف. إن عمل الناقد يشبه عمل الغواص فالغواص يجلب إلينا بعض الدر من البحر والبحر غني بالدر فما علينا إلا أن نغوص لنتنعم بلذة الغوص والكشف معتمدين على أنفسنا هذه المرة

--------------------------------------------------------------------------------

هذا يذكرني بقصة واقعية طريفة حكاها لي أحد اللاجئين إلى أوروبا زمن النظام السابق واسمه حسين يقول في روايته: إن مأمور النفوس البعثي ساله أن يسجل مولوده الجديد صداما ولم يكن هناك أمامه من بد وحين بلغ الطفل ثلاث سنوات أو أكثر سقط في أثناء لعبه مع أطفال الحارة في حفرة عميقة مليئة بالماء القذر فهرع الأطفال إلى والد الطفل وهم يصرخون صدام في الحفرة يقول الرجل ذهبت في اليوم التالي إلى مأمور النفوس وقلت له أقبل يديك غير الإسم لئلا تحدث حادثة جديدة فتكسر من ورائها رقبتي![1][1]

سورة قريش.[2][2]

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com