دراسات نقدية

يحيى السماوي الامتداد العضوي لفخامة القصيدة العمودية

 

عبد الستار نورعلي/ السويد

قالوا بأنّ شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري هو آخر الشعراء الكلاسيكيين بمفهوم الشعر العمودي كما وصلنا من التراث الأدبي العربي على مدى العصور المقسمة على الحقب التاريخية بتسمياتها المعهودة وفق أزمنة الحكم القبلية والسيادة العائلية المتوارثة.

وقد أضافوا بأنه لن يظهر بعدالجواهري شاعر يحملُ لواء القصيدة العمودية بشكلها البنائي الفخم وبما عُرف عنها من المحافظة على نظامها المتوارث من بيت ذي صدر وعجز، ووزن من أوزان بحور الشعر الخليلية بتفعيلاتها، اضافة الى فخامة اللغة وقوة السبك وجزالة الألفاظ القاموسية الأداء المعنوي واللفظي وقِدم الاستخدام، وكذا الحرص على سلامة العلاقات بين الكلمات في الجملة بنحوها وصرفها وبلاغتها وصورها ومضامينها، مع الالتزام بعناصر الشعر التقليدية من خيال وعاطفة وأسلوب وغرض شعري تُبنى عليها القصيدة.

وقد جرى الحديث الى جانب ذلك عما حصل من تطور في شكل القصيدة العربية منذ اربعينات القرن الماضي على يد رواد ما سمي بالشعر الحر، وما أطلق عليه لاحقاً بشعر التفعيلة، ثم لاحقاً ما يُسمى بقصيدة النثر الحالية. هذا التجديد ولّد اتجاهاً رأى أن الشعر العمودي الى انقراض بسبب التطور والتقدم الذي اجتاح ويجتاح العالم وبضمنه عالمنا العربي. وأن هذا التطور حقيقة موضوعية لامفر منها. وهو يشمل كل مناحي الحياة، ومنها الثقافة والأدب كجزء أساس منها .

وعليه فقد نعوا القصيدة العمودية وعزفوا موسيقى جنازتها مع أنها كانت ولا تزال على قيد الحياة تحاول اثبات ذاتها وخلودها وتأثيرها في الناس. وكان الجواهري في العراق بقامته السامقة هو العمود المحافظ عليها مثلما عرفنا عنها بعد غياب العديد من اعلامها. مع أنه كان هناك شعراء يكتبون ويثبتون ذواتهم أمثال عبد الله البردوني. وهنا أذكر الأسماء على سبيل المثال لا الحصر.

وفي الوقت ذاته مع اجتياح شعر التفعيلة وقصيدة النثر الساحة الشعرية العربية والعراقية كانت هناك أسماء تواصل طريق الشعر الكلاسيكي وبجدارة وامكانية عالية وقدرة كبيرة وموهبة داعمة، مثل المرحوم عبد الأمير الحُصيري وعبد الرزاق عبد الواحد وكمال الحديثي، وغيرهم.

وقد كان للحرب العراقية الايرانية التي امتدت ثماني سنوات أثر واضح في استخدام الشعراء العراقيين للشعر العمودي في التعبير للتعبئة النفسية لما لهذا النوع من الشعر أثره في الحماسة والتحفيز (عبد الواحد والحديثي).

في جلسة جمعتني والشاعر الكبير الجواهري في داره الكائنة في اليرموك وفي أوائل سبعينات القرن العشرين، حيث كنتُ على علاقة عائلية بعائلة الشاعر، كان معنا في الجلسة الشاعر علي الحلي ورشيد بكتاش وفلاح بن الجواهري وصهره الصديق أبو رائد عيسى الجواهري. وفي أثناء حديثنا عن الشعر والشعراء ذكر الجواهري الشاعر المرحوم الحصيري الذي كان يزوره في بيته بين الحين والحين بأنه شاعر مرموق ويمكن أن يواصل مسيرة الشعر العمودي كأحد أعمدتها لو اهتم بنفسه وفنه وطوره. فالمعروف حينها عن المرحوم الشاعر القدير عبد الأمير الحصيري ادمانه على الخمر الذي أودى بحياته. وقد ذكرتُ حينها بأني أطلقت عليه اسم (الشاعر الذي ضيّع نفسه) ، وقد سُرّ الجواهري بالتسمية وقال بأني صدقت تماماً. ثم حين عرجنا على الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قال بأنه الأكثر جدارة بحمل لواء الشعر العمودي بعده ولكن لو ترك الشعر الحر. وها أن عبد الواحد قد بلغ الشأو العالي في شعره العمودي كأحد أعلامه البارزين.

ولقد كان لتسيد أصحاب التجديد من الشعراء والأدباء الساحة الأدبية وامساكهم بالصفحات الأدبية في الصحف اليومية والمجلات الثقافية كمسؤولين بيدهم النشر فانهم ضيّقوا على نشر الشعر العمودي لعدم اعترافهم بأهليته في الاستمرار بعد التطورات الأدبية والتجديدات على شكل ومضمون الشعر العربي الحديث. وقد شنوا حرباً لا هوادة فيها ضد هذا اللون، ولذا انحسر أمام هذه الهجمة ليقتصر على النشريات التي تهتم بالتراث.

لكن مع التطور التقني الحاصل في العالم والثورة المعلوماتية وانفتاح مجالات النشر على الانترنيت دون رقيب أو شرطي ثقافي استطاع شعراء العمود الذي لم يتمكنوا سابقاً من نشر نتاجاتهم بحرية واتساع أن يجدوا ملاذاً لكي ينشروا قصائدهم على الملأ لترى النور وتثبت الحضور وتحدث التأثير في الجمهور.

ولقد برز شعراء عموديون كلاسيكيو الهوى والموهبة والاقتدار بما يتطلبه هذا اللون الشعري من موهية حقيقية وامكانيات عالية في الشعر العمودي وتاريخه وقواعده واصوله، اضافة الى تمكن من اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها، واطلاع واسع على تاريخ الشعر العربي وشعرائه، والحفظ لهم. برزوا شعراء كباراً حقيقيين بقدرة مذهلة رفعتهم الى مصاف كبار الشعراء واسماء لامعة ساطعة في تاريخ الشعر العربي بشكله الكلاسيكي. وأصبحوا امتداداً عضوياً له مع عدم تخليهم عن معاصرتهم وما يحدث في هذا العصر من تطورات في الشعر والأدب عموماً.

من هؤلاء الشعراء الذين لمعت أسماؤهم فأخذوا حقهم في التذكير والعلو والاشادة والانتباه والحصول على الجوائز بجدارة وأحقية واستحقاق، فتقاطر النقاد والباحثون على استثمار شعرهم في الكتابة والبحث والحصول على الشهادات العليا، وذلك بسبب غنى وثراء وفضاء شعرهم شكلاً ومضموناً وموضوعات، هو شاعرنا العراقي الكبير المتألق يحيى السماوي.

إن المتابع لشعر السماوي يجد عنده المحافظة الصارمة على شكل القصيدة العمودية بشروطها الفنية من خيال وعاطفة متأججة واسلوب راقٍ يحافظ على السلامة اللغوية والجزالة اللفظية والفخامة التعبيرية والشكلية المعتمدة على الوزن والقافية واللغة السليمة الحريصة على النحو والصرف والبلاغة العالية التأثير. وللعلم فإن شاعرنا الكبير يكتب أيضاً شعراً حراً (شعر التفعيلة) مع المحافظة على الوزن والقافية والجزالة وقوة السبك والمبنى اللغوي.

يتناول شاعرنا الكثير من الموضوعات بجمالية عالية التأثير من خلال خيال خصب ولغة جميلة جزلة فخمة الايقاع ووزن يتناسب مع المضمون. تناول الحنين الى الوطن، ومعاناة الغربة، مقارعة الاحتلال والفساد السياسي، الدفاع عن الوطن والأمة. ومن أجمل ما يمكن أن نقرأ له هو الغزل أيضا. ففي غزلياته نجده فتىً غِرّاً مليئاً بالعاطفة الحارة الملتهبة حد الرغبة الجامحة المندفعة. فلو لم نعرف أنه كهلٌ اشتعل رأسه شيباً لقلنا نحن أمام صبيٍّ فتنه العشق وسلبَ لبهُ الغرام وأشعلَ صدره الهيام فأهاج بلابله.

إنه الشاعر الكبير يحيى السماوي المواصل خط عالم وفن عمود الشعر، مع انه مجددٌ فيما يستخدم من مضمون وشكل يتسم كثيراً بالرقة في اختيار اللفظة، وبالحديث في تناول المضامين. وفي كل ذلك تسعفه موهبة فذة وشاعرية متألقة وثقافة تراثية غزيرة وتمكن من اللغة كبير. وشعره واسع لا تكفيه هكذا عجالة في التناول.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com